من بين الرموز البارزة التي تمثل بلاد الأراضي المنخفضة (هولندا) على الخارطة الدولية نذكر البقرة الهولندية وفانْ خُخْ (Vincent van Gogh ). البقرةُ الهولنديّة في المغرب غنية عن التعريف بفضل لبنها الوفير وجمالها الكثير؛ أما فانْ خُخْ فلا تعرفه إلا قلة قليلة من المهتمين الذين عادة ما ينطقون الاسم الشخصي لهذا الفنان الهولندي نطقا فرنسياً فيكتبونه: "فانسانْ" بالعربية؛ ثم ينطقون ويكتبون اسمه العائلي إمّا "فانْ كُوخْ" أو "فانْ جُوغْ" أو "فانْ جوخْ" أو "فانْ غوغْ". أما الصحيح فهو: فِنْسَنْتْ فانْ خُخْ. وُلِد فانْ خُخْ سنة 1853 وفاضت روحه سنة 1890 بعد أن وضع حدّا لحياته برصاصة أطلقها على صدره من بندقية قنص تقليدية. وقبل ذلك بأيام، كان فانْ خُخْ قد بَتر إحدى أذنيه تعبيراً على شعوره بإحباط شديد صاحَبَه طوال حياته القصيرة. وقدْ قيل إن فانْ خُخْ فقدَ صوابه فقصّ أذنه ثم قصَّ من عُمُره. وعلى ما قيل سنرُدّ بكلام بسيط نتأمل فيه شخصية فانْ خُخْ على ضوء بعض مكونات العقلية الهولندية، في محاولة لإنصاف هذا الرجل الذي رسم البطاطا والخوخ والكوخ ورفض أن يرسم البقرة الهولندية، لسببٍ لا نعرفه. فان خُخْ، في اعتقادنا، لم يفقد صوابه، بل كان يعاني من فراغ عاطفي وروحي ومن فقدان الحنان والتفهم، لأنه كان ذا إحساس مرهف لا يختلف عن الذي نجده عند جلّ المبدعين الرومانسيين. وكم مِن مواطن هولندي عادي جُنّ على طريقة فانْ خُخْ وقصّ ما شاء من جسده وحياته ولكننا لم نسمع عنه شيئا لأنه لم يكن في مستوى فناننا من حيث الشهرة والعبقرية. ويَحْضرنا في هذا السياق ذالك المشهد من رواية "أحلام بقرة" (1988) للكاتب المغربي محمّد الهرّادي الذي يوجه فيه الطبيب هذه الوصية إلى بطلٍ غير بطوليّ يُدعى محمّد قبل أن يُزرع دماغه في رأس بقرة: "كُنْ حذرا....أنت رومانتيكي ولذلك ستتعب حين تصير بقرة...ستحرمك الأشياء صحة اليقين وستدعو لنفسك بالموت لأن ستصير مُعْدَماً...لن يصير لك رأي ولا عاطفة". وفي تجربتنا الشخصية ببلاد الطواحين، والتي امتدت لأربعة عشر عاماً، تعَرّفنا في الجامعة تخصيصاً إلى شبان وشابات جُنّوا لاحقاً كالبقر من شدة العزلة والفراغ العاطفي وغياب المرجعية العائلية والمجتمعية. وليس صعباً على المرء أن يستخلص أمام ذلك الواقع المؤلم بأن وجود الخلية الأسَرية، مَهْما تكن ناقصة، هو أفضل بكثير من انعدامها. فالمواطن الهولندي له في المتوسط ما يحتاج إليه مادياً وما يرتضيه من استقلالية، ولكن مناعته العاطفية تكون في الغالب الأغلب هشّة، لا تستطيع أن تقيه من السقوط فريسة للمقامات الاجتماعية غير المألوفة ولطوارئ الحياة المفاجئة. واستناداً إلى ما عايناه وعايشناه، نقول إن الهولندي لا ينال ما يكفيه من العطف والحنان فينشأ ضعيف الشخصية قوي الأنا، ولا يكاد يعي وجود هذا المشكل لديه حتى ينطلق