لن أختبئ في ضَلال الكلام المسكوك فأكرر عبارات مثل يعجز الكلام ،و لا تسعفني الكلمات. على العكس، فالأمر في وضعي يتعلق بالارتباك، لأن قامة شامخة وعلامة فارقة مثل الأستاذ أحمد الطيب العلج تفجر ينابيع القول،المشكل يكمن في كيف الإحاطة بشساعة العطاء الفني،و التمكن من دفق تجلياته عند السي احمد؟ .من أين يأتي المرء بالقدرة ليتحمل ضوء المنارة ؟ إن بعُدَ و حدَّق عميت رؤيته و إن اقترب صار ظلا . سألجم نفسي المتوثبة للحديث عن علاقتنا التي ابتدأت تنتظم في 1976 حيث كنا نسكن نفس الحي،و كان السي احمد جار القلب،و لا عن سعادتي كطفل بلقائه،و كيف أصبحت أزوره باستمرار في البيت و أستشيره في خربشاتي،أو في مكتبه بإدارة المسرح الوطني محمد الخامس ،حيث كان مسؤولا عن الفنون الشعبية،و لا عن رئاسته لجمعية الآباء في الثانوية التي كنت أدرس فيها و كيف أحبط حملة التوقيعات ضد الأساتذة النقابيين،و رفض الدخول في مؤامرة دنيئة،و لا عن كيف كنت أمده بنصوصي الأولى و يدي ترتعش و بصري خفيض،و لا عن ترديده : ستكون أنت امتدادي الحقيقي،فدوِّنْ و ارو عني ..و هذا كلام - أيقونة يقوله شيوخ الكلام لتلامذتهم الذين يرون فيهم وعداً إبداعيا .و لن أتحدث عن ثقته في و أنا ما زلت أحبو في أرض الكتابة ليطلعني على مسرحياته التي لم يجف مدادها بعد، و لا عن خساراته و الغضب الذي تعرض لهما بسبب دعمه لأحد المرشحين اليساريين في أواسط السبعينات من القرن الماضي ... و سأجانب الصواب إن انزلقت إلى سرد سيرة أستاذي السي أحمد الطيب العلج و تعداد منجزاته فهي بالغزارة و الغنى اللذين لا يتسع الوقت لهما،و لكني أفضل التوقف عند بعض المفاتيح التي نلج بهما إلى دروس نتعلمها منها ( السيرة و المنجزات ) خاصة الأجيال الجديدة .أليس الفن متعة و تربية؟. 1 - كثيرة هي الجوائز و الأوسمة و التكريمات التي حظي بها عن استحقاق و جدارة، و لكني سأتوقف عند لحظتين دالتين و هامتين بالنسبة لي ،أولهما : ...في بداية الاستقلال حاز السي احمد مع مسرحية " الشطاب " على الجائزة الأولى في المهرجان الدولي للمسرح بفرنسا،و كانت اللغة التي كتبت بها المسرحية هي العامية المغربية ...و ثانيهما : توج في دمشق بوسام الاستحقاق الرفيع أمام عمالقة المسرح في الأقطار العربية ( في السبعينات من القرن الماضي ) و كانت مسرحية " حليب الضياف " قد كتبت بالعامية المغربية .و الدرس هنا هو : احتفى السي احمد بالعامية فجازته،رفع من قيمتها و حقق لها الاعتراف فمنحته اعتراف و احتفاء العالم. 2- لم يأت السي احمد " نازلا بمظلة من عل" إلى الإبداع،فبيت الوالد كان ناديا يلتقي فيه منشدو الملحون و أهل الذكر،و من هنا ارتوى الطائر المغرد،و من هذا الحقل رشفت النحلة الرحيق،و من هنا التقى النشيد الوجداني و عسل الكتابة في كيان السي احمد،و لا ننسى مرددات و محكيات الوالدة و فضاء الحلقة،و حسب علمي- و من غيره سمعت - أنه نظرا لخجله و عفته لم يكن يطلع الكثيرين على أزجاله و حواراته الأولى،لكن فرقة المعمورة الرائدة وجدت فيه ضالتها عندما عثرت على كنز كان وسطها،فأغنت تجربتها بكتاباته و أزجاله . و قد يبدو للمتسرع أن أبا السي احمد الفني هو التراث الملحوني و الحلقة و ليالي فاس و تقاليدها،أنا أقول إن أباه الفني هو المغرب العميق برحابة مشهده الثقافي و شساعة تنوع مكوناته و متانة جسوره الحضارية مع الذات و الآخر . فإذا اعترفنا للمغرب بعبقريته،فإن السي احمد إحدى تجلياتها . و الدرس هنا هو : إنه كالمعدن النفيس يكمن في الظل،و عندما يخرج للضوء يسطع لمعانه و يشع،عكس من يتقافزون مثل قناديل الأعشاب في الليل،فإذا أشرقت الشمس احترقت و اندثرت . 