لعل المتتبع لمسألة الصحراء ومواقف الرأي العام الإسباني منها، خاصةً مواقف بعض الشخصيات السياسية والفنية قد يصاب بخيبة الأمل والغبن من الدعم الذي تقدمه هذه الشخصيات لحركة البوليساريو في سعيها للحصول على المصداقية في نزاعها مع المغرب حول الأقاليم الجنوبية. فبعدما شارك العام الماضي في جلسات الاستماع التي تنظمها اللجنة الرابعة للأمم المتحدة سنوياً بخصوص مسألة الصحراء، والتي تخول فيها لمنظمات المجتمع المدني التعبير عن موافقها تجاه قضية الصحراء، قام الممثل الإسباني Javier Bardem بإنتاج فيلم قصير بمعية المخرج السينمائي الإسباني Alvaro Longoria تم عرضه يوم الثلاثاء 16 أكتوبر الجاري في إحدى القاعات السينمائية في نيويورك، حيث يعرض لما يسميه معاناة الصحراويين في الأقاليم الجنوبية، في تغاضٍ تام عن المعاناة اليومية وللظروف القاسية للصحراويين المتواجدين في مخيمات تندوف تحت القبضة الحديدية لقادة البوليساريو والنظام الجزائري. ولعل هذا النظرة المنحازة لهؤلاء الفنانين تظهر للعيان مرةً أخرى مدى الهوة العميقة التي لا زالت تفرق بين شعبي ضفتي البحر الأبيض المتوسط. ولعل الرأي العام المغربي في مجمله يبقى في حيرة من أمره حينما يرى كل مرة تحامل وسائل الإعلام الإسبانية والمثقفون والفنانون الإسبان باختلاف أطيافهم وتوجهاتهم السياسية ضد المغرب وسعيهم الحثيث إلى تشويه سمعته على الصعيد الدولي وزعزعة استقراره السياسي. لا يجد المغاربة تفسيرا للتضامن الإسباني الكبير مع الصحراويين وللأصوات الكثيرة التي ترتفع يوميا لتذكير المسؤولين الاسبان بما تدعي أنه دينهم المعنوي وواجبهم المتمثل في ممارسة ضغوط على المغرب لحمله على احترام القانون الدولي فيما يتعلق بقضية الصحراء، بينما قليلون هم من يستنكرون الحصار الذي تفرضه البوليساريو على الصحراويين المتواجدين في مخيمات تندوف والقمع الذي تتعرض له كل الأصوات التي تدعو إلى تبني نهج آخر لحل النزاع على رأسها مصطفة سلمى ولد سيدي مولود واختلاس المعونات الإنسانية الموجهة لسكان المخيمات والتي تباع في السوق السوداء في موريتانيا ومالي، وغيرها من الخروقات. قليلون كذلك هم الإسبان الذي يستنكرون تبعات الاستعمار الاسباني في شمال المغرب والعواقب الوخيمة التي خلفها، بما في ذلك قيام الجيش الاسباني بقصف منطقة الريف بالغازات الكيماوية المحظورة بعد هزيمته في معركة أنوال في يوليو 1921. وكما أوضح ذلك العديد من الخبراء والباحثين الاسبان والأجانب، مثل ماريا روزا دي مادارياغا والباحث البريطاني سبستيان بلفور، فبالإضافة إلى حقيقة أن المسؤولين الاسبان انتهكوا التزاماتهم الدولية بشأن حظر استخدام الغازات السامة وفقاً لمعاهدة فرساي (1919)، فلا زال للقصف، الذي اقترفوه ضد سكان الريف بالغازات الكيماوية، عواقب وخيمة على سكان هذه المنطقة، إذ أن هذه المنطقة تسجل أعلى معدل لمرضى السرطان في المغرب. ويُفسر الباحث البريطاني سيباستيان بلفور ذلك بما كان يحتويه غاز الخردل، الذي تم استخدامه من قبل الجيش الإسباني ضد السكان العُزل لمنطقة الريف، من مواد تسبب تشوهات وراثية لا يمكن التخلص منها، مما أدى