سألتني إحدى الأخوات الفاضلات على صفحتي على الفايسبوك بمناسبة زيارتي لليبيا، عن سبب الانهزام المفاجئ للتيار الإسلامي في انتخابات المؤتمر الوطني، والتفوق اللامنتظر للتيار الليبرالي، وهو سؤال يشاركها فيه الكثير من المتتبعين للشأن الليبي وما أكثرهم، بل أنا نفسي قبل الزيارة كان سؤالا يحيرني ، كما حير غيري، ممن كانوا يجزمون بتفوق التيار الإسلامي، بل كانوا قبل الانتخابات التونسية والمصرية تراودهم بعض الشكوك في إمكانية حصول ذلك، أما ليبيا فكانوا مطمئنين لذلك غاية الاطمئنان، بسبب تدين الشعب الليبي الذي قد يفوق منسوبه ما هو بالبلدان الأخرى، وبسبب عدم وجود مجتمع مدني وتيارات متنافسة متدافعة فكريا في عهد القذافي، قبل أن تصعقهم نتائج التصويت، وتفاجئهم حصيلة العملية، بتفوق ليبرالي واضح، خاصة على مستوى القوائم، فما السر ياترى في هذه النكسة التي أصابت الإسلاميين بهذا البلد المتدين المحافظ؟ حملت معي هذا السؤال إلى ليبيا، وحاولت استقصاء الإجابة من أفواه كثير من أهل الشأن، في مختلف المناطق، ورغم أن الإجابات قد تكون أحيانا مختلفة ومتعارضة إلا أنني أزعم أني قد استقصيت كل الأسباب التي قد تكون سببا فيما كان من نتيجة غير متوقعة، وأجملها فيما يلي: - موقف الليبيين من التحزب: فليس من السهولة بين عشية وضحاها، تغيير ثقافة غرسها القذافي في الأذهان لعدة عقود، قائمة على تخوين كل انتماء للأحزاب، بل إن عبارة : من تحزب خان، لا زالت سارية التأثير على العقول والأذهان، وليس من السهولة بمكان تغيير هذه الثقافة ، وإبدالها بثقافة سياسية تزرع الثقة بين المواطنين والأحزاب. - موقف الليبيين من التيارات الإسلامية: فالشعب الليبي على تدينه لا زالت رواسب التخويف من الإسلاميين التي زرعها القذافي ماثلة بذهنه ومخيلته، فهي عقود طويلة من الحكم، لا تخلو خطبة من خطب الهالك، من التحذير من (الزنادقة) و (المتطرفين) و (الأصوليين)، وهذه الرواسب لا يمكن التخلص منها في سنة. قال لي أحد الفضلاء من أهل ليبيا: تخيل لو أن رجلا سليم العينين وقف أمام المرآة، وقال : أنا أعور، وكررها وأعادها، بعد نصف ساعة، سيدقق في عينه إن كانت سليمة أم لا، وسيتزعزع يقينه في نفسه وجسده، فما بالكم بعشرات السنين من التفزيع والترهيب؟. - مما يزكي السبب السابق، ما وقفت عليه بنفسي، من تخوف الناس من جماعة الإخوان المسلمين، والرهاب الذي يصيبهم عند ذكرها وذكر اسمها، بفعل الرواسب القديمة، فإذا كان هذا حال جماعة الإخوان، المصنفة حتى عند كثير من الغربيين، ب(المعتدلة )، فكيف بباقي الفصائل، كالجماعة المقاتلة (حزب تجمع الأمة الوسط حاليا)، والجماعات السلفية وغيرها؟. يحكي لي نفس الرجل الفاضل عن الحاج محمد صوان زعيم حزب العدالة والبناء(حزب جماعة الإخوان)، وكيف أن أحد محبيه كان يخاطبه مبجلا ويثني عليه وعلى أحوال البلد بعد الثورة، حتى قال: والله الأحوال كلها بخير، بس نسأل الله أن ينجينا من الإخوان، فقال الحاج: أنا من الإخوان ، فصدم الرجل حتى قال: أقسم بالله أنك لست من الإخوان. - ضعف التيارات الإسلامية في تواصلها مع عموم الشعب، وهذا تقصير صرح لي به كثير من كبرائهم، وهو أمر قد يعذرون فيه بسبب انتقالهم المفاجئ من السرية إلى العلنية، ومن المعارضة إلى الدولة، مما سبب لهم