هو كذلك من هودج تركبه النساء. تطلّ أحداهنّ ذات صباح على مسطور العرفج لتجد نفسها بقرة. ولكي تمعن في هجاء نبتة القفر هذه، استنهضت راكبات الهوادج من سيدات المملكة ليقفن في صعيد واحد لإعلان الثورة على العرفج. وعجبا، لقد وجدوا أخيرا من يعلقوا على كتفه فأس مسؤولية تخليف المرأة وانحطاط وضعيتها الاجتماعية والثقافية. بينما العرفج كائن عصيّ على الثورة. لا يستطيع أن يثور ولا تملك أن تثور عليه. نحن الرجال لا نملك هذا، ولا المرأة تستطيع، لأنها لو دنت قليلا وترجلت من هودجها لا ترجلت عن أنوثتها لعرفت أن العرفج يحب النساء. فللعرفج مذهب في الحب طفولي بامتياز. وهو يرى المرأة ويعاكسها معاكسة الأطفال. وهو وإن رآها بقرة فلأن مذهبه في الحيوانية لا يقلّ عن مذهبه في الولدنة. وهو يرى أن الهنود يعبدون البقرة. وهي دعوة غير مباشرة لعبادة المرأة على طريقة العرفج. ويبدو أن نصيبه لم يكن على ما يرام. وربما بلغ ولعه بالأنثى أن صاحبته جنية منذ فترة، لا يزال يذكرها بخير ولا يبوح بأسرارها للعموم. فالعرفج وفيّ للانس والجن، وليس فقط للحيوان. ولو شئت لحدّثتكم عن ليلى العرفج التي ذهبت بلبّه منذ الصّبا وهي بنت أحد كبار شيوخ السلفية، ولا أقول أكثر من هذا.هذا فقط لبيان السبب الموضوعي للعنوان وعليه أقول: كنت أعتقد أن ولعي بسيرة الطفل هو إحساس يتيم قبل أن أتعرّف على شقي الحجاز الصديق أحمد عبد الرحمن العرفج. مع فارق لا يفسد المطلب بين أنماط الشقاوة. الفارق هنا أنه يتوفّر على ملكة البوح بما لا يطاوعني كبرياء التّخلف الثقافي وخيلاء الأيديولوجيا وزيفها ومرضها أيضا على البوح به. هكذا يبدو أن العنصر الأكثر حسما في ميلاد الأدباء، الجرأة على البوح الذي يكاد يضاهي في أهميته الجرأة على المعرفة. الباحثون عن المعنى في نصوص العرفج هم باحثون بالأحرى عن لصوص لا عن نصوص. وشيمة اللصوص أنهم يتقنّعون بألف قناع ويتسترون وينحجبون ويتوارون ويتسللون. لن تقبض على معنى متخشّب في هذه المشاعر الدافقة المندلقة التي تحدد الطبع الكتابي عند شقي الحجاز. فهو يجيد القوة الناعمة في الكتابة والموقف. ولذا لا تتعب نفسك بالبحث عن مكمن خلاف في نص العرفج، فهو يحول الخلاف إلى معنى مشترك يستثير فاهمتك قبل أن يستثير غريزة القهر والغلب فيك.فهو يضعك أمام الانسان المنطلق بلا قيود، ويدغدع الواقع المرّ بسخرية خفيفة الظّل لا تؤذي سوى الموتى. أجل، كنت كما أسلفت أعتقد أنّ ولعي بسيرة الطفل إحساس يتيم عاقرته على استحياء قبل أن أتعرف على شقي من الجزيرة العربية. مع الفارق في أنماط الشّقاوة، واحدة منها أنّ العرفج يمارس "الولدنة" ببوح رياضي قياسا على الروح الرياضية.