3 - امتهن السي احمد في بداية شبابه النجارة ،و ربما تعلم من مهنته تلك،كيف يهب من الفناء وجودا آخر،فموت الشجرة يقودها إلى أن تكون أحيانا بيد نجار ماهر،فيخلق من خشبها أشكالا تركب لتعطي كياناتٍ استعمالاتُها شتى،تنفع و تمتع ،و كذلك هي الكلمات في جمودها و" خاميتها " موت ،و في الإبداع و التواصل ينفخ فيها بالحياة . و عندما تجتمع الصنعة و المهارة و المخيلة و الذاكرة،فإنها تصهر و تصقل و تمنح من العادي جميلا استثنائيا و مدهشا . و لما انتقل السي احمد إلى الإبداع لم يكتف بالشفوي ليبقى مرجعه الوحيد،و لكنه كوَّن نفسه و طور معارفه و مداركه و اطلع على الموروث الإنساني في تنوعه و أغنى به ثقافته العربية . و الدرس هنا هو : أن عصاميته لم تعقه عن التكوين فيركن إلى خانة الزجال الفطري ( غير المتعلم )،بل ضاعف من سرعة التحصيل لينخرط في فضاء الثقافة العالمة الحاضنة للثقافة الشفوية،و هنا كانت العصامية و عشق الإبداع حافزين للصعود و الترقي في مدارج الفن و المكانة الاعتبارية و الرمزية ،و لا أقول الشهرة فالكثير فيها لصيق بالرداءة و تدني المستوى. 4 -أصبح الأستاذ أحمد الطيب العلج علامة تتقاطع فيها الأصول مع التطور،الجذور مع الامتدادات،الثوابت مع الإبدالات،العتاقة مع الجدة،اكتناز المرجعيات مع السعي إلى الفرادة و صنع البصمة الشخصية ... بعفوية تخطى إشكالية " أن تبدع مجازاتك من لغة متشبعة و نابضة بالمجازات، و يلتبس فيها المباشر الخام بالمُرمَّز المنحوت " .تجاوز سؤال تحويل المألوف مغايرا ، و الهامشي مدهشا ،و الشعبي أنيقا و جذابا.و أقحم " لغة العامة " في فضاءات مسورة بالقداسة و الفخامة،و خلق للعامية صداقات اخترقت سمك حواجز الارستقراطية و النبالة،و أدخل إلى أذواق "هم" بساطة ما هو شعبي و كشف لهم جمال و شعرية العامية و سحرها . الشاهد هو أنه عند انطلاقته العفوية لم يكن أمامه تراكم عصري،و لم يكن أمامه إلا الموروث التقليدي مثل الملحون و الأندلسي و العيطة و أحواش أو النموذج المشرقي،فمن حيث يدري أو لا يدري،أو ربما وجَّهته بوصلته الباطنية إلى ورطة التأسيس لتجربة كان لها تأثيرها سواء في المسرح أو الزجل،و الذي يعنيني في هذا المقام هو الزجل. سأظل أكرر القول : كان الملحون بمثابة المعلقات و ما أبدعه السي احمد و من سار على دربه بمثابة تجربة البعث في الشعر العربي،فخرجوا بالقول الزجلي من الانحطاط و الجمود و الاجترار بإحياء المُشرِقِ في التراث للتعبير عن روح العصر برؤية جديدة،و بذلك كانت له الريادة .و الدرس هنا هو : أن الريادة لا تكون بقرار أو إرادة شخصيين،أو بإلحاح من رغبة أو نزوة،لكنها تتويج للسباقين في اكتشاف مغالق و غيب الإبداع و الخروج به من حال إلى حال،أي صنع ولادة جديدة . ختاما أتوجه لسيدي حبيبي و أستاذي : قيل في المسرح : كلهم خرجوا من معطف غوغول،و نحن في الزجل المغربي- أقول - إن الجيل ما بعد ريادتك،خرج من جبة أحمد الطيب العلج. و نحن نبجلك على الطريقة المغربية : اعزل،استقل ،اختر طريقك و لكن لا تفرط في طاعة الوالدين .فأنت أب اختارك الزجالون الجدد و بذلك فهم ليسوا يتامى في سلالة الكتابة بالعامية.و كما تعلم فالأبناء مشاغبون ،فارضَ عنا يا أبانا الذي في الزجل . * الكلمة التي التي ألقيت في اللحظة التكريمية للأستاذ أحمد الطيب العلج، يوم 15 يناير، في المهرجان العربي الثاني للزجل بأزمور المنعقد من19 إلى 21 يناير2012.