إلى انتقال السرطان من جيل إلى آخر. ومع الأخذ في الاعتبار أن هناك أكثر من 200 من الجمعيات الاسبانية التي تقدم الدعم للسكان الصحراويين في تندوف وأن آلاف العائلات الاسبانية تستقبل كل صيف نحو 10000 من الأطفال الصحراويين، يود المغاربة لو قام الاسبان بإظهار نفس روح التضامن مع ضحايا الغازات السامة في منطقة الريف. يود المغاربة كذلك لو كان هناك العديد من الجمعيات والمنظمات غير الحكومية الاسبانية التي تناضل من أجل الدعوة لإعادة تأهيل ضحايا هذه الحرب والضغط على السياسيين الإسبان لدفعهم إلى تقديم اعتذار رسمي، نيابة عن المواطنين الإسبان، عن الأحداث المأساوية التي شهدتها منطقة الريف بعد انهزام الإسبان على يد زعيم المقاومة المغربية في الريف البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي. وفي هدا الصدد، تجب الاشارة إلى أن اسبانيا تعتبر الدولة الوحيدة من بين الديمقراطيات، التي لم تقم بعد بالتصالح مع تاريخها ولم تجرؤ على تصحيح ماضيها الاستعماري من خلال الاعتراف بما اقترفته ضد سكان مستعمراتها طوال الحقبة الاستعمارية. بالنسبة للمغاربة، يعتبر الدعم المقدم من قبل الرأي العام الاسباني لكيان وهمي مؤشراً واضحاً يبرهن على أن الإسبان لم ينجحوا بعد في التخلص من نظرتهم السلبية والعدائية للمغرب، وعدم وجود الرغبة في أوساط طبقة من الرأي العام الإسباني في العمل على بناء مستقبل جديد للعلاقات بين المغرب وإسبانيا تكون سماته الأساسية الاحترام المتبادل والقضاء على عوامل التباعد والخلافات بين شعبيهما. الكتب المدرسية والعلاقات بين المغرب وإسبانيا كيف يمكن، إذن، تفسير انعدام تضامن شريحة كبيرة من الرأي العام الاسباني مع الموقف المغربي، واستمرار فئة عريضة من المثقفين والإعلاميين وصناع الرأي الإسباني في اعتبار المغرب البلد الوحيد القادر على تهديد الاستقرار السياسي والاقتصادي لإسبانيا؟ هل يبني أولئك الذين يستغلون أي تحرك للمسؤولين المغاربة بخصوص اسبانيا لتنبيه القراء حول مكر المغاربة، أحكامهم على حقائق موثوق بها تشهد على صحة ادعاءاتهم، أم أن اعتمادهم المتكرر على معلومات مغلوطة يوضح الصعوبة التي يواجهها الإسبان في التخلص من كراهيتهم التاريخية المتجذرة وخوفهم تجاه جارهم الجنوبي؟ إن إعطاء إجابة تستند إلى أدلة لهذه المسائل يتطلب التعرف عن قرب عن الصورة التي تروج لها الكتب الاسبانية عن العلاقات بين اسبانيا والمغرب وتأثير هذا الأخير على التطور التاريخي لإسبانيا، ولا سيما خلال القرن العشرين. فقط من خلال تحليل هذه الصورة، يمكننا أن نكون قادرين على معرفة سبب غياب تضامن الشعب الاسباني مع جاره المغربي. ففي واقع الأمر، فإن الطريقة التي تعالج بها الكتب المدرسية الاسبانية تاريخ العلاقات بين اسبانيا والمغرب تعتمد إلى أبعد حد على إشاعة وتكريس الأكاذيب والمعطيات التاريخية المغلوطة والمشوهة. وقاد أشار مؤلفو كتاب ‘الإسلام في الفصول المدرسية' (El Islam en las aulas) (1997)، إلى أن الكتب المدرسية الاسبانية تقدم قراءة مبتورة وجزئية للعلاقات المغربية الإسبانية خلال القرن الماضي. وهي قراءة مبتورة إلى حد أن بعض