إلى بناء جدار منيع ليوقف الآخر من الدنوّ منه. ولا يَحدث التقارب إلا عندما يكون أحد الطرفين محتاجا للآخر، فتراه يستعمل أكثر الأساليب الانتهازية لباقة وأدهاها لينال مناله، ثم يرجع إلى موقعه للاحتماء وراء جداره السيكولوجي. وكلما فشل الفرد الهولندي في تحقيق مبتغاه غمره إحساس بالإحباط؛ وبضع حالات متقاربة من الإحباط قد تكون كافية ليجنّ الهولندي في المسافة الفاصلة بين الأنا والآخر، أو بين الذات والغير. تبدو هولندا للعابر والناظر مِنْ بَعيد جَنّة أرضية تُحترَم فيها حقوق الإنسان والحيوان والنبات والجماد، وينعدم فيها التمييز بشِقه العرقي والديني والسياسي والأخلاقي والجمالي، ويروق بها العيش وتنمو الورود في سعادة وبهاء وتدور فيها الطواحين بشاعرية لا مثيل لها في العالم. إلا أن هولندا التي أنجبت أمثال المفكر اللاهوتي إرازموس والفيلسوف سبينوزا والرساميْن ريمْبْرانْطْ وفانْ خُخْ لم تحْمل في الواقع على أرضها، أو لنقل إنها ليست أمّ أبنائها بالفعل. فمن المسكوت عنه، أو من غير المعروف، أن هولندا هي البلد الذي أجاد، أفضل من غيره على الإطلاق، استعمال ما نهبَه من الأقطار التي كان يسيطر عليها في المرحلة الاستعمارية. وهي كذلك البلد الأول في الغرب من حيث عدد الرعايا الذين لا يعارضون المساندة الرسمية وغير المشروطة لإسرائيل وللمشروع الصهيوني. كما أنها، على صعيد آخر، الأولى أوروبياً من حيث نسبة أطباء الأمراض العقلية ودرجة الاحتضان والعناية بالكلاب والقطط. كما تعتبر هولندا بحق عاصمة أوروبا في مجال المخدرات والشذوذ الجنسي والأخلاقي والفكري والعقدي والفني، وأحسن نموذج حيّ على مجتمع الفرد بامتياز بسبب الطغيان الفظيع للأنا على جُل جوانب الحياة. نظّمت هولندا سنة 1990 بأمستردام مَعْرضا ضخما للوحات فانْ خُخْ تخليداً لذكرى مرور مائة عام على رحيل هذا الفنان الذي لا يملك المرء إلا أن ينبهر أمام عبقرية البساطة المنبعثة من ريشته. ويُهمّنا في هذا الإطار أن نشير إلى الإعجاب العميق الذي شعرنا به ونحن نتجول، عشية الافتتاح الرسمي، على الرحب والسعة رفقة زمرة من المدعوين المحظوظين بين جدران ذلك المتحف الهائل ونتأمل لوحات رائعة، بعضها ذات طبيعة ميتة أو ما شابه ذلك، وأخرى تدب فيها الحياة المجمَّدة في زمن وملامح الشخوص والطبيعة والأشياء. ولكن يُهمّنا، أكثر من ذلك، أن نقول إنه لم يفتنا أن ننتبه إلى الاستعمال التجاري البشع الذي تعرّض له في هولندا، ولا يزال، هذا الرجل الذي عاش مغموراً ومهمشاً في بلده ومات فقيراً ومهجوراً في بلاد المهجر. إنه لمن دواعي السخرية أن تهتم هولندا مؤسسة وخواصاً بصورة هذا الفنان وتركَتِه الفنية، بينما لم يخطر على بالها قط أن تُعنى بفانْ خخ بصفته ضحية لمجتمع الدم البارد والأنانية، ومن ثم تجسيدا لظاهرة نفسانية-اجتماعية ينبغي التوقف عندها. والغريب