فالعرفج ليس معجبا بسيرة الطفل فحسب، بل هو مصرّ أيما إصرار على تحويل حياته كلها إلى طفل محافظ على هويته وملامحه وشقاوته ونبرته الطفولية. وظنّي أنه سيطول به الدّهر طفلا وإن غدا طفلا كبيرا، يافعا أو كهلا أو حتى "طفلا ختيارا". أحيانا أخال العرفج طفلا نالت منه الشيخوخة يستند إلى عكازه. ولا زلت معجبا بهذا اللّون من الأدب "المولدن" أو لنقل "الولدنة الأدبية". فالأدب بالنتيجة هو الواقعية وإن قلّ أدبها. قبل سنوات خلت كنّا على طرفي نقيض مع أصدقاء لنا اختاروا ما يسمّى بالأدب الإسلامي. ولا ضير في ذلك. ولهذا أحجمت عن الأدب. لكنّي حينما عاقرت القصة القصيرة يوما كنت مضطرا أن أمضيها باسم ادريس المكناسي حيث وجدت لها عناية من الشاعر اللبناني عباس بيضون في الصفحة الثقافية من جريدة السفير. وعليه كان ذلك اللّون من الأدب على شيء من المجون. ففضلت الاحتجاب لأني لا أحسن أن أكتب أدبا محتجبا. وضاعت فصول من تلك القصص التي كنت أنوي أن أجعلها باكورة مجموعتي القصصية الأولى. كان المسؤول عن ضياع بعضها مخرج سينيمائي كنا على وشك الاتفاق على تحويل بعضها إلى سيناريو لمشروع فيلم سينمائي. وهكذا لم أف بوعدي لإخراج المجموعة التي كنت قد وضعت لها عنوانا مسبقا: هروب المسافات. الوعد الذي قطعته للكاتب السوري المرحوم الماغوط والذي وعدني أيضا بأنه سيعتني بها ويكتب عنها بمجرد صدورها. توفي الماغوط وضاعت مسودات المجموعة القصصية، ولله في خلقه شؤون. عموما هذا النوع من الأدب الساخر والمولدن يروقني كثيرا. وقد كانت قصة أهل الليل التي نشرتها في جريدة السفير قد شجّعني على نشرها كثيرا الروائي المغربي محمد شكري صاحب الخبز الحافي. لقد اطلع عليها ورأى فيها ما يثير عنده نوستالجيا الليل وأهل الليل. ولا أخفي أنّه هو من كان شجّعني على القصة القصيرة. وعلى ذكر محمد شكري، لا زلت أذكر كيف يكون الأدب المولدن مخيفا للبعض مسليا للبعض الآخر. وإن كانت ولدنة محمد شكري ذات طابع درامي ومأساوي حدّ التخمة. لهذا المضمون الحاكي عن الطفولة المعذّبة تعاطفت مع محمد شكري. وحينما قسا عليه أحد الأصدقاء في إحدى المناسبات بسؤال: إلى أي حدّ كان شكري متأثرا بجون جونيه؟ يقول شقي الخبز الحافي: الفرق أن جونيه كان أحيانا يسرق ليسرق ويثبث وجوده، بينما أنا سرقت حداء من المسجد لأنني لم أكن أملك حداء. لكن يبقى الولد هو العنصر المشترك بين كل أجناس الأدب المولدن سواء أكان ساخرا أو مأساويا. مع أنني أشكّ أن الأدب المولدن هو ساخر مهما كان مبلغه من السخرية. فهو ينطوي على شحنة مأساوية دفينة. فجونيه هو نفسه الطفل الذي أول ما تخطر له في المحكوم عليه بالإعدام صورة الطفل وهو يهرول إلى أحضان أمه وهي تأتي لتنتظره أمام المدرسة. عموما العرفج هو من هذا اللون المولدن الساخر الذي ينطوي على مأساة لا تختلف عن ألوان التراجيديات الأخرى سوى في فنّ تدبيرها في حاضر الشخص ومستقبله. اما العرفج فلقد حوّل مأساته إلى أدب منتج ليس فقط على صعيد التسلية بل منتج على صعيد " المصاري". إن العرفج يملك نظرة إيجابية للحياة تؤكّد أنّ إرادة الحياة تهزم المأساة. ومع ذلك لا بدّ من أن أقول بأنّ لي مذهب في الطفولة مختلف قليلا عن العرفج. فالطفولة في نظري ليست نمطا واحدا ولا شقاوة واحدة، فهي طفولات متعددة وذاهب شتى وملل ونحل. فمن أي نحلة يا ترى هي طفولة العرفج؟ في مذهبي الطفولي عندي الطفولة ليست قهرية. بل هي مغامرة وتحدّي. كانت طفولتي خلافا للعرفج ليست طفولة مقهورة. بل كانت عنادا وتطاولا وشقاوة. كان التمرد مظهرا ساطعا من مظاهرها. فالعرفج يتشاقى لكنه كما كنا نقول في الكشافة: الكشاف لا يترك أثره. لكنني كنت أستمتع بأن أترك أثر شقاوتي ظاهرا للعيان. فالشقاوة التي لا تحمل ختمي عيانا أخشى أن تتعرض للسرقة الأدبية. فلكي أضمن لها حقوق الطّبع ، أمضي عليها وإن كان أثرها غاية في الخطر. ولقد اكتشفت أن العرفج يحمل الاعتقاد نفسه ورسالة الطفل نفسها. غير أنّ ميزته هنا عنّي، أني أخون الطفل أحيانا ولا أعطيه حقه كاملا بينما كرّس العرفج حياته لسيرة الطفل وقضاياه. في عمق المتن العرفجي يوجد معيار أخلاقي عميق. يسعى الطفل المشاكس في كهولته الطفولية أن يخفيه عن الرقابة الأدبية الجديدة. لكن ثنايا النصوص تنطوي عليه بأحاسيس مرهفة. هو أدب هادف وراء فوضاه المفتعلة وعبثيته العارمة. هي أحيانا قلّة الأدب التي يفرضها علينا واقع غير مؤدّب. لكنها قلّة الأدب لخدمة الأدب. الغاية عند العرفج تبرر الوسيلة. ولكن لا أعرف في مذهبه الطفولي إن كانت تلك القاعدة راجحة على الدّوام. تنقلب الموازين والمعايير ها هنا، لتجد المعنى يفرّ بجلده في هذه الأنطولوجيا العرفجية المخضرمة والملوّنة والمشوبة بلوني المأساة والملهاة. ويبدو لي أنّ الأدب السعودي الجديد يسعى حثيثا للقبض على جنسه الخاص. ولقد كتب الكتاب الجدد في كل لون وهم ماضون في هذا التّحدّي. غير أنّي أرى أنّ اللّون الأفضل لهذا الأدب هو الأدب السّاخر. فأهل الحجاز بارعون في لون من السخرية مهدد بالإنقراض. سخرية ممزوجة بالأصالة. أعتقد أنّ الخليجيين لن ينجحوا في اللّون الدرامى على صعيد التلفزيون والسينما والمسرح وكل فنون الأدب، بقدر ما يستطيعون كسب الريادة في الأدب الساخر. فالعرفج هو بطل مؤجّل أو ما ورائي لرائعة "طاش ما طاش" التي أعتبرها أهم إنتاج كوميدي في التلفزيون العربي. وسوف يهدر هؤلاء الكثير من الجهد إن هم طلبوا الريادة في الدرامى وليس في الكوميديا والأدب الساخر كما اهتدى إليه العرفج بفطرته التي لم تخطئ هدفها. في "الغثاء الأحوى"، لمّ العرفج طرائف الفتوى بسخرية هادفة. فالتطرف والغلو والتعسف يطلب منا اليوم موقفا ساخرا وليس فقط موقفا صارما لتغيير أنماطه. هي فتواى أنتجها عقل متخلف وهي بدروها تعيد إنتاج التّخلف. ولكنه أظهر قدرة فائقة على الاستقصاء والبحث ما يؤكّد على أن لصاحبنا خلفية المعرفة الدينية. فهو خبر هذا المعنى وعرف ما تنتجه مؤسسة هيئة صغار العلماء كما سماهم العرفج. لسبب بسيط وساخر وجاد هو أن العرفج لم يجد في القرآن ما يسمى كبار اللعلماء. بمعنى آخر: إما أن تكون فقيها أو لا تكون. أما عناوين الغثاء الأحوى فهي ساخرة هي الأخرى. نقرأ عينات من ذلك مثلا: الهفوة في تحريم الشاي والقهوة، الدليل المنسي في تحريم البيبسي، فتوى قتل ميكي ماوس،حتى قتل الكلاب الضالة