أن أكون بين أهل "كَصر السْفالات" التَّابع لقيادة تامْكَرُوت بإقليم زاكورة وتحديدا بأحد أعراس عائلات المنطقة. فلزامٌ عليَّ أن أتجرَّد من عباءتي الصحفية وأن أحرص على ارتداء "التَّلْحيف" المحلي، حتى أستطيع الاندماج قلبا وقالبا مع الجو العام للمنطقة، فكل شيء هنا مختلف عن كل ما قد تكون شاهدْتَه أو عَرَفْته.. أهل زاكورة، ناس تشرَّبَتهم البساطة حتى أصبحوا منها وأصبحت منهم، مع كثير من الجود والحفاوة وحسن الضيافة..هم أهل الصحراء الشرقية المعروفون باستقامتهم وحسن أخلاقهم، فلا أكادُ أمر عبر أزقة "الكَصْر" إلا وأجد من يبادرني بإلقاء التحية، مع كثير من الحشمة والوقار.. وحقيقة، كان أكثر ما أثارني بأهلِها. شديدُ حُبِّهم للمواويل والأهازيج ورقص "الرُّكبة" و"الصْقَل"..، فهم أناس يُجيدون نظم القصائد والأبيات النثرية نساء كانوا أم رجالا، حتى أن أطفالهم يتعلمون ويحفظون الشعر ويتدربون على الرقص.. "أَهَا أَكْسَّا سْكِي..خُويا أَكْسا سْكي"..لم أفهم المقصود تحديدا بهذه الكلمات..غير أني أحسستها كمثل السمفونية الناظمة لعزف أُوركِسترا كبيرة مكونة من صفَّين مُتقابِلين، ولعل في وُقوفِهم واصْطِفافِهم ذاك تَماهٍ مع النَّخيل الباسِق المُحِيط بهم من كل جانب.... 1- من أبرز مظاهر بداية العرس التقليدي بإقليم زاكورة، تَولِّي بعض النِّسوة المُقرّبات من عائلة العريس من قبيل أخواته وجدته وعماته نقل "الجهاز" إلى بيت أهل العروس، وسط جو لا يخلو من أهازيج تدعو للزوجين الجديدين بالثبات في حياتهما وأن يرزقهما الله تعالى الذرية الصالحة. ويضم "الجهاز" الذي يقع عناء اختيار محتوياته على أم العريس، عددا من القفاطين والملابس التقليدية الخاصة بالمنطقة ك"القْتِيب" و"لِيزَار"، ناهيك عن مختلف أنواع الملابس والحِلِي والأحذية والعُطور والحناء والسكر والزيت وغيرها. فما أن يصل الوفد الرسمي إلى بيت العروس حتى يتم "إغراق" ملابس القادمات ب "الزهر" وهي التسمية الشائعة للعطر بالمنطقة، إضافة إلى تقديم التمر و"اللبن"، لتقوم إحداهن بعرض القطعة تلو الأخرى مما حوته حقيبة العروس وفق طقس خاص لا محيدَ عنه أمام أنظار قريبات العروس، مُرددة بصوت عال" جابْ الواد السكر، جاب الواد السكر، هاَكْ الخِير يامْنْ بْغاهْ" لتضع السُّكر جانبا، وتُعيد ذات اللاَّزمة مع تَسمية كل ما جَلبْنه بالتفصيل.. 2- العروس الشابة مخفيَّة معالم الوَجه مُحاطة بصديقاتها وأهلها يرقُصن ويُغنُّين ويدُقُّن على الدف و"الطَّعارج".. تتقَدَّم جدة العريس وتقوم بطَلْي "الحنَّة" على رأس العروس ولفه بثوب أبيض، ثم كسر بيضة عليه فلف الثوب الأبيض من جديد، لتتكفل أحد أقرب صديقات العروس بحملها على ظهرِها والذَّهاب بها إلى غُرفَتِها مثلما حملتها أول مرة وأتت بها.. 3- انتقالا إلى بيت العريس، يعمل "الوْزير" على مساعدة "مولاي السلطان" على امتطاء صهوة جواده وقيادته إلى حدود الساحة التي تتوسط "كَصر السفالات". يتحرك موكب العريس