لا يمكن أي رئيس أو ملك أن يتجاهل الدين. التجاهل جنون ما بعده جنون. فالدين حاضر ظاهر وإن اختفى عن الأنظار، أو توارى للخلف، أو أزيح بفصل عن السياسة والاقتصاد، أو اختار الكمون، والكمون من أخطر ما يكون. ها هي الانتخابات الرئاسية الأمريكية تقدم أكثر من برهان على أهمية الدين وتأثيره في تحديد رئيس أقوى دولة في عالمنا المعاصر لحد الآن، إذ أن حوالي 90 بالمئة من الأمريكيين يعلنون أنهم "مؤمنون". فمن اللازم على كل مترشح راغب في ولوج كرسي الحكم بالبيت الأبيض أن يفصح عن عقيدته وانتمائه الديني، وأن يلتقي بجميع القادة الدينيين ويتحاور معهم ويعدهم ويستمع لشروطهم، حتى يكون الأمر واضحا للجميع. وللولايات المتحدةالأمريكية قصة روحية متفردة، ولها خريطة دينية معقدة متشابكة، ولها منظمات دينية ضخمة تجاوزت يدها حدود بلادها نحو جميع بقاع الدنيا، ولها تقرير الحريات الشهير الذي يوزع النقاط الحسنة والسيئة على الدول، فيرفع من يشاء ويخفض من يشاء. وإذا كان المرشح الخائب مت رومني من طائفة دينية مورمونية، وهي طائفة كانت تعتبر إلى حد قريب فرقة مبتدعة صابئة، ولم تحصل على الاعتراف إلا بشق الأنفس، ومن أبرز مبادئها الدينية تعدد الزوجات بلا حصر، فإن أوباما الذي فاز بولاية جديدة حالة معقدة مثل بلاده ومثل تاريخ النصرانية في الغرب كله. التاريخ المتميز بالانقسامات والانشقاقات التي لا تكاد تحصى، كان أبرزها من زاوية الجغرافية السياسية والتاريخ السياسي معا هو ميلاد دولة الولاياتالمتحدة على يد البروتستانتيين الفارين بدينهم من اضطهاد الكاثوليكيين بالقارة الأوروبية العجوز، والتأسيس في حد ذاته تنفيذ لحلم ديني هو "أرض الميعاد" وتطهيرها من "الكفار" الهندوس. ومن الناحية الدبلوماسية الخارجية تؤمن واشنطن إيمانا عميقا أنها دولة مختارة من الله تحمل الرسالة لكشف الغمة وإنهاء الأزمة وطرد الشياطين الأشرار من الأرض والفضاء. في حملته الانتخابية ظل الرئيس يؤكد ويعيد أن الصلاة ركن ركين ضمن أعمال اليوم والليلة في كتابه وصحيفته، وأنه مدمن على قراءة ورده اليومي من الإنجيل. وفي مقطع فيديو يظهر الرئيس في صلاة جماعية مع أفراد عائلته وهو فيها من الخاشعين. ولا ينبغي أن نستخف بهذا، إذ أن الرجل جاد فيما يقول، ويبدو أن فهمه للإنجيل وطريقته الخاصة في الإيمان كل ذلك يؤثر على رؤيته السياسية ورؤيته للحياة والعمل. ففي مقابلة صحافية نشرت يوم 21 غشت 2012 في المجلة الدينية "واشنطن ناشيونال كاتدرال ماغازين" قال الرجل "إيماني المسيحي يمنح لي التصور الواضح والأمن اللازم على أنني مؤيد من الرب ومحبوب عنده". وهذا أمر ظهر جليا أيضا في السيرة الدينية الذاتية لأوباما التي كتبها ستيفن مانسفيلد تحت عنوان "إيمان أوباما"، إذ قال الكاتب "أوباما يعتقد أن إيمانه ينبغي أن يؤثر في الطريقة التي يحكم بها البلد، وبذلك يدخل القيم الدينية للمجال السياسي". وهذا ما لا يعرفه كثير من متزمتي العلمانية في العالم، خاصة في فرنسا وأبنائها الفاشلين بالمغرب العربي. وكثير من قراراته السياسية كان وراءها الضمير المسيحي، مثل قرار تعميم التغطية الصحية على 35 مليون أمريكي، وقرار إنقاذ مناصب الشغل في مصانع السيارات من قبل الدولة، وخطاب القاهرة الشهير حيث تحدث عن علاقة أمريكا بالعالم الإسلامي. وعلى عكس اليمين المسيحي، يعتبر أوباما من أشد مؤيدي الحق في الإجهاض، ومنذ ستة أشهر أعلن تأييده لحق الشاذين الجنسيين في العمل والأسرة. وهذه مواقف تجعل المحافظين المسيحيين يشككون في عقيدته لدرجة وصفه بغير المؤمن (التكفير يعني)، بل يعتبره آخرون مسلما يخفي إسلامه (وإذا وجد مسلم يؤيد الحق في الإجهاض، فهل يوجد مسلم يؤيد الشواذ). يردد أوباما كثيرا أنه "مسيحي بروتستانتي تقدمي"، وهذا تيار ديني تطور بالولاياتالمتحدةالأمريكية منذ القرن التاسع عشر في قلب الكنائس البروتستانتية التاريخية، وأنجب هذا التيار الإنساني الديني مفكرين مشهورين بالولاياتالمتحدة مثل رينولد نيبور(1892-1971) وهو من الأساتذة الملهمين لأوباما. في إحدى الكنائس الضخمة بضواحي شيكاغو (وهذه كنائس أمريكية جديدة تبنى على شكل قاعات رياضية مغطاة لها مدرجات تسع لألوف الناس وبها ملاعب رياضية وأسواق ممتازة وحدائق ومركبات تسلية...) بدأ أوباما مساره المهني، إذ التحق بها، بعد فترة شك وعقيدة مزعزعة، وهناك تزوج بميشيل المحامية الناجحة التي رافقته إلى البيت الأبيض، وهناك عمد بنتيه. قال عن تلك الفترة في خطاب الشهير أمام الكونغرس الأمريكي يوم 28 يونيو 2006"عندما انحنيت أمام الصليب بضاحيتي في شيكاغو شعرت بروح القدس يشير إلي ويمنحني عنايته وتأييده، فخضعت لإرادته والتزمت بالبحث عن حقيقته". تعليق واحد أكتفي به عند ختام توضيح الوجه الديني للرئيس الأمريكي أوباما، ذلك أن الفصل بين الديني والسياسي ليس سوى أسطورة وخرافة ضحك علينا بها غلاة اللادينية الفرنسية بسبب هيمنتهم الإعلامية ومساعدة المغرر بهم أو المغرورين الذين استعملوا هذه الخرافة حينا من الدهر لقهر الإسلاميين، ثم نكصوا على رؤؤسهم فعادوا يدافعون عن نقيض ذلك باحتكار الدين وتمثيله لأمير المؤمنين. وكثير من رؤساء فرنسا ذاتها كانوا مسيحيين مؤمنين، كل على طريقته، أبرزهم محرر فرنسا من الهيمة النازية الماريشال دوغول، والرئيس فاليري جيسكار دستان من اليمين، والرئيس الراحل فراسوا ميتران، واقرأوا أيها المتعنتون كتاب "على يسار المسيح.. نصارى اليسار بفرنسا من 1945 إلى يومنا" الصادر في شهر شتنبر الماضي. وإن كنتم لا تقرؤون فسنوافيكم بمختصر مفيد منه رغم تجاوزه 600 صفحة.