يحتاج إلى فتوى..... كتاب العرفج هذا هو احتجاج على هوس الاستفتاء والإفتاء وتديين الحياة العامة والخاصة. وهو ناظر في مفارقات الفتاوي وجهلها العلمي والطبي والاجتماعي. كأن يفتى بتحريم القول بدوران الأرض وكرويتها وتحريم التحية العسكرية وتحريم أجراس المدارس وتحريم إهداء الزهور،وتحريم الكاريكاتور وغيرها من ألوان التحريم. لم يسأل العرفج إن كان المشكل ليس في الفتوى بقدر ما هي مشكلة المفتي. بل لعلها مشكلة في بنية الفتوى التي لا تنتج إلا الجهل حينما تكون فتوى نابعة من بنية معرفية فاسدة آبية للعقل والمعقول. فحينما لا تتعقلن حياتنا يصبح كل ما لدينا ينتج التخلف. فلم لا نجرب أن نعقلن حياتنا ليكون كل شيء عندنا ينتج المعقول حتى لو كان الأمر يتعلّق بفتاوى تقتحم الحياة العامة والخاصة. فالخوف والنفور هنا ليس من الفتوى، بل من المضمون المتوقع من كل فتوى تنطلق من هذا العقل المتخلف قرونا عن الذين يعيشون بيننا. وأقول بيننا لأن هناك بالمقابل من مصادر تشريع القوم شرع من قبلنا. أما في كتابه " هذه صناديقي" فأنت أمام جزء آخر من موسوعة العرفج الساخرة. هذه المرة يصفها ب" مقاولات عامل معرفة". يزعم العرفج أن المثقف هو بالنتيجة عامل معرفة. على أن المصطلح من وضعه وإن كان المضمون له جذر فيما انتهى إليه الفكر التفكيكي غربيا وعربيا كما في معاقرات علي حرب. وعلي حرب معجب بنصوص العرفج. حيث يقول بأن روحا تهكميا تقف وراء كتابات العرفج. حيث " التهكم يفعل فعله الإيجابي التنويري". وإن كان العرفج محل رضا علي حرب، فإن العرفج من جهته هو شديد التأثر أيضا بعلي حرب وأسلوبه في التفكيك والتبسيط والتحليل وعدم الغلو في التجريد والروح النقدية التي تذيب المعاني الرائجة ولا تستسلم للعوائد. وحتى الآن لا أدري ما سبب أن تروق أعمال علي حرب للكتاب الخليجيين وإعجابهم بها أيما إعجاب؟ هل لوضوح أفكارها، أم لروحها النقدي؟ هل لعدم إغراقها في تعقيدات الأيديولوجيا العربية؟ هل لأنها ناقدة للأيديولوجيا العربية الكلاسيكية؟ هل لانفتاحها على إرادة الحياة؟؟ قد يكون ذلك لسبب من هذه الأسباب أو كلها. أمّا في "المندي المنتظر"، فنقف على جملة مقالات غاية في السخرية التي تتراوح بين الجد والهزل. فالعرفج طفل لم يبرح شقاوته الطفولية. وهناك حنين عارم للولدنة يوحي بأننا أمام كائن لم يشبع من طفولته ولم تغوه مسرحية الكبار. وهو يحفر بطفولية بالغة مكانه في عالم الكبار. ويكفي صاحب المندي المنتظر أن يبدأ طقوسه الطفولية لكي يستدرج الكبار إلى عالم الأطفال. وأحيانا كثيرة يهتك كل تلك الحجب التي أقامها الكبار وكثيرا ما نتحدث هنا عن الأقنعة. وفيما يعنيني كنت أستمتع بهذا الحنين العرفجي. وكم تمنيت أن يكون هو اللسان الذي أضرب به الكثير من الكبار الخونة لعهد الطفولة ومكتسباتها. لكن لست في وارد أن تصادف العرفجي في كل مكان. بل هو مثل المنشار، يأكل الخشب طالعا نازلا. هكذا لا يبرح القلم والقرطاس أنامل العرفج. فهو يعتبر كل جلسة مهما