كانت الحركة الاحتجاجية التي عرفها الشارع المغربي ذات نزعة ثورية تتجاوز منطق التغيير من أجل التغيير. حركة تريد استئصال الفساد من جذوره ووضع حد نهائي للظلم الاجتماعي و القضاء على عهد التحكم و الاستبداد السياسي، عهد المقاربات الأمنية في حل المطالب الاجتماعية و السياسية.كان للمواطن المغربي تطلع إلى بناء صرح المستقبل، صرح الحرية و العدالة و الكرامة مهما كلفه ذلك من تضحيات.كانت حركته المباركة هدما و بناء: فهي حركة هدم لتركة كبيرة من الاستغلال المنظم و الاستبداد المشين الذي تنافس في إبداعه مصاصو الدماء لسنوات طويلة، وهي هدم للأصنام البشرية المتعالية على بني جلدتها والتي طالما ألهت نفسها و استأثرت بالخيرات و الثروات، وهدم لتجارب سياسية كثيرة قادتها نخبة تقليدية عاجزة صدئة متواطئة مع الظلم ،مكرسة للفوارق الاجتماعية، مستغلة لمدخرات الوطن، حارسة لمصالح المستعمرين القدامى و الجدد . وهي في المقابل حركة تأسيس وبناء للحاضر و المستقبل بسواعد أبناء هذا الوطن و بدمائهم و أحلامهم، بناء لصرح الأمل، بناء لعهد طال انتظاره ، عهد جديد يضخ ماء الثقة في النفوس، ويبث روح المواطنة في أعماق كل مواطن و يدفعه إلى عشق الوطن والإقبال على خدمته و المساهمة في تنميته. لم يكن المغربي يريد سماع الخطب الجوفاء التي تحدث قعقعة وضجيجا ولا تعطي نتاجا. لم يكن يريد تغيير أصنام بشرية قديمة هرمة بأخرى جديدة. لم يكن يريد سماع مفردات التغيير و عباراته في مقدمات اللقاءات و ديباجات النصوص و افتتاحيات الخطب.و إنما كان يريد الجرأة في إبداع سياسة تتمتع بطول النفس في مقاومة الفساد، وتعقب فلوله و استئصال جيوبه، لا سياسة انهزامية ترفع الراية البيضاء وتنسحب منذ الجولة الأولى.يريد سياسة تقف في وجه الباطل بالفعل لا بالقول .سياسة شجاعة في المواقف و الإجراءات لا في الخطب و الشعارات و المناظرات.سياسة تستأسد على الوحوش الضارية ،و تقلم أظفار الكواسر الجارحة ،وتضع القيد في يد كل خائن للوطن و المواطنين. يريد المواطن سياسة ترفع الظلم عن المستضعفين ،و تعيد الدفء والتوازن إلى جيوب الفقراء و المسحوقين. يريد سياسة حكيمة تحافظ على الاستقرار الاجتماعي و تتجنب بواعث التوتر و أسباب الانفعال وعوامل التصعيد،وتمتص الاحتجاجات و الاضطرابات بحكمة و بصيرة وبعد نظر. إن وطننا الذي أبدع دستورا جديدا متقدما في مضامينه يستحق عهدا سياسيا جديدا أيضا ينسى فيه المواطن آلامه و جراحاته القديمة، و يحقق فيه آماله وأحلامه التي صودرت من قبل و عبثت بها يد الظالمين و المفسدين .فما جاء به هذا الدستور من فلسفة سياسية و اجتماعية و اقتصادية يحتاج إلى سياسيين أكفاء قادرين على استثمار بنوده و فصوله و ترسانته القانونية ،يحسنون عبور هذه المرحلة التجريبية بنجاح وبدون تفريط في المكاسب. وهي فرصة لا تتكرر في التاريخ كثيرا. دستورنا الجديد تجاوز منطق التناوب بين الأحزاب ذات البرامج المستنسخة و سعى إلى تحقيق تناوب جديد بين الأجيال و الاجتهادات و التجارب السياسية. دستور يشجع على التجديد و الإبداع و يوفر كل الضمانات القانونية لتحقيق العدل و حماية المال العام و صون كرامة المواطن. دستور يطالب بتغيير في المضامين و في السلوكيات السياسية وفي العقليات المتحكمة في مقاليد الحياة. إن التغيير الذي ينتظره المواطن هو تحطيم تلك الهياكل النفسية و الذهنية التقليدية التي تعودت امتهان الناس و ابتزازهم و امتصاص دمهم و عرقهم. هو وضع حد للأجهزة البيروقراطية الصدئة التي تحتقر إنسانية المواطن و تستفز مشاعره و تتلاعب بمصالحه.هو تغيير نهائي في تلك السلوكيات الفاشيستية التمييزية الموروثة التي تصنف المواطنين إلى درجات أولى و ثانية و ثالثة ووووو. والتغيير أيضا هو قطع الصلة مع كل مخلفات سياسة النخب العقيمة التي انتهت مدة صلاحيتها و التي أنتجت الأزمات و الانتكاسات القديمة. وهو استئصال جذري للديموقراطية الشكلية المصطنعة؛ ديموقراطية الخطب و اللافتات التي تخفي وراءها سياسة التحكم الممنهج و الظلم المنظم و الاستغلال المقنن .