بدأت أفكر في نقل البندقية من كتف إلى كتف أخرى، وأعلنت توقفي مؤقتا عن كتابة مقالات التي أساهم بها في تعرية بعض الأوضاع التي نعيشها يوميا، وفكرت في تحرير خواطر "أدبية" يجنح من خلالها خيالي بعيدا عن أكوام الأزبال المرمية هنا وهناك في المدن الكبيرة والصغيرة، ويحلق بعيدا عن واقع السجون ومخافر الشرطة بالمغرب الذي تقيم فيها جالية مغربية محترمة جدا. كما عقدت العزم على الابتعاد عن الوضع الذي تعيشه، مدارسنا ومستشفياتنا التي تعشش في بعض غرفها المُهترئة الصراصير والضفادع. بكل صراحة، محاولة للهروب من بلاد مليئة بالمشاكل التي توجد "بالعرارم"، إلى بلاد جديدة، فالبلد الذي يسمى المغرب، صار مثل الأقرع أينما ضربته يسيل دمه، والصبر "تقادا" كما يغني بلخياط. قررت أن أعيش قليلا في عالم من الأحلام الوردية، وتوديع عالم الكوابيس المزعجة، وبمجرد ورود هذه الفكرة في ذهني، دلفت بدون تردد إلى أول مقهى وجدتها أمامي، متخذا ركنا قصيا، فتحت حاسوبي الثقيل، بعدما ربطته بالتيار الكهربائي، لأشحن بطاريته التي نفذت مثلما تنفذ نقودي في آخر الشهر الذي تزامن مع عيد الأضحى. وبمناسبة الحديث عن النقود، لا أدري كلما فرغت جيوبي منها، أبدأ في توجيه "النقد"، إلى بعض المسؤولين الذين لايهمهم سوى أنفسهم وأبنائهم الذين يدرسون بالخارج، ولا يلتفتون إلى أبناء الشعب. ربما يعود سبب ذلك إلى العلاقة الوطيدة بين "النقد" و"الانتقاد"، وهي العلاقة التي يعرفها صنف معروف من "الصحافيين"، بدأ بعضهم يتحرك قبل أيام بشكل مُريب، وهم فصيلة لا تنفع معها بيانات الحقيقة التي باتت تصدرها الحكومة على رأس كل ساعة. وحتى لا أكون سيء الظن، ربما يلجأ هؤلاء إلى "النقد" بسبب كثرة جيوب الملابس الكثيرة التي نلجأ إليها مع حلول كل فصل الشتاء، وفعلا كلما دس الواحد منا يده في جيوب سترته أو سرواله أو جاكيطته يجده "عامرة بالبرد"، لهذا يحاول منعدمي الضمير دسها في جيب من الجيوب "الساخن". قررت بعدما لم تنفع معي مهنة خطيب يوم العيد بمدينة سيدي سليمان، العيش في جلباب أديب ذي خيال جانح، قصد خوض تجربة من يعيش مستغنيا عن النقود، سيما أنها كما علمتنا محاضرات أستاذ الاقتصاد بمدرجات الجامعة بأنها (النقود طبعا، وليست الجامعة) مجرد رمز للثروة، وهذه الأخيرة أي الآنسة "الثروة" تربطها علاقة غرامية برجل يسمى الإنتاج. لهذا، عزمت على اقناع "رجل" يسمى "الإنتاج الأدبي"، ليشرب معي فنجان قهوة، ليساعدني في تحرير خواطر يمكنني فيما بعد جمعها في كتاب ضخم بعنوان "الأعمال الكاملة"، مثلما فعل مجموعة من الأدباء، ربما أحصل بذلك على جائزة نوبل للعذاب، (عفوا للآداب). من يدري ؟ فقد يُعجب أعضاء الأكاديمية السويدية بكتاباتي "الأدبية"، فأكون –والعفو من هذه الأنا- المُواطن العربي الثاني الحاصل على نوبل للآداب بعد المرحوم نجيب محفوظ، بعدما باءت محاولات شاعر سوري سمى نفسه أدونيس، بالفشل. لا مجال للحديث في شؤون أدبية، بسرعة طلبت قهوة سوداء، وأشحت بوجهي عن جهاز مُعلق أمامي بالمقهى ينقل بقلب قاسي لا يرحم أخبار التقتيل والأعاصير في سوريا وأمريكا، مع مباريات البارصا والريال، وينقل أيضا جلسة مملة جدا لبرلماني مجلس المستشارين، كما أقفلت هاتفي المتنقل وغرقت في الكتابة. "في مقهى قديم بمدينة الرباط، أمام محطة القطار، جلست أراقب خلف الزجاج، دموع آنسة عانس تسمى السماء، منذ ثلاثة أيام وقسمات وجهها الصبوح كانت تشي بغضب دفين تجاه مخلوقات تعيش فوق كوكب الأرض، الآنسة الحزينة تبكي لحال الفقراء الذين لم يجدوا نقودا يشترون بها أضحية العيد، وتبكي لوضعية مأساوية لمواطنين يعيشون في قمم الجبال والكهوف بدون حطب، تبكي لأبرياء يقبعون خلف القضبان بسبب انتقام من ضابط شرطة أو شطط رجل سلطة قاس القلب.. كانت السماء ملبدة بالغيوم، وتنظر بحزن شديد إلى مرضى مرميين فوق أسرة متسخة لمستشفيات تحمل أسماء أطباء كبار أمثال ابن سينا وابن رشد والرازي، لو بعث أحدهم لتبرأ باسم زملائه من وزير الصحة الذي لا يحترم حرمات الأموات، تبكي السماء لحوادث السير التي تحصد العديد من الأرواح بسبب تهور بعض السائقين وبسبب الطرقات المحفرة، أو بسبب رشوة بعض (الجدارمية) الذين يغضون الطرف عن المخالفات، تذرف السماء دموعا حارة في طقس بارد بسبب أطفال الشوارع الذين لا يجدون مكانا يلوذون فيه، وتبكي لأنها تراقب المختلين عقليا وهم يبيتون كل ليلة في العراء.. تبكي السماء بحرقة، بعدما استغل دموعها وزير اسمه أخنوش، في معرض جوابه على أسئلة البرلمانيين عن الوضع، فقال لهم إن السماء تمطر من أجل توفير ظروف مناخية مواتية للموسم الفلاحي الجديد، ولا يدري المسكين بأن السماء تبكي من أجل الأطفال والماشية وباقي مخلوقات الله، أما ذنوب وظلم البالغين من البشر فهي كثيرة ولولا الصبية والبهائم لما رحمنا الله بهذه الأمطار"، يخاطبني صوت داخلي "المسكين هو أنت، أما أخنوش فيملك ثروة تقدر بالملايير، ولايهمه أمر المطر، تصب أومتصبش". توقفت السماء عن البكاء، وتوقف معها شريط خواطري الذي بدل أن يتجول في بستان الأحلام، مثل أليس في بلاد العجائب، شرد بي مثل فرس حرون إلى مغارة الكوابيس. أنا واثق، بأن الأكاديمية السويدية لن تمنحني هذه السنة الجائزة.. لكن لا يهم سأردد مع صديقي سعيد، "طُز في نوبل"، وهي العبارة التي لازلت ذاكرة الشعب العربي تحتفظ بها من ذكريات حاكم عربي كان يُمسك الجماهيرية الليبية العظمى بقبضة من حديد لأزيد من أربعين سنة.. دكتاتور عصفت بها رياح الربيع الديموقراطي، ستحكي جدات المستقبل عنه لأحفادهن عن مغامراته، "غول" كان يسمى قيد حياته "معمر القذافي".. حاكم عربي أحسبه -شخصيا- من الذين قال فيهم القرآن : ( فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ) [سورة الدخان، الآية 29]. *صحفي وكاتب [email protected]