كغيرهم في باقي الدول إرباكا ، وجعلهم لأول مرة يحتكون بالشعب دون تجربة سابقة في أي عمل جمعوي أو شعبي. - قوة المنافس من الناحية الإعلامية، فأغلب القنوات الفضائية و الصحف المؤثرة على الرأي العام، يمتلكها الليبراليون والعلمانيون، وليس للإسلاميين تواجد إلا في بعض القنوات المحدودة الانتشار (ليبيا تف مثلا)، أو في بعض الصحف والإذاعات المحلية، والسبب يعود لعجز هذه التيارات عن تمويل مشاريع ضخمة كهذه، مع النقص الحاد في الأطر التي يمكنها الإشراف على مثل هذه المؤسسات. - قوة المنافس من الناحية المادية، والتيار الليبرالي يتلقى دعما واضحا من جهات غربية، ومن دول عربية كالإمارات ، التي يصرح حكامها علنا بمعاداتهم للإسلاميين، مما يمنحهم فرصة أكبر للتأثير على الناخبين واختيارهم. نعم، يقال أن بعض التيارات الإسلامية تتلقى دعما من بعض الدول كقطر، لكن تواجدي بالميدان، واطلاعي عليها عن قرب، جعلني أقف بإنصاف على وهاء هذه الإشاعة، إذ لو كانت حقيقية لما عطلت كثير من المشاريع الجاهزة بسبب العوز المادي، ومن أمثلة ذلك القنوات الفضائية التي تحدثت عنها في السبب السابق. - ذكاء المنافس في التسويق لنفسه، واستغلال ضعف الثقافة السياسية عند المواطن الليبي للتأثير عليه، فالتيار اليبرالي كان دخوله للميدان مدروسا ، ومخططا له بكل دقة وعناية، مركزا على نقاط الضعف عند الليبيين، مستغلا بعض الرواسب من العهد البائد، مع ضعف الإسلاميين عن مجاراة هذه الأساليب التسويقة المؤثرة، فكانت هذه النتيجة. - ثقافة الفرد الصنم، التي لا زال لها أثرها ومفعولها رغم هلاك القذافي، فغالب الليبيين لا زالت قلوبهم متعلقة بالفرد المنقذ، و الرمز الأعلى، والقائد الملهم، هم نقموا على القذافي ظلمه و سرقته للخيرات وسفكه للدماء، وليس الرمزية أو القيادة، فلذلك بعد هلاكه اتجهت القلوب للبحث عن منقذ يحل مكانه، ولما كان محمود جبريل الشخصية الأكثر تواجدا في الإعلام، والأكثر كاريزيمية بين المتنافسين، فقد ذهبت غالب الأصوات له. وقد كان جبريل واعيا بهذا المعطى،ذكيا في استخدامه، فلذلك كانت الملصقات الانتخابية للمرشحين التابعين له، عليها صور جبريل وليس صورة المرشح، فكان الناخبون يصوتون على حزب جبريل دون التنبه للمرشح الحقيقي، وهذا ما يفسر تفوق اللبراليين في القوائم وانهزامهم في المستقلين، حيث التصويت كان على الشخص بعينه وليس على الحزب. - ذكاء اليبراليين في التعامل مع موضوع الدين، فلما يعلمون من تدين الشعب الليبي ، حرصوا على التبرئ من علمانيتهم ، والدعوة لتحكيم الشريعة الإسلامية، ومنافسة الإسلاميين في إقامة مسابقات حفظ القرآن الكريم و الحديث النبوي، مما يجعل التفريق بين الفصيلين عند المواطن العادي أمرا صعبا يحتاج لدقة وتفحص. - عدم تفريق المواطن العادي بين فصائل التيار الإسلامي، فما يصدر من تجاوزات وتصرفات صادمة من بعض تيارات الغلو، تحسب على الجميع دون تفريق، وتتضرر منها باقي الفصائل، مما يزيد في توسيع الهوة بينها وبين عموم الشعب. هذه باختصار بعض الأسباب التي رصدتها لتلك النتائج الصادمة، والتي وقفت عليها بعد نزولي للميدان، ولقائي بكثير من القيادات الإسلامية بهذا البلد الكريم، وهي كالتوصيات لهم لتجاوز هذه الأسباب والعمل على تلافيها في المحطات المقبلة.