هو قطع تلك الرحم التي طالما أنجبت الوضعيات المأزومة والكوارث الاجتماعية والاقتصادية و السياسية المولدة لليأس و الإحباط. هو قطع الشريان الذي يغذي معاقل الاستبداد ومنتجعات الفساد. التغيير المنتظر هو محاسبة صناع الأزمة وأقطاب الاستبداد السياسي و أباطرة الفساد المالي وتقديم من تورط منهم للعدالة لتقول كلمتها احتراما للقانون باعتباره أسمى و أعلى من كل منصب و جاه و نسب في دولة الحق والقانون ،و ليس العفو عنهم أو تمكينهم من استثمار ما نهبوه بتقليص الضرائب و تقديم التسهيلات. التغيير المنتظر هو إنصاف معتقلي الرأي و حماية حقوقهم وتعويضهم وعدم محاسبة الناس على نواياهم و اختياراتهم.التغيير المنشود هو احترام القدرة الشرائية للمواطن البسيط ودعمه ماديا لتجاوز السنين العجاف ، و ليس بجعل جيوب البسطاء أقرب حل و أسهل وسيلة لمعالجة الأزمات. لقد حمل الشباب المغربي معه ملفات كبيرة سالت من أجلها الدماء وبحت في سبيلها الأصوات وضحت لها النفوس. و لم يكن يطالب بأقل من تأسيس عهد سياسي جديد يسمع فيه صوت المغمورين وينصر فيه حق المظلومين وتستعاد فيه هيبة الأمة بعد حكم المستبدين ، وتصان فيه الحقوق الدستورية للمواطنين.وهذا الرصيد الثوري يجب أن يحفظ ، و أن يوضع كأساس لكل سياسة تدعي تعبيرها عن إرادة الشعب وعن طموحاته وتطلعاته. وذلك وفاء للدماء الغالية والأرواح الطاهرة و إخلاصا للثقة التي وضعها الشعب على كاهل كل من تصدر لسياسته و قيادته. النخبة السياسية الجديدة مطالبة باتخاذ مواقف واضحة من قضايا الأمة المصيرية، و بأن تكون لها كلمة صريحة تترجم ما في ضمير الشعب ،وألا تكتفي بالتنديد و عبارات الاستنكار التي طالما انتقدتها و استهجنتها.نريد نخبة سياسية جديدة فعلا مستقلة في قراراتها عن إملاءات الغرب ومواقفه. إذ لا تنمية ولا حرية و لا تغيير في ظل التبعية. النخبة السياسية الجديدة مطالبة بدعم المؤسسات العلمية وتشجيع الكفاءات و تحفيز العقول المبدعة في مختلف مجالات الإنتاج، مع نشر الوعي السياسي و الثقافي في الشارع المغربي عن طريق توظيف الإعلام المواطن الذي يبني القيم و ينير العقل و يهذب الذوق ويساهم في مسيرة الإصلاح السياسي و الأخلاقي و الاجتماعي. إن طموحنا اليوم هو مشاهدة مظاهر التغيير في القضايا الكبرى التي تحتاج إلى جرأة في الإبداع و تميز في التسيير و حكامة في التدبير دون الحاجة إلى تقديم شهادة حسن السلوك و النوايا إلى المؤسسات العالمية و القوى المتحكمة في سيادات الدول وسياساتها.نريد نخبة سياسية لها سقف سياسي أبعد و أوسع يتجاوز حل المشاكل اليومية، إلى امتلاك رؤية استراتيجية للقضاء على معيقات التنمية.نخبة مستعدة للتضحية بكل شيء من أجل المبادئ لا نخبة تضحي بالمبادئ من أجل أي شيء. نريد نخبة سياسية تسعى إلى تحقيق الوعود خدمة للوطن ،لا نخبة سياسية انتظارية لا تتحرك إلا بقرار فوقي أو بمباركة دولية. نريد نخبة سياسية تمارس الديموقراطية في الميادين و المؤسسات و ليس على اللافتات و الملصقات وفوق المنصات...نريد النخبة التي تحمل مشروعا تنمويا واقعيا وواضح المعالم، وتمتلك تفكيرا استراتيجيا يؤسس للمستقبل ويتجاوز حدود الزمان و المكان، لا نخبة تعيد إنتاج الأزمات و الخيبات، وتنتظر من الغرب القروض و الهبات مقرونة بالشروط والتعليمات. هذه بعض انتظارات المواطن المغربي ،وهذه بعض مطالبه التي عبر عنها بالصوت و الصورة، بالتصريح و التلميح ،وهو السقف المطلبي الذي لا يقبل التسويف أو التماطل أو الإرجاء .و أمله كبير في تحقيق ما كان من وعود،و خوفه كبير من أن يصاب بالإحباط و بخيبة الأمل و الانتظار،و رجاؤه كبير في أن تكون القيادة السياسية اليوم قد قرأت مضامين رسائله جيدا، و فككت شفرات كتابته، وحللت مداد كلماته.