مدخل تقعيدي: في علاقة الشرعية بالمشروعية هل غياب الشرعية أو نقصانها تمنع من تناول مشروعية قرارات من ليس له شرعية بالنقد والتمحيص؟ الشرعية السياسية تنال برضا الشعب ويتم ذلك عبر إقرار تعاقد حر لا يدخله إكراه ولا إجبار لا في شكله ولا في مضمونه، وعبر انتخابات حرة ونزيهة وديمقراطية، هذان هما ركنا الشرعية السياسية للحكم. أما المشروعية السياسية فهي مرتبط بمدى امتثال الكل للقانون المعمول به بغض النظر عن مصدره وعن طريقة تشكيله، وبهذا المعنى قد يكون قرار رسمي ما مشروع من ناحية تمثله للقوانين المعمول بها لكن غير شرعي من ناحية مصدر إصداره، كما أنه قد يكون شرعيا لكنه غير مشروع، والغاية المثلى أن تكون القرارات الرسمية شرعية ومشروعة. على هذا الأساس فالذي ينتقد قرارا للدولة أو للحكومة قد تكون وجهة انتقاده تنبع من شرعية القرار أي الإحالة إلى شرعية مصدره وهنا يكون الحديث عن لا ديمقراطية الدستور أولا ديمقراطية الانتخابات التشريعية التي ليس فيها شروط النزاهة والحرية والديمقراطية، كما قد تكون وجهة الانتقاد تنبع من مشروعية القرار، أي الإحالة إلى مدى امتثال القرار للقوانين المعمول بها بغض النظر عن شرعيتها. وفقهاؤنا السلف عالجوا مشكل استمرارية السلطة برغم عدم شرعيتها بثنائية الشرعية والمشروعية، ففي قبولهم للضرورة ب"إمامة الغلبة" التي تنتهي بانتفاء شروطها الإكراهية رغم عدم شرعيتها، ضمان لاستمرارية السلطة، لكنهم في نفس الآن يفتون وينتقدون سلوكات هذه السلطة ويأمرونها بإنفاذ الأحكام وبتطبيق العدل وبأن تكون قراراتها خادمة للعدل وللشريعة. هذه ثنائية قليل من يستطيع استيعابها في تحليله ومنظوره الإصلاحي، وينجم عن ذلك تفرق بين تيارين حديين، من يرفض أية شرعية منقوصة أو منعدمة و يستتبعها بعدم الدخول في مناقشة المشروعية ولو غابت الشرعية، ومن يقبل بهذه الشرعية ولو كانت منقوصة أو منعدمة وبالتالي يستتبعها بقبول مشروعية قراراتها دون نقد لها. في حين العدل يقتضي مقاربة تركيبية بين الاستمرار في رفض وتقويض هذه الشرعية المنقوصة أو المنعدمة والعمل على تقويمها حتى تكون كاملة، وبين الخوض في تفاصيل قراراتها وتفكيك بنيتها الداخلية من خلال الدندنة على معيار المشروعية في نقد قراراتها النافذة بقوة بغض النظر عن شرعية مصدرها. استدعينا هذه المقدمة التوضيحية كي نحرر القول في ما جرى لحزب الأمة على إثر المقرر القضائي الاستئنافي الذي ألغى حكما ابتدائيا كان لصالح المسار التأسيسي لحزب الأمة، وحينما نناقش هذا المقرر فمن باب مشروعيته أي من باب التزامه بالقانون لأن القضاء في الأصل يقول القانون ولا يتعسف عليه. أولا في لا ديمقراطية القانون التنظيمي للأحزاب السياسية فبغض النظر عن نقاش لا ديمقراطيته من وجهته المسطرية سواء من حيث مصدرية تشريعه هذا القانون الذي هو البرلمان الذي جاء على إثر انتخابات تحت ظل دستور غير ديمقراطي شكلا (لجنة لوضع مشروع الدستور معينة من طرف الملك وليست منتخبة)، ومضمونا (يؤسس لنظام الملكية التنفيذية التي يسود فيها الملك ويحكم في غياب إعمال المسؤولية والمحاسبة