صحيح أن الملك في المغرب يحرص على صورة الملك الانسان أو "ملك الفقراء"، وصحيح أنه يقوم بأعمال تقربه من الكثير من الفئات الشعبية، من قبيل أعمال الخير، والاهتمام بالأرامل، وقيادة سيارته بنفسه والتوقف في الإشارات الضوئية، وتدشينه لمشاريع التنمية وهو في حالة المرض. إلا أن هذه الأعمال تبقى في حكم العمل الروتيني التي يسعى كل رؤساء وزعماء الدول إتيانها محبة التقرب إلى الجمهور، ويستوي في هذا الأمر الرؤساء والملوك، كما لا يتميز في هذا الأمر رؤساء الدول الديمقراطية عن زعماء الدول الاستبدادية، وإن كانت الأخيرة تتسم بالمبالغة والشعبوية. غير أن ما يميز الدول الديمقراطية، بغض النظر عن الأعمال الشعبوية التي يقوم بها الرؤساء، أن القاعدة القانونية عامة ومجردة ولا تستثني أي مواطن أكان رئيسا أو مرؤوسا، غنيا أم فقيرا، ممتلكا للسلطة أم مسجونا. فالقانون في هذه البلدان لا يعفي رئيس الدولة أو الوزراء من أداء ضرائبهم شأنهم شأن سائر المواطنين، بل إن من شروط الترشح للانتخابات الرئاسية أو إلى أي منصب آخر أن يكون المرشح خال الذمة من أي ديون وضرائب. فقصص استقالة الرؤساء أو رؤساء الحكومات في هذا المجال متعددة ومتنوعة؛ فهناك رؤساء استقالوا لشبهة تهرب ضريبي، وهناك آخرون استقالوا لعدم دفعهم مقابل كوب عصير، ومنهم من يحاكم اليوم بشبهة التوسط من أجل توظيف قريب (جاك شيراك). ما نود التوكيد عليه من خلال هذه التمهيد، هو أن دولة القانون التي ترفع كشعار بين الفينة والأخرى، لا بد وأن وتتجسد على أرض الواقع وأن يسري مفعولها على الجميع، بدءًا من رئيس الدولة وانتهاء بآخر فرد في المسؤولية أو الوطن، وعندما نقول بدءًا من رئيس الدولة فإننا لا نعني بذلك مجرد شعار كغيره من الشعارات التي ترفع أثناء التعبئة العامة، وإنما مقصدنا أن القانون، لكي يتصف بالعموم والتجرد والحجية، يجب أن يبدأ من الذي يوقع على قرار تنفيذه. وبالعودة إلى السؤال الذي عَنْونا بها مقال الرأي هذا، فإننا لا نزعم الاحاطة بالجواب كلية، وإنما الذي يستطيع أن يحسم في الأمر، هو وزارة المالية المغربية، وتحديدا السيد وزير الميزانية، الذي يمتلك البيانات الكافية لتوضيح الأمر. و بهذه المناسبة ألتمس من السيد الوزير بما ان الدستور يضمن الحق في المعلومة بأن يقدم للشعب المغربي معلومات كافية عن القائمة المدنية المخصصة للملك حسب الفصل 42 من الدستور؛ فما يتيحه لنا قانون المالية هو أن القوائم المدنية تتجاوز 26.292.000 درهم، لكن لا نعلم ما إذا كان هذا الأجر يخضع للضريبة على الدخل كما هو شأن باقي المأجورين؛ كما يمكننا قانون المالية من رقم 517.164.000 درهم المخصص لمصاريف السيادة، لكن لا نعلم ما إذا كانت هذه المخصصات تخضع لرقابة المجلس الأعلى للحسابات؟ فبما أن الأخير تناط به مهمة مراقبة جميع مسالك صرف المال العام، فهل يخضع القصر بخصوص ميزانيتي التجهيز والاستثمار لرقابة المجلس؟ هذه الأسئلة نطرحها ليس لمجرد الاستنكار وإنما من أجل المعرفة والاحاطة علما. كما نلتمس من السيد وزير المالية تقديم لائحة بالذين لا يؤدون ضرائبهم لخزينة الدولة، على غرار لوائح وزراء: التعليم العالي، والتعليم والنقل...