في السيرة المأسوية لفانْ خُخْ أن يكون حِرمانه قد بدأ يوم ولدته أمّهُ حيث وجد في انتظاره اسماً "باليا" كان قد حمله في الأصل أخوه فِنْسَنْتْ، الذي لم يعش طويلا ومات تاركا الاسم مشردا يرتاد على المقبرة التي دُفن فيها. وهكذا ورث فناننا اسما سبق أن استُعْمِل ولم يَنْعم باسم خاص به، فعاش في جسده معذبا بروح شقيقه الراحل فِنسنْتْ. وإذا كان فنسنت (الثاني) الإنسان قد عاش حياة معاناة وحرمان على الصعيدين المادي والنفسي، فإنَّ فانْ خُخْ الرسام البارع سيُدرّ، بعد الرحيل الثاني لفِنْسَنْتْ، أموالا طائلة على الخزينة الهولندية ويُحبّب للعالم هذا البلد الواطئ من خلال ريشته ولو بسبب أساطير الهولنديين حوله. تكتوي حياة فانْ خُخْ بنار التجربة النفسية القلقة تارة والمغتربة تارة أخرى. أما مأساته فتكْمُن أساسا في العقلية الهولندية التي ربّت فيه تقلُّبا خطيرا بين التفاؤل والتشاؤم اضطر معه إلى مخاصمة مجتمعه من خلال المخاصمة الذاتية. وقد كان الغول الهولندي أقوى حيث لم يصمد فانْ خُخْ أمام انهيار محاولاته الإنسانية والروحية. ولعل الناظر إلى اللوحة الرمزية "طبيعة ميتة في شكل إنجيل مفتوح ورواية" سيجد فيها ما يعكس جانبا من التقلب المذكور عند الفنان. فالإنجيل في اللوحة يجسد ما هو روحي وعميق، بينما تجسد رواية الكاتب الفرنسي إميلْ زُولا المعَنوَنة "متعة العيش" ما هو مادي ودنيوي. وربما دلَّ انطفاء الشمعة بدل اشتعالها بجانب الكتابين الرمزين على انطفاء أمل الفنان في اختيار أحد التوجهين أو الاستضاءة بهما في الحياة القاتمة. ولا ينبغي في هذا السياق أن نتهم فانْ خُخْ بعدم النضج أو بالفشل في تبني سلوك اجتماعي عملي أو برغماتي، لأن الرجل لم يتردد في الهجرة عن بلده بحثا عن فضاء يتجاوب مع نشاطه العقلي وطبيعته العاطفية والفنية. وقد تبينَ أن إقامة فانْ خُخْ في فرنسا قد أثّرت بشكل إيجابي على مزاجه فانجلى ذلك في فنه، حيث لقي بالديار الفرنسية شيئا من الهدوء النفسي الذي أضفى على لوحاته طابعاً مفتوحاً ومتفائلا يسرُّ العين، على عكس ما يحدث مع "أكلة البطاطا" وغيرها من اللوحات الداكنة التي رسمها فانْ خُخْ وهُوَ في هولندا. وجدير بالذكر في هذا الإطار أن هولندا لم تنجب شعراء ولا روائيين ولا مسرحيين ولا مبدعين ناجحين لأن العقلية الهولندية، من التربية المنزلية والمدرسية إلى نمط الحياة الاجتماعية والثقافية، ليست على ما يبدو مؤهّلة (بكسر الهاء أو نصبها) لذلك. ويُستثنى طبعاً من هذا الطرح التعميمي أولئك الهولنديون الذين استقروا خارج هولندا واستفادوا من الدفء الإنساني والطبيعي فانعكس ذلك في إبداعاتهم. ويقابل ذلك الضعفَ في حقل الإبداع الأدبي والفني نجاحٌ باهرٌ في تلك الميادين العلمية والتجريبية التي لا ترتكز على الخيال المندفع، بل على برودة العقل. *أكاديمي ومترجم من هولندا