يستأثر موضوع البحث عن الكنوز واستخراجها في المجتمع المغربي منذ عقود خلت بنوع من التضارب بين من يعتقد أن الخوض في هذا الموضوع لا يعدو أن يكون سوى نمطا من التفكير الميتافيزيقي٬ أو ضربا من"أحلام اليقظة"، وبين من لديه قناعة راسخة بأن استخراج الكنوز أمر ممكن٬ وأن حلم التطلع نحو تطليق البؤس ومعانقة الثراء٬ يمكن أن يتحول من وهم إلى حقيقة . فكم من حكاية تروى باستمرار في مجامع الناس٬ سواء منهم البسطاء أو ممن لديهم قدر لا بأس به من الثقافة والمعرفة حول هذا الموضوع المثير. فمنها ما يتخذ شكل خرافة تستعصي عن التصديق وفق ضوابط التفكير العقلاني السليم، ومن هذه الحكايات أيضا ما يروى بصيغة توحي وكأنها تقطع الشك باليقين٬ لدرجة أنها قد تزعزع٬ لدى البعض٬ قناعاتهم المنسجمة مع روح العقل وقوة المنطق. وأثناء المحاولات المتتالية للقاء ب"هواة" البحث عن الكنوز واستخراجها في منطقتي سوس ودرعة قصد استجلاء بعض خبايا هذا الموضوع، اتضح من خلال مخالطة شخصين ينحدران من إقليم تنغير أن هذه المهمة لا تتأتى لأي كان٬ وإنما يتولاها "الفقهاء" ممن لهم "خبرة" في تحديد مدافن الكنوز بدقة، ولهم من "الكرامات الخارقة" ما يمكن من تخليص الكنوز من "أهل المكان"٬ في إشارة إلى الجن الذي يصبح٬ في اعتقادهم٬ حارسا للكنز مع مرور الوقت. وحسب هذان الشخصان فإن جحافل نمل كانت تتخذ من بين صخور حجرية أسفل جبل بمنطقة تودغى العليا (إقليم تنغير) مساكن لها٬ كانت وراء إثارة شكوكهما حول إمكانية تواجد كنز في هذه المنطقة٬ وهذا ما جعلهما٬ عملا بنصيحة أحد أقربائهما٬ يلتزمان بالحذر والسرية في البحث عن "فقيه متمكن من تسخير الجن". وجد صاحبا الكنز المزعوم ضالتهما حين التقيا بمصطفى ج.٬ "فقيه" في حوالي العقد الرابع من عمره، يتحاشى الحديث عن مسقط رأسه٬ وعن "شيوخه"، لا يكاد ينتهي من مكالمة من إحدى هواتفه المحمولة الثلاثة٬ حتى يرن آخر العشرات من الرجال والنساء يتهافتون يوميا على طلب خدماته في قضايا تهم الاستشفاء من أمراض عضوية٬ أو تجاوز أزمات نفسية٬أو غيرها من المشاكل التي استحال على أصحابها إيجاد حلول لها. بعد جلسات متتالية من الحديث من أجل تبادل الثقة٬ اتفق الطرفان على أن يتولى"الفقيه" مصطفى ج. مهمة استخراج الكنز٬ حيث أحضر هذا الأخير في فترة ما بعد منتصف إحدى ليالي شهر يوليوز الماضي٬ مجموعة من المواد التي بدأ في خلطها مع تلاوة بعض النصوص التي لم يكن بمستطاع الحاضرين معرفة مضمونها باستثناء بعض الكلمات مثل "اسم الجلالة"٬ و"الحل"٬ ليأخذ ورقة ويدون عليها بعض الخطوط والرموز بواسطة قلم مصنوع من عود القصب.. وبعد حين يأمر الجماعة بالحفر في المكان المفترض أن يكون الكنز مدفونا فيه. استمرت عملية الحفر لما يقارب ساعتين من الزمان ظل خلالها الفقيه يردد كلاما بصوت خافت لم يكن بمستطاع الحاضرين فرز مضمونه.