المُلثم وهو بكامل أناقته مرتديا جلبابا أبيض وسلهاما أسودَ مع رمانة صغيرة وحبتي لوز في "القُب"، مرفُوقا بجو احتفالي بهيج، فلا صوت يعلو فوق أصوات الأهازيج والأغاني المحلِّية ذات الحُمولات المَليئة بالحِكمة حينا وبالغزل حينا. وسط الساحة يتوقف الموكب، ليقوم الرجال بتشكيل صفَّين مُتقابلين وترديد مواويل وأهازيج متبوعة بحركات منتظمة للأرجل والأيدي لا تخطئها العين، ومُتوَّجة ب"زغاريد" النسوة مُعلنات عن إعجابهن برقصة "الرُّكبة".. 4- لا تتعب الزَّاكوريات من الرقص والغناء طيلة اليوم وأيام العرس الممتدة على مدى أربعة إلى خمسة أيام.. فهن كذلك من الصباح حتى تَحل العَشِيُّ وتصْفَر أشعة الشمس معلنة لنخيل الواحات الممتدة عن قرب رحيلها، ليبتدأ شوط آخر لا أحسبه إلى – مهرجانا- من أشواط وفقرات العرس الزاكوري الزَّاخر حد التُّخمة بالعادات والتقاليد العتيقة والجميلة والغريبة في آن. 5- هي ليلة يتم فيها تخضيب يدي ورِجْلي وناصِية العريس بالحناء، يُجلب للمرة الثانية إلى ذات الساحة المُحادية للواد الهائم وسط الواحة، يتجمهر حوله رجال "الكَصر" وأصدقاؤه من الشباب واليافعين، ليقوم وزيره بتزيين عينيه ب"الكحل" المصنوع أساسا من نواة التمر، وليلبسوه قفطانا نسائيا هذه المرة قد يكون لأمه على الأرجح. شرط أن يكون بينه وبين السماء ونجومها ثوب أبيض تلبسه النساء اسمه "ليزار". بعدها يجلس العريس في مكان مُخصص له وحده ومفروش بزرابي زاهية، ليَمُدَّ يديه ورجليه لتقوم جدته بوضع القليل من الحناء عليها وحولها النساء يصْدَحن بمواويل وكأني بهن يُناجين الزَّمن أو يُحاكين الواحة ويُذكِّرنَها بالأيام الخَوالي..هو مشهد يجعلك تستسلم لقشعريرة تعود بك إلى حنايا الموروث الثقافي الأصيل... حينها فقط يقوم الرجال بتنظيم صف طويل بعدد الحاضرين، يبدؤونه من اليمين إلى اليسار يطوفون حول العريس وحاشيته من النساء، ليُطلقن "ثلاث كلمات" كل "كْلْمة" عبارة عن أغنية معينة يبتدِؤها أحدهم، ويردد بعده الباقون.. 6- هو اليوم الموعود، والحدث المشهود..فالكل على قدم وساق لاستقبال العروس في بيتها الجديد والذي لا يعدو كونه بيت العائلة، مع تخصيص غرفة للزوجين الجديدين، حيث يقوم العريس بإصلاحها وتزيينها وتركها فارغة تماما من أي أثاث أو سرير..لأنها مهمة ليست من اختصاص الزوج، هي حتما مسؤولية تقع على عاتق الزوجة وأهلها.. من أجل ذلك، يقوم أهل العروس بإرسال أثاث ابنتهم وملابسها وسريرها وتلفزيونها وأوانيها وكل صغيرة وكبيرة قد تحتاج إليها إلى "غرفة الزوجية" قبيل التحاقها وواحدة من قريباتها قد تكون عموما عمتها أو خالتها أو ربما جدتها، فالأم لا تصلح لأن تنتقل مع ابنتها في ليلتها الأولى تلك، إلاَّ أنها تلتحق بدار العرس مع تباشير الصبح الأولى، حاملة معها ما لذ وطاب من المأكولات المحلية في مُقدمتها عدد من "الحمائم المحشوة" والحلوى والمشروبات والفواكه الجافة وغيرها..عَساها تَكُون فاتِحة خير وبركة عليهما.