إلى حنّة روزنفيلد، لؤلؤة أشعّت ثم اندثرت. لا أذكر من أيّام الإثنين غير المطر الخدّاع وإجهاد الإدارات العمومية، ومن ليالي السّبت ضغائن الرّوح وسرائرها الملتوية حول أعناق الأعمار. من الجّنة نزلت العصا، والحنّاء منقوشة في يدها، وتفّاحة الحناجر تُنشِد ثورة خسئت، ومن جهنّم يهفِتُ وابل صخور كدبّابة تدُكّ تربة المجرّات اليتيمة، وتُلبّد الأرض للسّائرين والنّاظرين. سيروا حتّى تنظروا، حيارى إنْ لم تفعلوا، فالبطحاء للخاسرين يمشونها حتفاً مقضيّاً. اعتدتَ السّفر وحيداً، تسكتُ إن شئتَ، وتسلك طرائق الغزل لمواربة الضّجر، إذا ما أعياكَ الأرق أو عنفوان الجمال؛ تطالع الكتب وعيون شقراواتٍ في العشرين وتتعقّب بنظراتك الواثقة أخريات تنضحن إثارة، رغم تقلّب السّنين. المسافة بين مطار "شونفيلد" وحيّ "كورزبيرغ" محفوفة بالرّماد والرّذاذ، والأعشاب هابطة على جوانب السكة الحديدية، كما لو أنّ الحلفاء قد قصفوا قبل حين. ما زلتَ جالساً عند المقعد المحاذي لبوابة الخروج، تسرق بعض الكلام من حوارات العابرين وتتفحّص بأنف العارف عطوراً لم تعهدها على جلد الفرنسيات والمغربيات. أسمعكَ تتأكّد بألمانية ركيكة: معذرة آنستي، هذه ليست ماركة تباع عند "شانيل" ؟ تمازحكَ بالنّفي وتبادرك بالكلام. تخاف، هي الأخرى، من هذا الرّداء الذي تكتسيه السّماء، لون رمادي يغري بالعناق والمشي في ميدان ألكسندر. لكنّها تكره الرمادي، ترسم بالألوان النّاصحة، لذلك تزور الجنوب وتحبّ الغرباء أمثالك. لم أسافر هذه المرّة لوحدي. أنظرُ إلى ماري الجالسة جنبي وأستفسرها عن أسماء بعض البنايات الواقفة وعن نهر يشطر المدينة مثل جدار تحطّم. أسألها أيضاً عن نيكولا، رفيقها وصديقي، فتردّ مبتسمة: "سيكون سعيداً برؤيتك مُجدّداً. اللّيلة نتناول طبخاً شرقياً في مطعم لبناني، على شرفك". لم أشعر بالبرد، كما في فرنسا، كنت منتشياً بسماع لغة قد تكون هي لغة فلاسفة وأدباء لطالما أعجبت بهم وتابعت أعمالهم: هيدغر، فيتغنشتاين وكافكا، وغير كافكا. يعرف الألمانيون نيتشه جيّداً، بيد أنّهم لا يقدّرونه بالشّكل الذي ظننت، ربّما لأنّه تنبأ بسذاجة بلغوها اليوم أو لأنّه هاجم كلّ شيء فيهم، عقولهم وتربيتهم، بسخريته المعهودة. وفي ذلك أخطأ التقدير، فللألمان حميمية تنقص حتّى المتوسطيين بجلالة شمسهم. قضيت النّهار الموالي بمعيّة غازي، صديق سويسري من أصول فلسطينية، تحدّثنا عن عرفات ودرويش وتسكّعنا في "فردريشتراسيه" قبل زيارة بعض الزّملاء من الصحفيين والموسيقيين. إلتقيتها أخيراً، الفتاة التّي رأيت في الحياة الأخرى، أصادفها في هذه الدّولة الغريبة. أخطأت الطّريق إلى ساقية الشّراب الشّقراء، نظرت إلى عينيها المتلألئتين وسحنتها البرّاقة، خِلتها كرديّة أو تركيّة. تبادلنا الحديث نصف ساعة لا أكثر، وقبّلتني. لامستُ بشرتها الفوقيّة وضممتها إليّ سيلاً من اللذات والمعارف الخالدة. كانت الحانة ضاجّة بالشبان الألمان، والزّمن مشنوق في القبو، والموسيقى التجريبية المُهلوسِة، لا هادئة ولا صاخبة، تفتح فكرك على مشاهد من أرشيف المعهد الوطني السمعي-البصري بفرنسا: فيلم وثقافي عن رايات الجيش الأحمر وأشلاء قوة الدفاع النازية في معركة ستالينغراد وصورة هيتلر رافعاً رأسه، رفقة النحات "بريكر" والمعماري "سبيير"، عند برج إيفيل ولقطات تدمير برلين. لم يخرج الفرنسيون من الجزائر إلاّ بعد مُضيّ سبعة عشر عاماً من اندحار دول المحور / واحد وعشرون سنة، عمر شيماء، ولم يستقل قلبي عن عشق تلمسان. لا تظهر آثار الحرب إلاّ على المهزومين، والمهزومون طيّبون، أنا واحد منهم، يحتفون بالآخر، ويحترقون أمامه مودّة وحقداً. فالضّيافة مأساةٌ تحاكي العنصرية في شروط عنفها، وهي مشكلة روما والعالم اللاّتيني وحده، أثينا ما تزال تستقبلنا، مثل مكّة تماماً. لذلك أعتقد أنّي الآن إنسان حرّ، بالمعنى المحمّدي، وأينما وُجد أناس أحرار لا يمكن أن يكونوا إلاّ أحفاد مكّة وأبناء برلين، لا شجرة للبنوة هناك، أقولها بجدية أمريكية، كما في خطاب الرئيس المغدور: " Ich bin ein Berliner". رجعت إلى باريس عبر مطار "أورلي"، أخذت الحافلة إلى ساحة "دونفير-روشرو" ولمحت عند الصّيدلية رفيقة سابقة، ارتجفت قبل أن تعقّب أثرها على طول شارع "آراغو"، لكن سرعان ما تعبت وعدت إلى محطّة الأنفاق: رائحة البول مجدّداً، ونفاق النظرات والقهقهات المصطنعة. ما تعلّمته في برلين خلال أيّام قليلة، لم أعشه رفقة الفرنسيين طوال فترات متقطّعة أمضيتها بينهم. تسحرك هذه المدينة بنسيم الحرب القديم ورائحة الفحم في الهواء والقناطر الإسمنتية الضّخمة ودفء النّاس على اختلاف مستوياتهم والحانات الهائجة المائجة، ليل نهار. ما عدت أبكي فراق الأحبة بقدر ما أحزن للرّحيل عن الأمكنة: فاس وبوردو وسوسة وعاصمة الجزائر، والآن برلين. يا حياتي، كم يلزمني من المطارق والمدافع لكي أهدّ كلّ هذا الحنين الطفولي؟ لكنّ حنّة وعدتني بالمجيء، رغم قلّة المال وكثرة الأشغال، أخبرتني أنّها ملزمة بحضور حفل زفاف في القدس، وبعدها تعود لكي تحضنني إلى صدرها. من جهتي، طلبت منها بعض الحنّاء على اليد، وأقسمتُ أن أرجع لأرى أيّام برلين الرّمادية في عيونها الخضراء. ولي نُذر الخائف من التّاريخ، يجب أن أزور قبر هيغل ومدافن اليهود وأطلال النّازيين والسوفيات، قبل أن تحطّمني أحشائي الدّاخلية. صفحة الفيسبوك: https://www.facebook.com/Ayoub.elmouzaine