الكتب المدرسية التي تعالج هذه المسألة لا تكلف نفسها عناء مجرد الإشارة إلى استخدام الغازات السامة من قبل الجيش الإسباني ضد أهالي منطقة الريف. بالإضافة إلى ذلك، تغض هذه الكتب المدرسية الطرف عن الفترة ما بين 1927، تاريخ نهاية ما يسمى ‘حملة التهدئة'، واستقلال المغرب. وفي واقع الأمر، فمن خلال التغاضي عن التطرق بإسهاب لفترة التواجد الإسباني في المغرب، يهدف مؤلفو الكتب المدرسية إلى تجنب الحقيقة التاريخية التي مفادها أن السكان العُزل لمنطقة شمال المغرب كانوا ضحية سوء معاملة الجيش الاسباني ولسياسة التخويف والإرهاب التي تم تطبيقها بطريقة عشوائية ضدهم من أجل القضاء بشكل نهائي على مقاومتهم للوجود العسكري الاسباني. كما تتغاضى هذه الكتب المدرسية عن تنوير عقول الشباب الإسبان وإخبارهم بأن الأغلبية الساحقة من المغاربة الذين شاركوا في الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939) كانوا مجبرين على التضحية بحياتهم والدفاع عن الإيديولوجية الدكتاتورية الفرانكاوية. بل ما هو أسوأ ويعكس التزام بعض المثقفين وصناع الرأي الاسباني بتكريس الأكاذيب الاسبانية وإظهار طبيعة الإيثار ونكران الذات المزعومة للتواجد الاسباني في المغرب، هو أن بعض مؤلفي الكتب المدرسية لم يترددوا في تقديم أكاذيب تتناقض بشكل صارخ مع الوقائع التاريخية. ففي واحد من الكتب المدرسية، ذهب المؤلفون إلى حد ادعاء أن اسبانيا قامت من تلقاء نفسها بإنهاء وجودها في المغرب، مما اضطر فرنسا أن تحذو حذوها في المنطقة التي كانت تخضع لسيطرتها: "في اللحظات الأكثر خطورة في نضال المغاربة من أجل الاستقلال، كان موقف الحكومة الاسبانية يتسم بالاحترام للشعب الذي كان تحت حمايتها، وهذا هو السبب الذي دفعها إلى عدم الموافقة على نفي الملك محمد الخامس من طرف فرنسا (1953)، التي كانت تبسط سيطرتها على بقية الأراضي المغربية. على العكس من ذلك، بعد ثلاث سنوات من وقوع ذلك، قامت إسبانيا بمنح الاستقلال للمنطقة الخاضعة لها، مما أجبر فرنسا على التخلي عن مستعمرتها في المغرب". بالنظر لهذه القراءة المتحيزة والمغلوطة لتاريخ العلاقات المغربية الإسبانية، ومع الأخذ في الاعتبار أن الذاكرة الجماعية الإسبانية تعتبر المغاربة دائما مصدر أسوأ الصدمات والكبوات التاريخية التي عاشها بلادهم خلال القرن الماضي، كما كان الحال خلال حرب الريف والحرب الأهلية الإسبانية وعندما استرجع المغرب الصحراء عن طريق المسيرة الخضراء مستغلاً احتضار فرانكو، فإنه ليس من المستغرب أن الأغلبية الساحقة من الرأي الاسباني لا تزال تظهر عداءها للنهج المغربي فيما يتعلق بهذا النزاع. كما أنه ليس من الغريب أن يثير أي موقف للمسؤولين الإسبان لصالح الأطروحة المغربية استنكار الرأي العام الإسباني، كما كان الشأن عقب إخلاء مخيم العيون في نوفمبر 2010، حيث فضلت الحكومة الإسبانية عدم استصدار أي بيان ينتقد أو يدين تدخل القوات المغربية لإخلاء ذلك المخيم، وبالتالي، تفادي وقوع أي أزمة دبلوماسية بين البلدين بسبب قضية تخرج عن النطاق الضيق للعلاقات الثنائية بين البلدين. من أجل البدء في عملية المصالحة بين