، رغم علمنا بأنه ليس بمقدوره أن يُلزم من عينه بأداء الضرائب، إلا أن كشفه للائحة غير المؤدين سيمكن المغاربة من التمييز بين المسؤول الذي يلتزم بالقانون وبين المسؤول الذي لا يتلزم بالقانون. قد يعترض علينا البعض بقوله: ما دمت لا تتوفر على هذه المعطيات فلماذا المقال إذن؟. وإلى هؤلاء نقول: بأن مدخلنا في هذا المقال ليس قانون المالية أو المعطيات الحسابية، رغم أهميتهما، ولكن مدخلنا هنا هو مدخل قانوني. فعلى الأقل نحن نتوفر على معطيات قانونية تمكننا من ملامسة جزء من السؤال، وهو المدخل المتعلق بالضريبة الفلاحية. فالمعروف لدينا في المغرب أن الفلاحين، كبارا كانوا أم صغارا، لا يؤدون الضرائب، وبما أن الملك إلى جانب كونه رئيسا للدولة، فهو أيضا من كبار المستثمرين، فهو فاعل في المجال الاقتصادي والبنكي والفلاحي والصناعي...، ويعد من أثرياء البلد ومستثمريه. ولأن الملك فاعل في المجال الفلاحي، فإنه يمتلك الضيعات الفلاحية ويستثمر في المجال الفلاحي والصناعة الغذائية من خلال شركات فلاحية هو مساهم أساسي فيها، وهو ما يفيد أنه أول المستفيدين من قرار الإعفاء الضريبي للفلاحين. فكم خسرت خزينة الدولة من موارد مالية جراء هذا الاستثناء؟ ولأن الضرائب هي المورد الأساسي لخزينة الدولة، فإنه لا يعقل أن يُستثنى منها أي مواطن مغربي نحن هنا لا نقول بأن الملك (أو شركاته) يخالف القانون ولا يؤدي الضرائب الفلاحية وإنما قصدنا بأن الملك هو أول المستفيدين من قرار أصدره بنفسه (لا نقصد ب "بنفسه" الملك الحالي، وإنما الملك الراحل عبر ظهير 21 مارس 1984). ولتوضيح الأمر لابد من إطلالة جزء من حيثيات هذا القرار. فلقد حاول أحد الوزراء السابقين فرض الضريبة على الفلاحين في بداية الثمانينيات، لكنه فوجئ ب «انتفاضة» قوية من كبار الفلاحين، تمثلت في مسارعتهم نحو الحسن الثاني طالبين منه تمتيعهم بالإعفاء الضريبي، وهو ما تحقق لهم دون عناء عبر ظهير 21 مارس 1984 المتعلق بإعفاء المداخيل الفلاحية من جميع الضرائب المباشرة إلى غاية سنة 2000، وتم تمديد هذا الإعفاء إلى غاية 2020 قبل أن يتم تقليص هذه المدة إلى 2010، ليتم بعد ذلك رفعها مرة أخرى إلى غاية 31 دجنبر 2013 (نشير إلى أن الحسن الثاني كان عضوا في الاتحاد المغربي للفلاحة، وبالتالي كان أول المستفيدين من الإعفاء). الأهم من كل هذا أن هذا الإعفاء لا يميز بين أمرين أساسيين: الأول يتعلق بعدم الفصل بين الإنتاج الفلاحي الأولي، الذي قد يحتاج دعما مشروطا، والصناعة الفلاحية، التي تلعب المكننة الدور الرئيسي فيها والتي ينتهي فيها النشاط الفلاحي الطبيعي، إذ يصبح تدخل عامل خارجي في تحويل النشاط الفلاحي إلى نشاط صناعي كما هو الشأن بالنسبة إلى تربية الدواجن بطريقة عصرية أو خزانات تبريد المحاصيل الزراعية بغية التحكم في السوق؛ الثاني شموله جميع الفلاحين دون تمييز بين الفلاحين الكبار الذين عادة ما يمثلون رؤوس أموال سياسية أو شركات كبرى وطنية وأجنبية، وبين الفلاحين الصغار والمتوسطين الذين يمكن تبرير رفع الضرائب عنهم بالرغبة في