مع أولى تباشير صبيحة اليوم الخميس، بدأت فلول الباعة تأخذ أماكنها على جنبات سوق الخميس، السوق الأسبوعي لمدينة أولاد تايمة، بعضهم قضى ليلته هنا كي ينعم بمكان مميز يجعل خرفانه واضحة للعيان، وبعضهم انتظر حتى لما بعد صلاة الفجر ثقة منه أن الأماكن لن تنقضي، وذلك ما كان، حيث توسع السوق بشكل رهيب، وخرج عن مكانه المعتاد، ليستعمر حتى الأزقة السكنية القريبة منه، وطبعا لا مجال للساكنة من أجل الشكوى، فيوم "السويقة " لن يتجاوز 12 ساعة على أبعد تقدير، ومن الضرورة تحمل كل هذا الضجيج ما دام هدفه إحياء السنة الإبراهيمية.. لحظات قليلة، وتقريبا بعد الساعة السابعة، بدأ المشترون يملؤون أركان السوق، يتحسسون أجساد الخرفان والماعز، بعضهم يحمل الخروف بين يديه ليتأكد من وزنه، بعضهم الآخر يفتح أسنان البهيمة ليرى كم يبلغ عمرها، وبعضهم الآخر يتأمل الخراف من بعيد وكأنه يبحث عن علاقة الحب من أول نظرة.. اختلفت ألوان وتقاسم وجوه الباعة خلال هذا اليوم، لوهلة تعتقد أن كل ساكنة المدينة تمتلك خرافا وماعزا تريد بيعها، فليس "الكساب" هو الوحيد الموجود هنا، بكسوته التقليدية التي تحفظه من برد الصباح، وبالندوب على وجهه التي تؤكد أن آخر شيء يفكر فيه هو الاعتناء بمظهره، بل يوجد كذلك الشاب ذو اللباس الأنيق –ولو أن تراب السوق أثر على أناقته-، توجد كذلك المرأة التي صممت على اقتحام مهرجان البيع هذا، ويوجد كذلك أطفال أقل من سن 14 يضعون خرافهم وماعزهم على الأرض منتظرين ذلك المشتري الموعود.. من 600 إلى 3500 درهم.. طوال ساعات من التجوال في السوق، لاحظنا أن جميع الأثمان متواجدة، الجميع بمقدوره أن يضحي في هذا العيد :"كلها يعمر على قياس برادو" يقول أحد الباعة لما سألناه عن ثمن 3 خرفان يملكها فأجاب إتباعا: 1200 -1700- 2200.. هناك من تسأله عن الثمن فلا يجيبك سوى بجملة" عطاوني كذا.." مثل ذلك البائع الذي وضع خروفه الجميل في مزاد علني: الثمن بدأ من 3000 درهم ووصل حتى 4000 درهم، قبل أن يتراجع صاحب 4000 عن هذا الثمن الذي اقتنع أنه باهظا، ليتوصلا إلى تسوية قضت بانتقال الخروف السمين إلى دار الذبح بحوالي 3700 درهم.. هناك من الباعة من أحضر أزيد من عشرين خروفا، وهناك من أحضر فقط ثلاث أو أربع، وهناك من أحضر واحدا فقط، كذلك الشاب الذي سألناه عن ثمن خروفه الصغير ليجيب: 750 درهما، مردفا:" والله أخويا إلا ربيت عليه الكبدة..ولكن والوقت والزمان هذا..المصاريف تابعانا" يقولها بكثير من الحسرة حيث لم تقوى يده عن الابتعاد عن وجه خروفه الصغير الذي استأنس هو الآخر برفقة صاحبه، غير عالم أنه يقدمه للذبح مقابل ثمن زهيد.. "الحمد لله الخير كاين..ولكن كاين شويا ديال الغلاء" يقول سعيد موظف في الثلاثينيات من عمره، وهو يحمل خروفا اشتراه ب 1600 وعنزة ب 700 درهم، مؤكدا أنه اشترى السنة الماضية خروفا بنفس الحجم ب1400 درهم، لكنه يردف:" واخا هكاك..كتبقا هوارة رخيصة فالخرفان مقارنة بشي بلايص بحال كازا".. تنظيم أمني محكم.. "ميسي" هو اللقب الذي أطقته ساكنة مدينة هوارة على عميد الأمن الوطني بها، ففي ظرف أيام قليلة، استطاع هذا الرجل تنظيف المدينة من الكثير من المجرمين واللصوص، مما جعل من سوق المدينة يظهر آمنا باعتبار التجول الدائم لعناصر الأمن داخله، ليتجول فيه الناس بكثير من الحرية، عكس السنوات الماضية حيث كان اللصوص يرتعون به كيفما شاءوا، لا يخافون سوى من قبضة الباعة إن اكتشفت جرمهم.. السوق طالع..