وفي لحظة أمر بالتوقف عن النبش ليستل من الحفرة قطعة منبسطة من الحجر تشبه الرخام٬وقد نقشت عليها بعض الخطوط التي لم يكن تشفير مدلولها متاحا إلا ل"الفقيه" الذي لجأ من جديد إلى "ترتيل بعض الكلام" على شكل وشوشة غير مفهومة المضمون٬وذلك بالموازاة مع رسم بعض الرموز٬خلص بعدها إلى إخبار الحاضرين بأن الكنز مدفون جوار ضريح الولي الصالح "سيدي أمحمد أوتماسينت" المتواجد على بعد حوالي 10 كيلومترات من مضايق تودغة الشهيرة٬ بمحاذاة الطريق الثانوية المؤدية إلى قرية إملشيل (إقليم ميدلت). بعد مرور خمسة أيام على "اكتشاف" اللوحة الحجرية٬ توجهت المجموعة إلى الموقع الجديد ل"الكنز الموعود".. وكان الوقت كما في السابق بعد منتصف الليل٬ حيث بدأ الفقيه يرش المكان بماء خضع٬ حسب قوله ل"الرقية"٬ليتبعه بطقوس"الوشوشة"٬ ثم أمر إثر ذلك بالبدء في عملية النبش بعدما أخبر مرافقيه بأنه استأذن "أهل المكان" الذين "رفعوا أيديهم عن الكنز ووافقوا على انتقال ملكيته للإنس ". استمرت عملية الحفر من بعد منتصف الليل بحوالي ساعة ونصف٬ إلى أن بدأ يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.. وبعدما لاحت أول عربة تشق طريقها مع طلوع صبيحة ذلك اليوم٬ أمر "الفقيه" المجموعة بالتوقف عن الحفر بذريعة أن طلوع ضياء النهار٬ وظهور إنس دخيل في محيط تواجد الكنز من "علامات المنع" التي يستحيل معها استخراجه. فكان ذلك الإدعاء بمثابة الصفعة التي انتشلت المجموعة الباحثة عن الكنز من مستنقع الأوهام٬ وأقنعتها بقطع الصلة مع "الفقيه". لم يجد "الفقيه" مصطفى أي حرج ولا مانع في الحديث عما يتوفر عليه من"كرامات" تمنحه القدرة على استخراج الكنوز، وحسب ادعاءاته فإنه يلجأ في محاولاته لاستخراج الكنوز إما إلى"الشق"الذي يستوجب استعمال"علم الجداول وتسخير الجن" لإخراج الكنز من عمق التراب بكيفية طوعية.وإما إلى"الحفر"٬ حسب كل حالة٬ وهذا ما يتطلب استخدام الفؤوس والمعاول بعد القيام بطقوس تستعمل فيها مواد معدنية مثل الزئبق٬وأعضاء بعض الحيوانات٬إضافة إلى مواد غالبا ما تستعمل في أغراض الشعوذة ويبعث النطق بها على التقزز ومن ضمنها"الدم المغدور"٬ و"ماء غسل الموتى" وغيرها. وفي اعتقاد "الفقيه" مصطفى أنه بريء من التعاطي لأعمال الدجل والشعوذة٬ مبررا موقفه بأن هناك من الفقهاء من يدعون أنهم ضليعون في العلوم الفقهية٬إلا أنهم يعمدون خفية إلى قتل الحيوانات بطريقة بشعة. وقد يلجؤون أحيانا إلى قتل النفس البشرية في محاولة منهم لاستخراج الكنوز٬حيث صرح بأن أخبار هؤلاء الدجالين المجرمين٬حسب تصريحه٬ تنشرها الصحافة من حين لآخر. تتعارض الرؤية السريالية ل"الفقيه" مصطفى.فيما يتعلق باستخراج الكنوز مع ما يعتقده في هذا الباب أهل العلم والمعرفة٬ومن يتخذون من النص القرآني وأحكام العقل والمنطق مرجعية في سلوكهم ومعتقداتهم. وبهذا الخصوص٬ يقول المؤرخ الرحالة مولاي المهدي الصالحي التامنوكالتي إن الكنوز حقيقة واقعية منذ أقدم العصور٬ مستدلا في ذلك ببعض الآيات القرآنية الكريمة التي جاء فيها الحديث عن الكنوز٬ وبكون الدولة المغربية أصدرت تشريعات تحمي بها أحقيتها في مصادرة هذه الثروة إذا ما تم العثور عليها.. موضحا أن السر في تواجد الكنوز عادة بالقرب من مدافن الأولياء وفي محيط أضرحتهم يفسر بكون الإنسان في ما مضى كان يؤمن بالقدسية التي تحيط بالصالحين وبحرمة مدافنهم٬وبالتالي فإن دفن