دعمهم وتشجيع الاستثمار المنتج لمناصب الشغل. اليوم، وبعد أن تأكد الجميع من أن سياسة الإعفاء الضريبي للفلاحين الكبار لم تحقق أية نتائج إيجابية (فصلنا في هذه النقطة في مقال سابق بعنوان "الاعفاء الضريبي للفلاحين الكبار يناقض دولة القانون")، إذ بعد ثلاثين سنة من الإعفاء لم تحقق الأهداف المرجوة منها، كزيادة الاستثمارات بصفة مكثفة في هذا المجال وعصرنة طرق الإنتاج وتحسين المردودية وتعزيز تنافسية الفلاحة المغربية على الصعيد الدولي، بما في ذلك المخطط الأخضر المحتفى به، والذي لم يزد الوضع إلا تأزما. نقول بعد هذه النتائج، لا بد من تدارك الأمر وتحميل جميع المغاربة نفقات تسيير الدولة، إذ لا يعقل أن يقتطع من أجر العامل الصغير في ضيعة فلاحية، في الوقت الذي يعفى فيه صاحب الضيعة من أداء الضريبة، ولا يجوز أن يُلزم المواطن البسيط بأداء كل مستحقاته، في الوقت الذي يعفى فيه رئيس الدولة من الضريبة على كل ممتلكاته. لاحظنا إذن، أن المدخل القانوني مكننا من ملامسة أحد أطراف الموضوع، رغم أن الكثير من أساسياته لم يشملها أي بحث، حسب علمنا. فنحن لا نتوفر على بيانات أو دراسات من شأنها توضيح ما إذا كان الملك، بصفته مواطنا ومالكا ومستثمرا، يخضع للقانون الضريبي، ويؤدي ما بذمته لصالح خزينة الدولة. فما اوصلنا إليه التحليل القانوني حتى ألان، هو أن الملك شأنه شأن جميع الفلاحين، لا يؤدي الضرائب الفلاحية. أم هل يؤدي الضرائب المالية والصناعية فذلك موضوع لا نستطيع الجزم فيه. وما يسهم في تكريس هذا الوضع، هو أن القصر لا يقدم بيانات عن أنشطته المالية، بخلاف باقي الأنظمة السياسية. فبالأمس القريب خرج القصر الاسباني عن صمته وأعلن ذمته المالية، بل وطالب الملك بان تشمله سياسة التقشف وان يقتطع من أجره وأجر ولي عهده نسبة 7.1 في المائة. إن المدخل الضريبي اعتُبر في أكثر من تجربة سياسية، جانبا محوريا في الإصلاح الديمقراطي والسياسي والاقتصادي، خاصة فيما يخص إلزام الزعماء بأداء الضريبة، ومراقبة تصرفاتهم المالية. وربما يفيدنا في استجلاء الأمر، التذكير بالقصة المشهورة للديمقراطية البريطانية ودور الإصلاح الضريبي في الاسهام فيها. فهذه الديمقراطية التي يضرب بها المثال، يعود الفضل لولادتها علاوة على أمور أخرى لإصرار البرلمان البريطاني على مراقبة ميزانية القصر الملكي، وإلزام ساكنه بأداء ضرائبه على غرار سائر مواطنيه. وهو ما شكل حلقة صراع بين القصر والملك، انتهى بإذعان الثاني وانتصار الأول. وكانت النتيجة لصالح الدولة البريطانية، حيث تم تجنيبها ثورة الدموية كما حصل في فرنسا، التي ما فتئ ملكها يستهزئ بشعبه (الرعايا) ويردد على أسماعهم "أنا الدولة والدولة أنا". في انتظار أن يكشف وزير الميزانية للشعب المغربي، عن لائحة الممتنعين عن اداء الضرائب، فإن البرلمان، الذي انتًخب من أجل محاربة الفساد، مدعو إلى إصدار تشريع يلزم الجميع باداء الضرائب، ويقطع مع الفساد المالي. كما يُرجي من السيد رئيس الحكومة، إذا أراد أن يسترد هيبة الدولة، أن يطبق القانون على الجميع، وأن يبدأ بنفسه ومن هم أعلى منه سلطة. [email protected]