لم أجد ما أمهد به لحديثي هذا عن مؤتمر " مركزية القرآن الكريم" أبلغ من المثال الدارجي الخالد: " إذا طردك البخيل، عند الكريم تبات" انعقد يومي الفاتح و الثاني من دجنبر الجاري بالعاصمة اسطنبول مؤتمر " مركزية القرآن الكريم في فكر الأستاذ عبد السلام ياسين" و قد عرف المؤتمر مشاركة العديد من المفكرين الشباب و المخضرمين، و ثلة من الباحثين و الإعلاميين العرب و الأجانب. و قد كان لافتا تدخلات المشاركين و إشادتهم بفكر المرشد و سيرته و مواقفه، لا سيما في الجلسة الافتتاحية التي قدم لها عضو مجلس الإرشاد و رئيس المؤتمر الأستاذ الحمداوي بلمحة حول حياة مرشد الجماعة و تدرجه في سلك التربية و الجهاد خلال ما يزيد عن أربعة عقود. لا شك أن لتنظيم المؤتمر دلالات عدة كما وضح ذلك موقع الجماعة من خلال كلمته الرئيسية، لذا فالمهم إلى جانب إبراز هذه الدلالات، على الرغم من أنها من جانب واحد ( جانب المنظم)، هو استشراف صدى هذه الدلالات و وقعها على الساحة السياسية و الفكرية المغربية. فالمؤتمر أبرز بما لا يدع مجالا للشك أن الجماعة، على الرغم من بعدها عن الممارسة السياسية الرسمية، إلا أنها تدير مصالحها بغاية الدقة، و تدبر دبلوماسيتها بحنكة كبيرة، و المؤشر الواضح هو الانتشار الواسع لفكر المرشد و اتساع دائرة الاهتمام به، و هذا العدد الكبير من المفكرين و العلماء و الأكاديميين و الباحثين الأكفاء الذين شاركوا الجماعة مؤتمرها و تقاطعوا معها في العديد من القضايا الجوهرية في فكر المرشد و حركة الجماعة و منها: - ما كان للمؤتمر أن يعقد بإسطنبول لولا ضيق حنجرة النظام عن استيعاب جرأة فكر المرشد، خصوصا شجاعته في الحق، و دعوته للملك الراحل الحسن الثاني و ابنه من بعده محمد السادس إلى إرجاع مال الأمة إليها و جعل الحكم بينها شورى لا وراثة. - فكر المرشد هو فكر ليس للعدل و الإحسان فقط، أو للمغاربة فقط. و إنما هو فكر تجديدي للإسلام، و آلية عصرية لتناول قضايا الأمة الراهنة استرشادا بالوحي و إعمالا للعقل المسلم المستنير بالتربية أو الإحسان كما يسميه المنهاج. - سيكون لفكر المرشد المكانة الكبيرة للإسهام في حل كبريات القضايا المعاصرة خصوصا منها: قضايا المرأة و الحريات العامة و بناء الدولة و علاقة الإسلاميين بغيرهم من التيارات. - النظام المغربي يفوت على نفسه فرصة التواصل مع جماعة بهذه القدرة على التواصل و الانفتاح و القابلية للنقض و النقض المضاد. - إن كان الربيع العربي قد أغرى العديد من الحركات الإسلامية إلى ركوب الأمواج السياسية، وهي قضية مشروعة و ضرورية و ملحة، إلا أن الجماعة تطرح مشروعا جديدا للممارسة السياسية للحركة الإسلامية، يتمثل في ممارسة السياسة المشروعة، و الشرعية حسب تفكير الجماعة هو خدمة السياسة لمشروع الأمة و الخلافة و بناء الشخصية الإحسانية. بغض النظر عما أحرزته جماعة العدل و الإحسان من تنظيم المؤتمر، نتساءل كفاعلين و مهتمين بالحقل الفكري و الثقافي و المعرفي المغربي و تداعياته على المصلحة المعرفية للبلد و تقدمه و تنافسيته. هل كان من الأمثل أن ينعقد المؤتمر على أرض أخرى غير تراب الوطن. إذا كانت الجماعة لم تفكر بداية في انعقاد هذا المؤتمر على أرض الوطن، فقد أخطأت و فوتت على نفسها و على المغاربة فرصة سانحة للتلاقح الفكري و المطارحة النظرية الفاعلة المؤدية إلى الحفاظ على حيوية الواقع الفكري و المعرفي المغربي. أما إذا كانت الدولة لا تزال تتعامل مع الجماعة بنفس العقلية و المنهجية