في الزمن الجميل، كانت السينما بفن من الفنون الجميلة تحمل عمقا في موضوعها ورسالة إصلاحية في جوهرها، ترصد الظواهر المجتمعية بسلبياتها وإيجابياتها، في قالب يمزج بين الواقع والخيال، ويهدف إلى توعية المجتمع بضرورة تجاوز الظواهر السلبية وتعزيز الإيجابية منها.. أما اليوم في زمن الردة الأخلاقية، أصبحت السينما مجالا لتنميط الذوق وإفساد الأخلاق، حيث أصبحت حرية الإبداع عند البعض تعني الانحلال والانفلات الأخلاقي، حاملين شعار "تكسير الطابوهات والمحرمات"، حتى غدت الإباحية العنوان البارز في السينما المغربية، لأن بعض المنتجين والمخرجين سامحهم الله، أصبح هاجسهم الوحيد هو جني الأرباح وحصد الجوائز، وولا غرابة في تسجيل كثافة الإنتاج السينمائي على حساب الجودة، بعد أن صار التنافس منحصرا بين المخرجين حول من يقدم عملا أكثر تصادمية مع القيم الأخلاقية للمجتمع.. حال السينما المغربية يرثى له بعد أن غرقت في السطحية والنمطية السمجة، حيث يصرّ عدد من المخرجين على تقديم صورة مشوهة عن الواقع المغربي، بتناول الظواهر السلبية بأسلوب يفتقد إلى الإبداع، ابتداء من اللغة "السوقية" المستعملة، إلى الاستخدام العشوائي للمشاهد الخليعة. هذا التردي الذي تشهده السينما المغربية، طبع عدة أعمال خلال العقد الأخير، وهي تعبر بشكل صارخ عن الرداءة والردة التي استشرت في مجال الإبداع الفني، ومن بين هذه لأعمال الفيلم الأخير للمخرج نور الدين الخماري"زيرو"، الذي هو نسخة مكررة لفيلمه السابق "كازانيغرا"، حيث الخلاعة واللغة الساقطة هي العنوان البارز للفيلم. وقد أثار الفيلم انتقادات واسعة في المجتمع، لاعتماده على لغة منحطة تنهل من قاموس المنحرفين.. بل واعتبر البعض أن المخرج يعتمد الإثارة المجانية كأسلوب مفضل لديه لاستقطاب جمهور واسع، لحصد عائدات مادية كبيرة، وذلك على حساب الإبداع الفني الجمالي، وهو بالفعل ما تؤكده أرقام "البوكس أوفيس" المغربي، حيث جاء "زيرو" في المرتبة الثانية بعد فيلم "الطريق إلى كابل" من حيث الأرباح، وهو ما يؤكد أن الهاجس التجاري كان حاضرا بقوة لدى المخرج. وفي محاولة منه لامتصاص الانتقادات، أكد مخرج الفيلم أن " فيلمه يمثل نوعا من العلاج بالصدمة، ويحمل الناس على التأمل في أوضاعهم بشفافية وتجرد، ومواجهة اختلالاتهم وعيوبهم بجرأة، والكف عن إخفاء رؤوسهم في الرمال". ربما يجهل المخرج أن فيلمه لا يعالج شيئا.. وإنما ينقل الجزء المظلم من الواقع المغربي بطريقة فجة تفتقد إلى الإبداع الذي يقوم على أساس المزج الذكي بين الواقع والتخييل الفني، بما يجعل العمل السينمائي لا يسقط في استنساخ الواقع بكل تفاصيله، الأمر الذي أفقد الفيلم أية قيمة مضافة تفرضها رسالة الفن. من دون شك أن الخماري يدافع عن "فن" هاجسه الوحيد، ليس العلاج وإنما التمريض والتنميط لذوق الجمهور، لأن الظواهر السلبية التي يدعي المخرج معالجتها يعلمها الجميع، ولا فائدة ترجى من استنساخها بطريقة سطحية في عمل سينمائي.. كما أن سعي المخرج لتسليط الضوء فقط على الجوانب المظلمة، هو تكريس للظلام والسوداوية.. وإذا كنا نريد تقديم فن حقيقي يعالج قضايا المجتمع بطريقة فنية راقية، فإن المطلوب الاشتغال على أعمال تستدعي الجوانب المشرقة فيه، تحفيزا للناس على استلهامها في حياتهم، وحتى عند التعاطي مع الظواهر السلبية، يجب عرضها بطريقة تحترم ذكاء المشاهد، بحيث تعتمد على الإيحاء والإشارة بدل الأسلوب الفضائحي.. وإن المتابع للسينما المغربية يلاحظ أنه منذ ظهور هذه النوعية من الأعمال الرديئة، لم تزد إلا في تعميق وتجذير الظواهر السلبية في المجتمع، بل كرست نمطية مقيتة وأفسدت الأذواق، حتى أصبحت مثل هذه الأعمال تلقى رواجا في أوساط الشباب بشكل خاص، لأنه لا يجد غيرها في الساحة الفنية. طبعا هذا النقد سيعتبره مخرج أخلاقي وغير مهني، على غرار ما يدندن به بعض المخرجين والفنانين الذين يروجون لخطاب إيديولوجي، يسعى ليُبقي المجال الفني حكرا على الفكر العلماني التغريبي، الذي يعتبر الأخلاق قيد يحدّ من حرية الإبداع.. والحقيقة أن المجال الفني عندما فصله العلمانيون عن الأخلاق، أصبحنا نشاهد مثل هذه الإنتاجات الرديئة تطفو على السطح، وغُيّبت الرسالة التنويرية للفن. المشكلة عند لخماري أن صدره لا يتسع للنقد، سواء صدر عن كاتب متابع أو عن ناقد سينمائي، حيث إنه لم يتمالك نفسه أثناء مشاركته في برنامج "مباشرة معكم" على القناة الثانية، وقام بالتهجم على الناقد مصطفى الطالب، عضو الجمعية المغربية لنقاد السينما وعضو لجنة دعم المهرجانات السينمائية، لأن الناقد اعتبر استعمال لغة نابية لا يخدم الفيلم في شيء، فرد عليه الخماري بعنف واعتبر رأيه رجعي وصاحبه شبه ناقد لا يفقه في السينما.. وعلى إثر هذا الاتهام، عقب الناقد مصطفى الطالب بما يلي: "أدليت للقناة بتصريح نقدي بخصوص الأفلام المغربية التي تستعمل لغة ساقطة و كلاماً نابياً، تحدثت بصفة عامة ولم أخص عملاً بعينه ، وقلت أن الكلام النابي لا علاقة له بالإبداع، وأنه يقحم أحياناً عنوة ولا يوظف بشكل سليم، ولذا استنكر بشدة اتهام المخرج نورالدين لخماري لي بقوله إنني " خطير(مرتين)، ورجعي و لست ناقدا بل شبه ناقد" خلال البرنامج الذي بث على القناة الثانية والتي خصصت لموضوع الفن بين حرية الإبداع والفن النظيف، وأستهجن هذا الأسلوب اللاحضاري و اللامهني واللاديمقراطي...". ولعل هذا السلوك غير الحضاري الذي عبّر عنه لخماري في رده على الرأي المخالف، لخير تعبير عن الخلفية الفِكْرية والأخلاقية التي تقف وراء إخراج "الزيرو"، والتي لا تؤمن بقيم الاختلاف وحرية الرأي، وإنما تريد فرض رأيها وفكرها على المغاربة من خلال تسويق أفلام هاجسها الوحيد الربح وازدراء قيم المجتمع.