وهابط بعد اقتراب الظهيرة، بدأ الكثير من الباعة يحسون بقليل من الخطر، فهم يتخوفون أن يرجعوا في المساء إلى منازلهم مع خرفانهم، مما يجعلهم يضطرون لبيعها فيما بعد بثمن أقل بعد انتهاء العيد، أو الانتظار للسنة القادمة- إن توفرت لهم السبل للانتظار- لذلك، يحاول البعض التشبث بكل شخص أتى من أجل السؤال عن ثمن الأضحية، ففي بداية الصباح، كانوا لا يتنازلون عن الأثمنة التي يرونها مناسبة، لكن الحال اختلف الآن، وخفض مئة أو مئتان أو ثلاث مئة درهم من ثمن الأضحية لم يعد عيبا.. هناك من يحرص على الانتفاع ببركة السوق قبل أن يقرر أي خروف سيقدمه لأسرته، يشتري في الصباح واحدا ثم يبيعه بعد دقائق رابحا فيه مئتي درهم أو يزيد، يشتري واحدا آخر ويربح فيه تقريبا نفس القدر، وهكذا دواليك، حتى يستطيع توفير ثمن الأضحية انطلاقا من عمليات البيع هاته، لكن هذه العمليات تنطوي على كثير من المخاطرة، ما دام ثمن الأضحية قد ينزل، وقد يجد هذا الشخص نفسه يخسر عوض الربح.. عدنا إلى صاحب خروف كان قد أقسم أنه لن يتنازل عن 1600 درهم، لنجده قد باعه ب 1400، لما سألناه هل يخاف من نزول الأثمان تدريجيا أجاب: "السوق واعر أخويا..يقدر يطلع يقدر يهبط..اللهم نبيعوه ما حد رابحين فيه شويا".. ياك ما واكل الملحة؟ هكذا يسأل رجل في عقده الرابع وهو يتأمل جسد خروف سمين، أقسم له البائع بأغلظ الإيمان أن خروفه لم يكن يتناول سوى "الفصة والزرع والخضرة الشايطة"، وقدم له عنوان منزله مؤكدا له أن أقل عيب يجده في الأضحية، كفيل بأن يعيد له نقوده مضاعفة: "سير حتا تاكل..والعام الجاي غادي تعاود تشري من عندي".. الحيل التي يقوم بها البعض من أجل نفخ الأضحية كثيرة جدا كشرب الخروف للملح ونفخه بالهواء، غير أن بائعا قديما في السوق أكد لهسبريس أن الكثير من الساكنة هنا على علم بمثل هذه الأفعال، وهناك طرق عديدة للتأكد منها، مما يجعل من نجاحها أمرا مخاطرا فيه، غير أن هذا لا يمنع من أن تنطلي هذه الحيل على البعض، خاصة إن اشتروا من عند أشخاص غير معروفين.. مهن مرتبطة ببيع الخراف.. ليس الكسابة وحدهم من يربحون خلال هذا اليوم، فهذا اليوم يطبق مقولة" كول ووكل" بامتياز، كل من لديه عربة صغيرة قرر أن يجلبها إلى السوق ليحمل الخراف المختارة إلى منازل أصحابها، وهناك من أتى بالة دائرية يهذب فيها السكاكين وأدوات تقطيع الخروف، وهناك من رآها فرصة مناسبة لكي يوزع رقمه على المشترين متحدثا عن سيرته في ذبح وسلخ الأضاحي، وأن دقائق قليلة كفيلة بإنهاء عمله بكثير من الإتقان عكس ما يقوله عن منافسين له في المهنة "يديهم ثقيلة وخدمتهم ناقصة".. في انتظار الذبح.. الخراف تتأمل البشر في هذا السوق بكثير من اللامبالاة، لا تلقي بالا لما يقولونه عن أثمنتها، ولا تتحرك عندما يضع عليها أحد ما يده أو يحاول فتح فمها، كأنها تعودت على مثل هذه الأفعال، منها من يتناول الفصة، ومنها من اختبأ بين أجساد زملاءه كأنه يخجل من العيون التي تراقبه، ومنها من تأثر بنظرات الإعجاب التي يلقيها عليه كل من يمر قربه، ليقف شامخا مستأسدا واعيا بأنه الأغلى ثمنا وقدرا لدى الجميع.. لكن هل يعلم أن ثمنه لن يشفع له غدا عندما سيتحول إلى قطع لحمية تشوى على نيران هادئة؟ [email protected]