لكل من له سلطة فعلية)، وكانت انتخابات افتقدت للمستند الشعبي حيث أن نسبة المشاركة فيها كانت 45% من المسجلين في اللوائح الانتخابية حسب الإحصائيات الرسمية، ناهيك عن أن ما يقرب من نصف المغاربة البالغين سن التصويت غير مسجلين في اللوائح الانتخابية، فإننا نسجل على هذا القانون التنظيمي المتعلق بالأحزاب السياسية ملاحظات جوهرية في مضمونه: الملاحظة الأولى: أنه حرم الحق في تأسيس أحزاب سياسية للملايين من المغاربة حيث اشترط من المؤسس أن يكون مسجلا في اللوائح الانتخابية، ومعلوم أن ما يقرب من نصف المغاربة المؤهلين للانتخاب غير مسجلين في اللوائح الانتخابية مما يعني إقصاؤهم بالقانون من حق مشروع كفلته كل المواثيق الدولية ألا وهو الحق في تأسيس حزب سياسي فالمادة 5 من هذا القانون تقول في معرض حديثها عن شروط المؤسسين: " يجب على الأعضاء المؤسسين والمسيرين لحزب سياسي أن يكونوا ذوي جنسية مغربية، بالغين من العمر 18 سنة شمسية كاملة على الأقل ومسجلين في اللوائح الانتخابية العامة ومتمتعين بحقوقهم المدنية والسياسية، كما يجب على الأعضاء المؤسسين والمسيرين أن يكونوا حاملين للجنسية المغربية وغير متحملين لأية مسؤولية سياسية في دولة أخرى قد يحملون جنسيتها"، هذا إذا أضفنا إصرار الدولة على عدم اعتماد البطاقة الوطنية تلقائيا في التسجيل في هذه اللوائح الانتخابية، وإذن هذا القانون بهذه الشروط يعيب في المواطنة الكاملة لكل مغربي راشد بغض النظر عن تسجيله في اللوائح الانتخابية أم لا. الملاحظة الثانية: أنه أحال عملية الإشراف على تأسيس الأحزاب السياسية من بدايته إلى نهايته إلى وزارة الداخلية، وترك أمر إحالتها ملف تأسيس حزب معين على القضاء رهين بسلطة تقديرية في عرقلة مسار التأسيس أو تيسيره، فإذا تأسس الحزب على رضا من الحاكمين ووفق مقاسهم، جاز لهؤلاء القائمين على تدبير هذا التأسيس من داخل دواليب وزارة الداخلية أن لا يدققوا في بعض الشكليات التافهة، وإذا كان الحزب غير مرغوب فيه وفي مشروعه لأنه اختار أن يولد حرا وبشهادة ميلاد حقيقة، جاز لهؤلاء أن يسبروا أغوار هذه الشكليات ويقفوا على النقطة والفاصلة في جمل القانون وتعبيراته مرتبطين بفهم خشبي وشكلي له على حساب الجوهر والغاية منه ويعتبروها مبررات معقولة لإحالة الملف على القضاء من أجل رفض التأسيس أو إبطاله، إذ القانون في آخر المطاف تعبير عن حق، وهو سيد الحق ويأتي ليضبط هذا الحق لا ليقيده ويمنعه. مما يجعل من هذا القانون لا يعكس هذه المواطنة كاملة، فقد يكون الحزب حقيقا في الواقع الملموس بقواعده وقياداته ومواقفه وتواجده في مختلف أرجاء البلاد لكن قد تأتي شكلية تافهة ما فتلغي عضوا مؤسسا ب"شحمه ولحمه" ووجوده ورغبته في التأسيس وإرادته في الانخراط في العمل السياسي واختياره الحر لجهته السياسية. إن كان هذا القانون جاء ليقطع مع التأسيس الوهمي لحزب مفترض ليس له وجود فعلي، فقطع الشك باليقين من خلال إقراره بهذا التوزيع الجغرافي لتواجد الحزب الذي أكد عليه هذا القانون بغض النظر عن شروط المؤسس، فهو أيضا فسح المجال لمنفذيه بأن يأتوا