الكنوز داخل الأضرحة أو بالقرب منها يضعها في مأمن٬ ويحفظها من السرقة. وأضاف في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء٬ أن الروايات الواردة في عدد من المخطوطات القديمة تفيد بأن الإنسان حين يدفن كنزا في مكان ما٬ فإنه كان يضع له خريطة وإشارات مكتوبة على الورق أو الجلد أو الخشب٬ويتم حفظها في أماكن آمنة٬مثل باقي الرسوم العدلية الخاصة بالممتلكات العقارية وغيرها. وأشار إلى أن سكان البوادي في المغرب يلجؤون إلى توظيف أحد الفقهاء ك"مشارط"٬أي أنه يتولى مهام الإمامة وتعليم الأبناء وتربيتهم٬والإفتاء في بعض الأمور التي تهم حياة الفرد والجماعة.وبما أن سكان البوادي غالبا ما يجهلون القراءة والكتابة٬وحتى إذا كانوا متعلمين فغالبا ما يكونوا غير قادرين على استجلاء مضامين الكتابة التي تخطط بها العقود العدلية٬فلا يجدون بدا من اللجوء إلى فقيه القرية أو القبيلة الذي هو موضوع ثقة لإطلاعهم على محتوياتها٬ وبذلك يتصادف أن يكون أحد العقود يتضمن معلومات حول تواجد كنز في مكان ما٬ وفي هذه الحالة قد يجد الطمع طريقه إلى السيطرة على معتقدات "الفقيه" الذي يتستر عن الأمر في انتظار تدبير طريقة للفوز بالغنيمة٬ ثم يختفي بعد ذلك عن الأنظار. ومن بين الحكايات التي لا زال صداها يتردد بهذا الخصوص٬ولا يتوفر من يؤمنون بأنها حقيقة قاطعة على أبسط دليل مادي٬ ما يروج من مزاعم حول أحد الفقهاء الذي كان"مشارطا" لسنين عديدة لدى قبيلة"أيت يعقوب" ضواحي بلدة اسكورة(إقليمورزازات). وكذلك الشأن بالنسبة لرواية مماثلة تهم فقيها كان"مشارطا" لدى قبيلة "مزكيطة" في إقليم زاكورة واختفى بعد استيلائه المزعوم على كنز كان مدفونا في ضريح "سيدي المخفي". إضافة إلى ما يتردد في مدينة تارودانت حول الاستيلاء على كنز كان مدفونا بمحاذاة قبر في"الروضة الصغيرة"يعتقد أنه للشريف مولاي عبد الناصر ابن مولاي عبد الرحمان وحفيد السلطان مولاي إسماعيل الذي كان أميرا على قبائل منطقة سوس. وإذا كان جمهور المثقفين٬ على اختلاف درجاتهم٬ لا يجدون صعوبة في إدراك ما جاء على لسان المفكرين العقلانيين من دعوة أفراد المجتمع إلى تجنب الأوهام وأمور الدجل والشعوذة٬ ومن ضمنها ما يرتبط باستخراج الكنوز٬ فإن علماء الشريعة الإسلامية بدورهم ساروا على هذا النهج منذ قرون خلت٬ ومن ضمنهم القطب العلامة أبو العباس سيدي أحمد بن صالح الصالحي اللكتاوي المتوفى سنة 1731 ميلادية٬ والذي خلف تراثا علميا غزيرا ومتنوعا من ضمنه كتاب مخطوط بعنوان"لسان المواعظ الكافية٬في المقالات القدسية الشافية"٬تضمن قصيدة شعرية بعنوان"عقود النجوى٬في التحذير من أهل البدائع والدعوى"تحث على عدم الانسياق وراء حلم معانقة الثراء عن طريق استخراج الكنوز. قد يبدو التشبث بأوهام تسلق مدارج الغنى والثروة عن طريق استخراج الكنوز سخيفا في عهد التكنولوجيا الرقمية الذي نحياه في وقتنا الراهن. لكن السخافة العظمى تكمن في تجرؤ البعض على تسخير هذه التكنولوجيا في الإيقاع باللاهثين وراء أوهام استخراج الكنوز٬ وهذا ما تكشف عنه الآلاف من الزيارات اليومية لمواقع إلكترونية صممت لأجل هذا الغرض.