المغاربة والإسبان وبناء علاقة مبنية على الاحترام المتبادل والتفاهم وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لكل بلد، فقد حان الوقت لأن تقوم وسائل الإعلام الاسبانية والكتب المدرسية وصناع الرأي بالتوقف عن تكريس حقد وعداء الرأي العام الإسباني ضد المغرب وشعبه ومصالحه الاستراتيجية، وأن تقوم بتوعية الأجيال الصاعدة من الإسبان بالجرائم التي ارتكبتها إسبانيا ضد سكان عزل كان ذنبهم الوحيد هو الدفاع المستميت عن أرضهم وثقافتهم وهويتهم، مما يبين أن المغاربة كانوا ضحايا وحشية وقصر نظر السياسيين الإسبان. إن بناء علاقات ثنائية متينة وسليمة بين المغرب وإسبانيا لا يمكن أن يتم من دون التأسيس للمستقبل وطي صفحة الماضي بشكل نهائي. غير أنه لا يمكن تحقيق هدا المبتغى إلا إذا قامت الدولة الإسبانية بمعالجة شمولية لكل القضايا التي لا زالت تلقي بظلالها على هذه العلاقات، وعلى رأسها تقديم اعتذار رسمي للمغرب عن الجرائم التي ارتكبتها إسبانيا بحق جارها الجنوبي، بما في ذلك استعمال الغازات السامة المحظورة ضد المدنيين الأبرياء لسكان الريف وإجبار أكثر من 70 ألف من سكان هذه المنطقة على المشاركة في الحرب الأهلية الإسبانية. لذا، وفي ظل الرفض القاطع للحزبين الحكوميين الإسبانيين تقديم أي اعتذار رسمي للمغرب أو حتى الإقرار باستعمال بلدهم للغازات السامة ضد المغرب، ينبغي على الملك خوان كارلوس أن يقوم بتقديم اعتذار للشعب المغربي، خاصةً وأن من أعطى أمر استعمال تلك الغازات ضد سكان الريف هو الملك ألفونسو الثالث عشر، جد الملك خوان كارلوس. إن المبادرة التي أطلقها رئيس الوزراء الإسباني السابق، رودريغيز ثاباتيرو، في سبتمبر 2004 بخصوص تحالف الحضارات (برعاية مشتركة مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان)، تعتبر بلا شك خطوة جديرة بالثناء بما أنها تسعى لسد الفجوة الثقافية التي تفصل بين المسلمين والغربيين. لكن حتى لا يبقى هذا التحالف بين الحضارات صدفة فارغة، ولكي تكون للحكومة الاسبانية مصداقية في الجهود التي تبذلها في قيادة التقارب بين الغرب والإسلام، فينبغي أولاً وقبل كل شيء، أن تكون لها الجرأة السياسية لفتح مناقشة تهدف إلى إعادة التفكير في الطريقة التي ينظر من خلالها المثقفون والنظام التعليمي ووسائل الإعلام في إسبانيا إلى أقرب ممثل للحضارة العربية والإسلامية في جنوب البحر الأبيض المتوسط. ألم تؤكد المؤتمرات التي عُقدت حتى الآن من قبل مجموعة تحالف الحضارات على أن واحدة من أهم الخطوات التي يجب اتخاذها من أجل بناء مستقبل مبني على التفاهم والاحترام المتبادل بين الغربيين والمسلمين تكمن في مكافحة الصور النمطية والنزعة إلى تشويه سمعة الآخر؟ لا شك في أن الطريقة التي تتعامل من خلالها وسائل الإعلام الاسبانية وفئة عريضة من المثقفون وصناع الرأي مع المغرب واستمرارها في إعطاء صورة عدائية عن هذا البلد وشعبه وثقافته وتاريخه ومصالحه الاستراتيجية تتناقض بشكل صارخ مع هذا الهدف. • مستشار سياسي في الأممالمتحدة • مختص في العلاقات المغربية الاسبانية وقضايا الصحراء • مدير موقع http://www.moroccoworldnews.com