يقول بوردون: "غادرت صحبة الجنرال "درود" المعسكر مع يوطنا الباخرة "فاي" حيث قال يومها كلمة نقشت في ذهني: إنها أول مرة تخوض معركة مع المغاربة أطلب منك وأنت الذي كنت في الداهومي وطونكير بالفيتنام والصين. ما هو الذي كونته عن الخصوم؛ أجاب: إنه لأمر غريب هناك بديهة تكتيكية تأتي دائما على أفواه أساتذة المدرسة الحربية وهي: "ثبت العدو وتصرف"، حسنٌ المغاربة الذين لم يدرسوا أبدا هذا التكتيك وجدوا دفعة واحدة هذه الحقيقة وهو أساس ما فعلوه بالأمس، لقد حفظت هذه الملاحظة الحكيمة التكتيك الذي جعلناه علما ليس شيئا آخر غير التطبيقات في الاتجاه الصحيح (ص59). الجنرال نظر في عيني كأنه يريد أن يستملني، وتابع كأنه يحدث نفسه: إذا كانت هذه جزء من الحرب وقد يأتيني من خلف ظهري ما لا أقدر من آلاف المغامرين مثل هؤلاء، فنحن سنتكلف حقا، أليس كذلك؟ هذا ما أرى؛ أنا لا أرى شيئا نثأر له، أعلم جيدا ماذا هنا؟ ماذا يعنيني حراسة المدينة، لا شيء غير المدينة، لا شيء آخر مع بعض الأفراد لا يمكن أن أعمل شيئا؛ لن أعمل شيئا. أفكر في 3000 رجل، حقا ليس لي 3000 رجلا مستعدا، تكلفت بتنظيف كل الساحل من الصباح للمساء، مفروض علي القتال ضد ضباطي، وأيضا هناك حراسة المدينة، لو استعملت ل"مانجان" لذهب الكل ولم أجد حولي إلا ما بين 120 و125 رجل، ماذا تريد أن أفعل بهذا؟ أليس كذلك؟ تقدم إلى الأمام، تقدم إلى الأمام، من السهل قول هذا، لكن كيف؟ الحقيقة أني لا أستطيع عمل شيء، لأني لن أعمل ما دمت لا أتوفر على عدد كبير من الرجال. في باريس لا يعرفون ما يحيط بي لأن هنا أشياء حقيقية، إذا لم أترك شيئا للصدفة، وإذا لم أحدث جرحا بدون انقطاع، هناك آخر، إذا كنت إنسانا مستقيما غير متجاوز للتعليمات الحكومية لكن مهما كان الذي يقال لن أقوم إلا بما أرى أنه يجب أن يقام به) (ص79-80). بمقارنة ما يمكن تسميته بالخواطر أو الملاحظة الحكيمة كما سمّاها "بوردون" مع ما تمسك به ضباط باخرة جاليلي ونفذوه مع باقي الأسطول الفرنسي ضد الدارالبيضاء، ما جعل "بوردون" يقول بأن: "رجال الشاوية يحتقروننا؛ يقولون: لقد قام الفرنسيون الكلاب بمجهود لأنهم محميون بالمدافع والبوارج لكن عندما سيخرجون من مخابئهم ويأتون لأرضنا ويتجرؤون على الظهور وجها لوجه ستجدهم يرتجفون ويغادرون الشاطئ، سيأخذ المغاربة الثأر من القنابل التي دمرت مدينتهم (ص65). أما كيف ومتى وأين سيتم ذلك فهو ما سيظهر في المواجهات الأولى حول الدارالبيضاء ثم في باقي الجهات بالشرق والجنوب والشمال مما سيرغم الفرنسيين الذين قالوا بأن: غزو المغرب سيكون نزهة، سيسعون إلى القول بسياسة التهدئة وبقعة الزيت والمغرب الممكن والمغرب المحتمل، وكأنهم لم يقرؤوا وإن قرؤوا لم يستوعبوا ما جاء في كتاب "جون هيرس" الصادر سنة 1903م حيث قال بأن: "صعوبة غزو المغرب تتجلى في قبائله المسلحة بالبنادق السريعة الطلقات الكارهين للأجانب والمتعصبين والمتكتلين في وجه الاحتلال" (ص229)، مضيفا: "صحيح أنه ليس بالمغرب إلا جنودا قلة سيؤون، وأنه ليس هناك مغربي يولد جنديا لأن الحياة المغربية لا تتطلب أن يكون المغربي مهيأ ليكون جنديا كما هو عندنا، لكن كل المغاربة مقاتلون، أمام سلاح الجنود سيظهر لك المغاربة في كل مكان بالآلاف وآلاف المحاربين المسلحين الذين يحاولون الموت أكثر من غيرهم الأجانب (ص235). بيد أن آراء الفرنسيين الكتاب سواء الأنسكلوبيديون أو الرحالة أو الدبلوماسيين لم تعتبر هذا الكلام. يقول "شارل دو فوكو": يجب إلحاق المغرب بالجزائر ومثله "ديدير"، فمنذ 1836 والكتاب الفرنسيون يصرحون