خلفيات الصراع الدائر على الأمانة العامة للاستقلال ما يحدث اليوم من تنافس شرس على الأمانة العامة لحزب الاستقلال، ومن انقسام الأتباع والأشياع، ودخول المنظمات الموازية على خط الصراع، ليس سوى نتيجة لأكثر من عقد من الشحوب الإيديولوجي والخجل من دخول المغامرة الديمقراطية، ونهاية "الاستقلالية" كتنظيم وطني مرن ظل يخرج دوما قويا مثل طائر الفينق من الرماد، لكن الأزمة الحالية ليست سوى بداية الوجهة الأولى المظلمة من النفق. عود على بدء ظل حزب الاستقلال مثل تركيبة عجينية على مستوى تنظيماته وهياكله التي تتميز بحيوية ملحوظة في الحواضر كما في البوادي، ولأنه حسم مبكراً على مستوى خطه الإيديولوجي مع "التعادلية" التي ظلت تغتني بكتابات المؤسس الزعيم علال الفاسي وعبد الكريم غلاب المثقف التنويري للحزب، والعربي المساري وعبد الحميد عواد، فإن الاستقلاليين لم تكن لهم مشاكل مع "الإيديولوجية" التي كانت تلحمهم وتسند بعضهم البعض، ولأن الحزب جرب أكبر عملية انفصال في تاريخ التجربة الحزبية بالمغرب عام 1959، فإن هذا الوجع التاريخي جعل الاستقلاليين في أقصى اختلافهم، لا يتجاوزون سقف البيت الداخلي، كانت أكبر هزة عرفها الحزب في أواسط التسعينيات بين متنافسين شرسين هما محمد الدويري ومحمد بوستة، وشكل يومها عباس الفاسي المنقذ من الأزمة، وكانت نار الخلافة برداً وسلاما على الحزب العتيد. صراع مع النخب الوافدة بقيم غريبة ظل حزب الاستقلال دوما رقما أساسيا في المعادلة السياسية بالمغرب سواء كان داخل الحكم أو داخل المعارضة، بحكم امتداده التنظيمي وقوة نخبه، وهو الوضع الذي استفاد منه حزب علال الفاسي بشكل كبير، انخرط مناضلوه في دواليب التسيير الإداري وتحول إلى مشتل لصناعة واستقطاب أطر لم تعد تمر من القنوات التنظيمية التي تدرح عليها المناضلون، وبحكم براغماتية القيادة التي أصبحت تنظر إلى ربح الدائرة الانتخابية أقوى من التشدد والصرامة في هوية المرشحين، فقد خلق هذا أجيالا جديدة من الأطر والأعيان التي أضحى لها نفوذ قوي داخل قيادة حزب الاستقلال، أجيال لم تعد تنظر إليها القواعد الحزبية بعين الرضى، وترى في ذلك انحرافا عن "أخلاق" الحزب والمسار "النضالي" الاستقلالي. وبرغم أن الاستقلال حزب إصلاحي يضم خليطا غير متجانسا من الأعيان والفلاحين والعمال وأطر الطبقة المتوسطة والعديد من المتعاطفين من مختلف الشرائح الاجتماعية، فإن الوافدين الجدد على حزب الاستقلال أضحوا مستقطبين من طرف الحكم ولهم جاذبية كبرى وميل جلي إلى ربط مصالحهم بالدولة أكثر من الارتباط الحزبي الذي لم يعد سوى وسيلة للارتقاء الاجتماعي، إن مسار بعضهم لا يختلف عن إقحام الدولة لأسماء مثل أخنوش وبلخياط وبنخضرا في التجمع الوطني للأحرار. اقتسام المنافع يجلب الأضرار يعتبر حزب الاستقلال حزبا رائدا في توزيع المنافع التي يستفيد منها مناضلوه بالدرجة الأولى، غير أن لجوء الأطر الجديدة الطارئة على حزب الاستقلال التي أصبحت في مواقع المسؤولية إلى أطر تقنوقراطية بدعوى الكفاءة أو الصداقة الإدارية خلفت الكثير من الغاضبين وسط حزب الاستقلال، لكن بالمقابل رسخت أقدام العديد من الانتفاعيين وعابري سبيل الانتخابات والطامحين إلى اختزال طريق الترقي الاجتماعي، ومع انهيار القيم التي كانت تحكم البيت الاستقلالي: حفظ الشؤون التنظيمية والخلافات السياسية داخليا، الوقوف إلى جانب بعضهم البعض في المُلمات والمناسبات الاجتماعية، الوفاء لقيم الأبوة واحترام الكبار، وكاريزمية القيادة.. سرعان ما تبدلت الأحوال وأضحت اجتماعات اللجنة التنفيذية تُسرب بشكل كيدي إلى الإعلام قبل أن ينفض الاجتماع، وقطع الحزب حبل الوسيط مع قاعدة مناضليه ومع المجتمع الواقعي.. لم تعد مؤسسات الحزب تستقطب أطر المجتمع، بل أخذ التنظيم الحزبي يأكل من ذاته، وتحولت مؤسساته إلى ساحة مفتوحة لاستقطاب الأشياع بين المتنافسين داخل رقعة التنظيم ذاته لا خارجها، وأصبحت التنظيمات الموازية من شبيبة استقلالية وقطاع المرأة والعمال والروابط واجهات للصراع على القيادة ومراكز النفوذ بين المتصارعين داخل الحزب، في هذا السياق يجب فهم التنافس الحالي الذي يفتقد لقواعد المنافسة الديمقراطية حول الأمانة العامة. اختلالات لوت عنق الديمقراطية حين لجأ عباس الفاسي إلى لي عنق القانون الداخلي، لتكييفه مع رغبته في إضافة ولاية ثالثة، تحت سلطة ثقافة الإجماع "القسري"، لم يكن الفاسي يعتقد أن الزمن ينتظره في منعطف أول خروج لحركة 20 فبراير سترفع شعار: "عباس ارحل"، وإلى جانبه الفاسيان علي والطيب.. وإن كان الاستقلال غير معني بهما. القفز على القانون وتطويعه، كان خطأ قاتلا لمسار عباس الفاسي الذي لا يجب أن ينكر أحد أنه قدم للاستقلاليين الشيء الكثير، لكنه بالمقابل جلب عليهم كل المصائب، تم تكريس سلطة الزعيم بشكل ميكيافيلي مع تهميش قيادات وازنة أمثال محمد الخليفة، سعد العلمي في اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، وبدأ الفاسي يلعب بسلطة الملفات التي اكتشفها في وجه أعضاء من مجلس الرئاسة، وقوَّى نفوذ العائلة، لذلك فإن الأغلبية التي يحصدها حميد شباط اليوم، لا تعود فقط إلى كاريزميته ونجاحه الكبير في تسويق صورته، بل وأساسا إلى اعتبارها ما يشبه انتقام المهمشين، ونخب الهوامش والقرى من نفوذ النخبة التقليدية والتيقنوقراط الطارئين على حزب الاستقلال، إن شباط اليوم يشكل لدى أغلب الاستقلاليين نموذج "ليش فاليسا" ونقابة التضامن في بولونيا غداة انهيار المعسكر الاشتراكي. هيمنة النقابة تهدد الحزب في المسار المغربي، لم يكن النقابي منفصلا عن السياسي، منذ لحظة تأسيس الاتحاد المغربي للشغل تحت حماية رجالات المقاومة وأطر الحركة الوطنية، لكن كلما تقوى الاتجاه النقابي، كان الحزب يسير نحو البلوكاج الذي يؤدي إلى شل حركة الحزب فالانشقاق، حين تقوى الزعيم النقابي المحجوب بن الصديق بمناصرة الراحل عبد الله إبراهيم وقف المؤتمر الوطني الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية على حافة الانهيار، وكانت الوحدة بين أحزاب الحركة الوطنية هي التي تؤخر انفجار الوضع التنظيمي الداخلي، فمع دعوة علال الفاسي إلى تشكيل الكتلة الوطنية، نجح الراحل بوعبيد في نسيان آثار الخلافات مع التيار النقابي، لكن لم يتعد الأمر أكثر من سنتين لينفجر حزب القوات الشعبية بعد مقررات 20 يوليوز 1972 والمؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، نفس الأمر سيعرفه المؤتمر الرابع لحزب الاتحاد الاشتراكي مع هيمنة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل على الحزب، حيث وصل المؤتمر الرابع لحزب القوات الشعبية إلى قمة الانحسار السياسي والتنظيمي، وكان مسار تشكيل الكتلة الديمقراطية في 1992 بمثابة تأجيل مؤقت للأزمة التي ستصل مداها مع انعقاد المؤتمر الخامس للاتحاد الاشتراكي مع انسحاب التيار النقابي وإعلانه عن تأسيس حزب جديد.. سيعرف بدوره انشقاقا، فهل يكرر شباط تجربة بن الصديق والأموي داخل حزب الاستقلال؟ إن من طبيعة السياسي أن يفاوض وينتظر، أما النقابي فهو يستعجل حصول المطالب، السياسي رجل دولة يفكر في التراكم الجزئي للمكتسبات ويراهن على التدرج متى كان إصلاحيا، أما النقابي فهو يعيش تحت إكراهات القاعدة الاجتماعية التي يمثلها من الفقراء والعمال ومآسيهم الضاغطة، لذلك يصعب أن تجتمع في شخص واحد: صفة القيادي السياسي والقيادي النقابي. لجنة تحكيمية مشلولة وأعطاب المتنافسين كان ضروريا أن يصل عمل اللجنة الخماسية إلى الباب المسدود ليس فقط لأن المتنافسين تجاوزوا سقف حلولها، بل لأنها وُلدت ميتة وبين أعضائها من طرح نفسه أو اقتُرح كحل ثالث.. الإشارة واضحة إلى توفيق حجيرة وكريم غلاب الذي اعتبره الاستقلاليون مرشح جهات نافذة عليا وهو ما يرفضونه دون أن يصرحوا بذلك علنا. برغم هدوء ونزاهة عبد الواحد الفاسي، فإن حتى الحواريين والأتباع حين يخلون إلى أنفسهم، يعرفون أن الدكتور ابن علال الفاسي ليس له كاريزما الأمين العام لحزب تاريخي مثل الاستقلال، ولولا سند أخيه هاني الفاسي لما فكر يوماً في طرح سهمه في بورصة التداول العام، وإذا كان شباط يجسد طموحات الأجيال الجديدة في حزب الاستقلال وينطق باسم الكثير من الهامشيين والمهمشين، فإنه مع ذلك محاطٌ بحواريين نافذين يجرون عليه الكثير من الانتقاد، البعض يعتبرهم "استئصاليين" وآخروين يشكون في الذمة المالية لبعضهم، ومع تزايد الانتفاعيين في صفوف الزعيم النقابي الذي لا يجادل أحد في قدرته على التجميع وامتلاكه لناصية الخطابة وصموده القوي في وجه منافسيه ونجاحه الباهر في مساره السياسي، سيجد نفسه عاجزاً عن سد كل متطلبات المحيطين به، وقد ينقلبون عليه أو ينفضون من حوله. خرجة الخليفة: صيحة الضمير الاستقلالي لم تكن خرجة محمد الخليفة، سوى تلك الحجرة التي نلقيها في بركة آسنة فتتسع دوائرها وقد لا تجد لها صدى.. لقد كان الخليفة يتكلم بلسان أغلبية مناضلي حزب الاستقلال، البعض يعتبر أن خرجته جاءت في الوقت البدل الضائع من عمر مباراة التنافس على الأمانة العامة، والبعض يتضامن معها سراً لكنه جهراً يؤمن بما يوجد على الساحة: متنافسان قويان لا ثلاث لهما، لكن هناك شبه إجماع، خارج المنتفعين من حواريي المتنافسين، بأن المبادئ التي عبَّر عنها محمد الخليفة تعتبر بمثابة صرخة الوعي أو عودة الروح، إن الخليفة يقول ما يتداوله الاستقلاليون حين يصادقون أنفسهم، لكن الأفكار الجميلة لا يُكتب لها النجاح فقط لأنها صادقة وعميقة، بل لأنها أخرجت التيار الذي يؤمن بها إلى العلن،وحولت الأفكار والأماني إلى وقائع مادية، وهو ما لم يقم به لا محمد الخليفة ولا من يشاركونه نفس الحرُقة على ما وصل إليه حزب الاستقلال، وقد يكفيه أنه دق الناقوس لإعادة الاعتبار للقيم التي عبر عنها، ويلهج بلسان الرسول (صلى الله عليه وسلم) في خطبة الوداع: "اللهم أني قد بلغت، فاشهد، فاشهد، فاشهد".. لكن اقتتال الاستقلاليين سيستمر، والعبرة بالنتائج.