بدت ساخرة جلسة دراسية يستفيد من كل كلمة نطقتها، لعلها توحي له بالكثير مما يكتب وبالتالي يتقاضى عليها أجرا. كادح كتابي محترم. العرفج يبيع مقالته ولا يقدمها مجانا. ومعه حقّ في ذلك. كما انه معه حق في ان لا يبرح القلم والقرطاس في غدوه وأصاله. فالابداع في نهاية المطاف هو شكل من أشكال التناص. وفي تضارب الأفكار تولد الحقائق. ومن الأطروحة ونقيضها كما قال أهل الجدل يولد التركيب. وقديما قال علي بن أبي طالب: اضرب بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب. ومن يدري قد تنطق عبارة جادة باردة متصبرة، لكن قد يعاد إنتاجها في المختبر العرفجي لتصبح غاية في السخرية.في سخرية العرفج سياسة فكرية تسكن ثنايا خطابه. شكل من التعالى في هجاء واقع مرير ميؤوس منه يسترخص الانسان والأشياء. في مثل هذا الوضع المزري ليس أمامنا سوى أن نتعالى ساخرين. فالسخرية تصيب جوهر المشكل لكنها لا تنازله مباشرة لأنها تدرك أن لا تكافؤ في الأوزان. فترسم على جبينه علامة تجعله سخرية الغادي والبادي. ونعود إلى المندي. فإنّ لهذه الأكلة ذات الجذور اليمنية حكاية أخرى. من الطبيعي أن يهيم العرفج في المندي ويؤرخ له بعنوان سيخلد إسم المندي إلى يوم القيامة. وأعرف أن المندي ستكون أكلة العرفج المفضلة حتى في الجنة. لكن علينا أن نسأل: هل العرفج سيدخل الجنة؟ سؤال أترك الإجابة عليه لأحمد عدنان. لكن فيما يتعلق بالمندي فإنّني أدركت مذ أكلته لأول مرّة، أو لا أدري أكلتها لأنني لا أعرف إن كان المندي مؤنث أم مذكر، سؤال آخر نترك الجواب عليه للعرفج، فإنني أدركت أنها أكلة طفولية. لا أستطيع أن أشرح لماذا، لكنه إحساس. ربما لأنّني أكلتها أول مرة مع رفاق أدركوا هم أيضا حضا من طفوليتهم وكانوا طيلة ذلك الوقت يتحدثون كأطفال. لقد أعجبت بالمندي وبات شيء مهم في حياتي لا أكف عن انتظاره. إنه المندي المنتظر حقا.العرفج كائن منفتح مفتوح على القديم والجديد وسائر احتمالات المعنى. يمارس ليبراليته بنكهة الهل. ولا يمارسها بأصولية قاتلة. هو يحاول أن يستلذ بالحياة ويخبرها. وهو كذلك خبير بلذائذها ما طاب منها وما لم يطب. ولذا هو يعرف حدود السؤال. ويأخذ الأمور في عموماتها. لأن أمور الحياة كذلك. إن نظرت إليها بالمجهر نفرت منها. عجل كما يقول إخوانا الخليجيين ، ليه تسأل؛لا تسألوا عن أشياء إن تبدى لكم تسؤكم.الوفاء للطفولة عقيدة عرفجية لا تضاهى. وأما العرفج وإن كان ينظر إلى نفسه كحيوان أو غوريلا بحبور واعتزاز، فهو يمارس السخرية على نفسه وبهذا يكسر كل الطابوهات، ليأخذ شرعية الساخر عن جدارة واستحقاق. لكنه في نظري ليس غوريلا، بل هو طفل كبير ظريف ومهذّب ووسيم وبالغ الذكاء. ابن الجزيرة العربية. كنت ولا زلت أرى أنّ هذه البؤرة تخزّن طاقة هائلة من الأدب الانساني لا ندري من سعى ويسعى لإخفائه كمنجم للطاقة لم يتم حفره بعد. فالسخرية هناك لها طعم أصيل. والكوميديا الحجازية بدأت تشق طريقها بشكل ملفت للنّظر. حتى الآن نستطيع أن نتحدّث عن تفوقها الحقيقي خلال السنوات الأخيرة. وأما فيما يخصني فلقد أصبح الضحك مطلبا عزيزا في زمن الكآبة العربية. حتى كبار الكوميديين العرب لم يعودوا قادرين على إضحاكي بقدر ما يضحكني العرفج. وحقّا، إنّ تجربة طاش ما طاش واحدة من روائع الكوميديا العربية من حيث المضمون والأداء. لقد أعادت لنا البسمة مرة أخرى.