القديمة، فهي من سيدفع الثمن باهظا غدا، يوم تغرق النظريات المخزنية بعضها فوق بعض في بحر التعتيم و التلبيس و العدمية. المرجح أن الدولة هي من دفع الجماعة إلى هذا التفكير، فهي لم تمنع الأنشطة الكبرى للجماعة فقط، بل تمنع كل ما من شأنه أن يكون ذا صلة بالجماعة و فكرها و رموزها، فالجمعيات المقربة من الجماعة يتم حلها و تجميد أنشطتها، و قد منعت حتى جمعيات النجاح المدرسية من النشاط بذريعة وجود أعضاء من العدل و الإحسان بمكاتبها المسيرة، كما منعت من الاستفادة من الدعم الهزيل المقدم لها من الدولة، و منعت مخيمات الشباب و الطلاب، و منعت جمعيات محو الأمية المقربة من الجماعة، و كتب الجماعة و منشوراتها ممنوعة من الصدور و غير مستفيدة من أقل التسهيلات، ولا حديث عن تطبيع في علاقة الدولة بالجماعة، و أعوان الدولة يسوقون لخطاب متحامل ما كان له أن يستشري لولا ركوض الساحة الفكرية و المعرفية المغربية، خطاب مفاده أن هذه الجماعة عدوة للملك و المشروع الديمقراطي الوطني و تكره الوطن و الاستقرار. في الحقيقة ليست الدولة لوحدها من يمارس هذا التجاهل و التعتيم و المواجهة، فهناك أقلاما كثيرة و صحفا عدة و مواقع إلكترونية غير محايدة مجندة لتسفيه مبادرات الجماعة و تصريحات رجالها و أنشطة قطاعاتها، و التشهير و تضخيم ما يمكن أن يصدر عن بعض أعضائها من أخطاء باعتبارهم بشرا. و في المحصلة نجد الساحة الفكرية في المغرب منقسمة إلى قسمين: معسكر النظام و مؤسساته الإعلامية الرسمية و "المستقلة". و معسكر المعارضة العملية التي تعتبر العدل و الإحسان جزء منها. و الجزء الكبير من نشطاء الساحة الفكرية هم أعمدة الحراك السياسي، لذلك فالساحة الفكرية هي ساحة سياسية بامتياز. هذه الظاهرة هي ظاهرة ليست استثنائية، بل هي الظاهرة العامة في كل البلدان العربية ذات الأنظمة الشمولية المنغلقة، بحيث أن الفكر الوسيط أو الأكاديمي أو الحر أو المحايد لا مكان له بين هذين الفكرين، إما بإرادة طوعية لأصحابه أو بحكم واقع الرقابة و التقييد و الاحتكار الممنهج للدولة. قد يكون متوقعا تحجيم حركة المعارضة، لكن لن يكون مقبولا تضخيم مبادرات المساندة الرخيصة. قد يكون متوقعا منع مؤتمر العدل و الإحسان، أو ندوة صحافية لحركة 20فبراير، أو محاضرة للنهج الديمقراطي، أو دورة تدريبية للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، أو منع حزب الأمة من الترخيص أو غيرها من هذا القبيل. لكن لن يكون مقبولا استقبال مفكري اليهود و ساستهم، و الاحتفاء بالممثلين الأجانب على حساب نظرائهم المغاربة، و توقيع كتب المفكرين الأجانب و تهميش أعمال المفكرين المغاربة. مع العلم أن المفكرين المغاربة و الفنانين المغاربة و العلماء المغاربة من المغضوب عليهم على تراب البلد، يلقون التقدير و الاحترام و الاحتفاء على أرض أكثر من دولة. ضاقت القاعات الفسيحة و قصور المؤتمرات المغربية بمؤتمر مركزية القرآن الكريم فوجد المجال فسيحا في أحد الفنادق التركية، و ضاقت الساحة الإعلامية الرسمية بأمثال أبو بكر الجامعي فوجد المجال فسيحا على الضفة الأخرى من البحر غير بعيد، و ضاقت الفتوى بالعلامة الريسوني على أرض الوطن فوجد المجال فسيحا في المشرق، و ضاقت الساحة السياسية بالعديد من المفكرين و السياسيين فعانقتهم ديار المهجر بالأحضان. فهل يريد الحكم و الحكومة أن يبقى تراب الوطن و خيراته رهن إشارة مواطني الدرجة الأولى ( مواطنو العام الزين)، و أرض الله واسعة لإيواء كل صوت معارض.