بتفاهة ما على الورق لتلغي إنسانا في الميدان أو حزبا كاملا في الوطن. (انظر المواد 6 ،7،8، 10، 12، 13 من هذا القانون) الملاحظة الثالثة: وهذه السلطة التقديرية لوزارة الداخلية التي تحدثنا عنها تجعل من القانون يعتمد ضمنيا مبدأ الترخيص عوض التصريح بالتأسيس، إذ إذا كانت وزارة الداخلية تتمتع بسلطة الإحالة على القضاء سواء في المرحلة الأولى للتأسيس أثناء إيداع ملف التأسيس (المواد 7و8)، أو في المرحلة الأخيرة بعد انعقاد المؤتمر التأسيسي (المادة 13)، فلماذا لا تحال عملية الإشراف على التأسيس على القضاء مباشرة دون وسيط لوزارة الداخلية؟ ثانيا في نازلة حزب الأمة ومحنته مع التأسيس أمامنا نموذج حي لمنتوجات القانون التنظيمي المتعلق بالأحزاب السياسية، فحزب الأمة تعرض لعملية ممنهجة في عرقلة تأسيسه من خلال إحالة ملفه على القضاء وهو الذي وفى بكل إجراءات وشروط التأسيس من حيث الوثائق التأسيسية للحزب وعدد المؤسسين ومرفقات الوثائق المتعلقة بهم، وسبب الإحالة ارتكز على ادعاءين أساسيين: -انتهاء مدة صلاحية بعض الوثائق الإدارية المقدمة للمؤسسين، -عدم التزام مشروع النظام الأساسي للحزب ببعض مقتضيات قانون الأحزاب السياسية. وبعد أن أنصف الحكم الابتدائي الحزب ورفض ادعاءات وزارة الداخلية من أجل رفض التصريح بالتأسيس، واستأنفت وزارة الداخلية الحكم الصادر ضدها، وأضافت إلى ادعاءاتها السابقة ادعاءا جديدا بكون ثمة شواهد إدارية للتسجيل في اللوائح الانتخابية جديدة قد تم اكتشاف أنها صادرة بتاريخ قبل الحصر النهائي للوائح الانتخابية (مع العلم أن قانون الأحزاب السياسية لا يحدد مدة لصلاحية هذه الشواهد كما في قانون مجلس النواب)، كانت المفاجأة العظمى هو مجاراة القضاء الاستئنافي لادعاءات وزارة الداخلية وألغى الحكم الابتدائي الذي كان لصالح حزب الأمة، لقد أسس القضاء الاستئنافي حكمه على ثلاث تعليلات: التعليل الأول هو أن بعض شواهد التسجيل في اللوائح الانتخابية لبعض المؤسسين صادرة قبل تاريخ الحصر النهائي للوائح الانتخابية؛ التعليل الثاني هو أن مشروع النظام الأساسي للحزب خالف مقتضيات المادة 29 من قانون الأحزاب السياسية وبخاصة المقتضى المتعلق بأن يتضمن النظام الأساسي للحزب طريقة ومسطرة تزكية مرشحي الحزب لمختلف العمليات الانتخابية والأجهزة المكلفة بذلك؛ التعليل الثالث هو أن مشروع النظام الأساسي للحزب خالف المواد 53 و59 من قانون الأحزاب السياسية بحيث لم يحدد الشخص المؤهل للتوقيع على قرار الاتحاد أو الانضمام للأحزاب السياسية. وسنبين قدر الإمكان فساد هذه التعليلات أول بأول: فأما التعليل الأول فلقد اعتمد على قرار لوزير الداخلية يحدد بموجبه تاريخ الحصر النهائي للوائح الانتخابية في 15 نونبر 2011 في حين لم يعتمد على مرسوم يحدد بموجبه تاريخ الحصر النهائي للوائح الانتخابية في 05 نونبر 2011 وفي ذلك فساد لهذه التعليل لثلاث أسباب رئيسة: 1. أن تاريخ الحصر النهائي للوائح الانتخابية يحدد بمرسوم وليس بقرار وذلك ما أقره قانون الانتخابات في مادته 15 التي تؤكد في فقرتها الأولى على أن تحديد تاريخ حصر اللوائح يكون بمرسوم وليس بقرار لوزير الداخلية ؛ 2. أن اعتماد قرار وزيري على حساب مرسوم هو خرق للفصل 6 من دستور 2011 التي تعتبر أن دستورية وتراتبية القواعد القانونية مبادئ ملزمة ؛ 3. أن صحة هذا التعليل يعني بالتبع بطلان انتخابات 25 نونبر التشريعية لكون المرشحين فيها قد سحبوا شواهد التسجيل في اللوائح الانتخابية في تاريخ قبل 15 نونبر2011 اعتمادا على المرسوم الذي يحدد آخر أجل لإيداع التصريحات الترشيح في 11 نونبر 2011 وأما فساد التعليل الثاني والثالث فلثلاث أسباب رئيسة: 1.لأن الوثيقة المقدمة إلى السلطات تظل مشروع نظام أساسي إلى أن يتم تعديلها في المؤتمر التأسيسي للحزب وآنذاك تصبح نظاما أساسيا للحزب نهائية، ويمكن الطعن في موادها إذا ما خالفت مقتضيات القانون التنظيمي المتعلق بالأحزاب السياسية؛ 2.أن ما يمكن أن يبطل مسار التأسيس في مرحلته الأولى من حيث مضمون مشاريع البرنامج السياسي أو النظام الأساسي هو مخالفته ابتداء للمادة 4 من قانون الأحزاب السياسية والتي تعد مقتضياتها موجبة لبطلان حزب انطبقت عليه تلك المقتضيات ؛ 3.واحتياطا فإن مشروع النظام الأساسي قد أقر في المادة 11 ما هو مطلوب قانونا، وترك التفصيل في تحديد شروط انعقاد المؤسسات المانحة للتزكية من حيث التوقيت والمراحل والكيفيات للقانون الداخلي الذي يعد وثيقة أساسية ضمن الوثائق التأسيسية للحزب والتي يؤدي عدم الإدلاء بها إلى إبطال الحزب، وكذلك أقر في المادة 23 بشكل صريح الجهة المسؤولة عن توقيعات قرار الاتحاد أو الانضمام إلى أحزاب سياسية وهي الأمين العام للحزب. في خلاصة يمكن إجمال أهم عناصر محنة حزب الأمة مع انتزاع حقه في التأسيس في: 1. قانون للأحزاب السياسية تشكل أهم مقتضياته من نواقض المواطنة (لأنه يحرم الملايين من المغاربة من حقهم في التأسيس بموجب اشتراطه على المؤسس أن يكون مسجلا في اللوائح الانتخابية)، ومن نواقض الديمقراطية (لأنه يرهن عملية التأسيس بيد وزارة الداخلية ويمنح لها سلطة تقديرية لإحالة ملف التأسيس على القضاء أو عدم إحالته بحسب الإرادة السياسية السلطوية) مما يجعلها تعمل ضمنيا بمبدأ الترخيص عوض التصريح في التأسيس القانوني للأحزاب السياسية؛ 2. خرق للتراتبية القانونية التي تعتبر من المبادئ الملزمة دستوريا وذلك باعتماد قرار وزيري على حساب مرسوم في الإجهاز على الحق في التأسيس قانونيا؛ 3. اعتبار وزارة الداخلية ضمنيا ضمن المؤتمرين المؤسسين المحتملين فهي لها إمكانية التدخل للمطالبة بتعديل مشروع النظام أساسي للحزب في مرحلته التأسيسية (خصوصا في مواده التي لاتوجب البطلان أو الإبطال) قبل انعقاد مؤتمره التأسيسي الذي يعد هو الهيئة العليا الكفيلة بالمصادقة على النسخ النهائية لوثائق الحزب التأسيسية؛ 4. تناقض صارخ بين ما اعتمده المقرر القضائي الاستئنافي تاريخا للحصر النهائي للوائح الانتخابية لإلغاء شواهد التسجيل سلمت قبل ذلك التاريخ وبين شرعية شواهد التسجيل تسلمها مرشحو انتخابات 25 نونبر 2011 التي سلمت قبل هذا التاريخ المعتمد في المقرر القضائي الاستئنافي. [email protected]