بضرورة امتصاص المغرب من طرف الأوربيين، يرى "دوماليتري" أن علينا الإشارة بحكم المغرب ولا يعتقد "أركمان" أن المغرب سيتحضر طوعا، ويعتقد "دومارس" أننا معنيون بحكم المغرب، ويعتبر "مونتبارد" أن المغرب لعبة، أما "أركمان" فيعتبر أن المغرب سيتقدم بالصقل والحث الجيد، أما "فلابير" 1884 فيقول: يجب علينا ولنا كامل الحق في التصرف بالمغرب وإن كان أمرا صعبا، أما "كامبو" فيرى أنه يجب أخذ المغرب لأنه بلد غني (ص93 هيرس). تلك بعض آراء الأنسكلوبيديين الذين قال "هيرس" بأنهم أجمعوا على إدانة المغرب. أما كتاب المجلات حسب نفس المصدر دائما فإنه يرى من خلال قراءته لأكثر من 3000 رقم في المكتبة المغربية بأنهم يقدمون المغرب للقراء كالتالي: (مسكين المغرب سيء الإدارة، قطعة مجهولة..، يجب أن يختفي. كاتب بلجيكي يرى مستقبل الحضارة بإفريقيا لن تتم إلا تحت الحماية البلجيكية بالمغرب. المغاربة سيؤوا التسليح، غير مؤدبين ولا منضبطين. حكومة المغاربة غير مستقرة، ما فتئوا يقهرون المسيحيين مما يجعل هؤلاء الأخيرين متفقين على تمزيقهم وقهرهم) (ص94-95 هيرس). أما "أركمان" الضابط الذي عمل حرابا في المغرب فنقل عنه قوله: "بأن شعار المغاربة الجدير بهم هو المثل العربي المقدم في وسط كتابه الذي يقول: (هناك أناس يتهمون بأنهم قادرون على سرقة أسنان محاورهم دون أن يشعر بذلك) (ص99). ويقول أيضا "هيرس": هل تريدون أحسن إنجاز بالمغرب مختصر وحاسم دون سفسطة، "مونطبارد" يقدمه لنا: (إنه البوتقة التي تذوب ماشية الأسود، وقساوة العربي، ودهاء المور، وخداع اليهودي، حفنة من الخسة والجحود، حثالة شعوب أوربا، تقدم كنتيجة: المغرب. تركيبة من كل العيوب، عملة عديمة النفع، ضرر سيختفي أمام اجتياح الغرب) (ص98)، ويورد نفس المؤلف أيضا أن السير نحو فاس ليس سوى نزهة عسكرية، لكن خدمات أولئك الجنود في نزهتهم مكلفة أيضا وستعاد على شكل تعويضات حربية (ص239)، مع العلم -يقول- بأن التعويضات الحربية من عوامل الغنى لأنه يؤدى منها تكاليف الحرب، كما أن كلفة الاحتلال تغطيها الضرائب المفروضة على المحتلين، وتبقى الضرائب على العمليات التجارية الأجنبية العالمية تنمي عملياتنا التجارية الوطنية) (ص239 نفسه). ولذلك عندما نغزو المغرب، ونقيم مكاتبنا الإدارية، ويرفرف علم الحضارة فوق المآذن والأسوار المحطمة في المدن العواصم بالمغرب نتيجة قصف مدافعنا لها؛ سيتحول كسل المغاربة إلى حمى إنتاجية في كل المجالات (ص242 نفسه). أما "روني ميل" أحد سفراء فرنسا فيرى بأنه: (منذ السنوات الأولى لتواجدنا بالجزائر جذبنا ساحل المغرب.. ولمدة نصف قرن من المنع أثقل سياستنا الإفريقية بحيث لم يكن لنا غنى عن المغرب في جعله تحت إدارتنا، وقد ابتهجت فرنسا باستخدام حقها في ملاحقة القبائل على الحدود إذ لا يمكن لأي قوة أخرى أن تحل محلنا (ص4)، بيد أن مفتاح المغرب لم يكن يوجد بالحدود ولا في فاس ولا طنجة، ولكن في التباحث مع القوى التي تعارض حركتنا فيه، وهو ما تم في مؤتمر الجزيرة، وبعد أقل من خمس سنوات ها نحن في وجدة من أجل الثأر لمقتل "موشان" وفي الشاوية لمعاقبة القتلة بالدارالبيضاء (ص12)، فالمسألة إذن ليست مسألة (أن الحضارة تقتضي غزو المغرب من طرف الأوربيين (ص244 هيرس) حبا فيهم، ولكن من أجل إنشاء طريق مباشرة من وهران تقود إلى فاس ومكناس عن طريق وجدة وتازة مخترقة ملوية عبر طريق سكة حديدية). * باحث في علم الاجتماع الديني والثقافي، وعضو اتحاد كتاب المغرب، وعضو الجمعية المغربية لعلم الاجتماع، وعضو الجمعية العربية لعلم الاجتماع، وعضو رابطة علماء المغرب.