وكنت أتنمى أن يزود العرفج طاش ما طاش ببعض السيناريوهات، أو أفضل من ذلك بكثير أن يحتل له دورا من بين نجوم طاش ما طاش؛ إذن لكان أتقن ووفى. وحسنا فعل العرفج حينما لاذ بالأدب الساخر. وهو أدب لا يتكلّفه. لأن العرفج ولد ساخر من بطن أمه. ذلك لأنني لا أستملح الدراما الخليجية بقدر ما أستملح الكوميديا الخليجية كما ذكرت سابقا. ولا أدري لم إصرار التلفزيون الخليجي على إنتاج الدراما بينما يمكنه أن يهيمن على الكوميديا عربيا؛ الكوميديا الساخرة والهادفة ذات المضمون العالي. بقي كما يقول العرفج حينما ينهي مقالاته التي سأسميها مندياته. بقي أن أسأل فضولا: كيف يتسنى لقارء المنديات أن يتخيل العرفج جادّا غير ساخر... أو منزعجا غير ضاحك... لكن أستطيع أن أقول ، أنني ببصيرة استطعت النفاذ في باطن العرفج. وهو يعرف أنني مشعود من المغرب الذي باركنا حوله. فوجدت داخله يسكن حزن قديم. إن صاحب المنديات الساخر هو كائن حزين مع وقف التنفيذ، هذا ما استطعت اكتشافه ليس كناقد أدبي بل كبصّاص مغربي في بواطن النفوس. اكتشفت ذلك حتى قبل أن أعرف أو قبل أن يعرفني هو بأنه نقيب أيتام العالم، كان قبله شخص صيني توفي وبقي هو أبو الايتام. والعهدة في النقل على العرفج نفسه وإن كان البعض قد يرى مروياته ضعيفة السّند لوجود العرفج في سندها. يبقى القول أن العرفج وهو يهديني كتاب الغثاء الأحوى، يوقع كالتالي: هذه فتاوى وإن شئت نوايا يا صديقي ادريس اقرأها كما تريد إما واقفا أو قلعدا أو على جنبك لأنها جاءت في الوقت الضائع وكتبت في الوقت الضائع الماتع. وإني أطمئنه أني لا يمكنني أن أقرها واقفا لأنني لم أعد أقرأ وأنا منتصب القامة أمشي، ولا قاعدا حتى لأني لا أحب القاعدين، ولا حتى على جنبي لأن واحدا فقط يستطيع أن يقرأ على جنبه هو العرفج كما أخاله، ولككني قرأتها مستلقيا على ظهري وهي نومة الأنبياء وإن لم أكن كذلك، وإنما لأنها الأثيرة عندي. من يقرأ العرفج يأخذ فكرة أخرى عن بيئة لطالما اعتبرت بيئة نفط فقط، وذلك هو سوء الفهم الكبير. ولذا أقول للعرفج للنجاة من معرة آخر ما كتب تحت عنوان:"لقد أعلنت الاستقلال عن مثقفي عرب الشمال".بأنّ الذي باركنا حوله لا يقبل استقالتك. وبأنّني أجد في العرفج ونظراءه مثالا للاحتجاج على أن عرب الجنوب ينامون على خزّان أدبي لا بدّ أن يعيدوا اكتشافه. إنّنا لا ننتظر منهم أن يعلمونا ما معنى الحداثة، ولكن نريد منهم أن يعلمونا إيجابية الحياة بنكهة عربية غير مشوبة. تستنبت ذوقها وأصالتها وعقلانيتها من بلاد العرفج الشخص والنبتة. هؤلاء يلتقون تلقائيا مع الواقعية بصورة تكاد تمّحي عند عرب الشّمال.