في أفق انعقاد المؤتمر السابع عشر لأعرق حزب سياسي في المغرب، والملابسات التي تحيط بترشح أمينه العام الحالي لرئاسته، من الضروري العودة إلى مجمل الملابسات التي أحاطت بانعقاد المؤتمر الوطني السابق الذي شهد فوز حميد شباط كسابقة سياسية في تاريخ حزب الاستقلال. فقد شد انتخاب الأمين لحزب الاستقلال خلال مؤتمره السادس عشر انتباه العديد من المتتبعين الصحافيين، إذ كان انتخاب قيادة الحزب عادة ما يتم بسلاسة تنظيمية، وكان يتم التوافق على تعيين الأمين العام بدون مشاكل تذكر طيلة ولاية كل من بلافريج وعلال الفاسي وبوستة. وعندما احتدمت المنافسة بين الأخير ومحمد الدويري، تم اللجوء إلى صيغة توافق، تم من خلالها تعيين عباس الفاسي وإلحاق كل من بوستة والدويري بمجلس رئاسة الحزب إلى جانب عبد الكريم غلاب. وبالتالي كان من الضروري التساؤل عن دواعي هذا التحول في المسار التنظيمي للحزب؛ فهل يرجع بالأساس إلى لجوء هذا الحزب العريق لأول مرة في تاريخه السياسي إلى الآلية الديمقراطية في الحسم في انتخاب أمينه العام، أم يرجع بالأساس إلى شخصية شباط المثيرة للجدل، والذي فاجأ الجميع بترشحه للأمانة العامة في منافسة لابن علال الفاسي، الأب الروحي والرئيس الكاريزماتي والمنظر الرئيسي للحزب منذ تشكله؟ I - من الزعامة التاريخية إلى الزعامة الشعبوية لقد ارتبطت الأحزاب منذ نشأتها، وخاصة تلك التي انبثقت في سيرورة الحركة الوطنية، بشخصيات قيادية وكاريزمية، كارتباط حزب الشورى والاستقلال بلحسن الوزاني، وحزب التقدم والاشتراكية بعلي يعته، والاتحاد الوطني للقوات الشعبية بعبدالله ابراهيم، وارتباط الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بعبد الرحيم بوعبيد وحزب الاستقلال بشخصية علال الفاسي. فس علال الفاسي لا يعتبر فقط رئيسا للحزب، بل هو قبل كل شيء منظره الذي رسم له مبادئه المذهبية ورؤاه الفكرية التي مازالت تشكل النواة الإيديولوجية لسياسته عبر مساره الطويل. ورغم وفاة هذا الأخير في 1974 بقيت معالم شخصيته ورصيده الفكري والسياسي موروثا مشتركا للحزب، جعل كلا من محمد بوستة، وبعده عباس الفاسي يسيران على نهجه، ويرتكزان في تعيينهما ومشروعيتهما على الارتباط به، سواء من خلال الارتباط بفكره أو الارتباط بالمصاهرة معه. 1- القطع مع الإرث العائلي عادة ما ينظر إلى حزب الاستقلال بأنه حزب العائلات؛ فأكثر الناس الذين يتم استقطابهم له إما من المقربين من أعضاء فيه أو من عائلات فاسية أو مقربين منها، أو من العائلات السلطوية التقليدية التي تجمع ما بين الجلباب وربطة العنق...حزب الاستقلال ليس حزبا سياسيا بتمام الكلمة، إنه أشبه بالعائلة، والولاء فيه يقترب من درجة تقديس الزعيم، والطاعة فيه تكاد تكون عمياء، وهناك غموض يسود دواليبه...هذه بعض الأفكار التي يحملها الناس العاديون عن أول حزب سياسي في المغرب، والذي تأسس من أجل المطالبة بالاستقلال، ولازال بعد أزيد من 50 عاما بعد الاستقلال واحدا من أقوى الأحزاب في البلاد..الأفكار العامة والنمطية التي يحملها الناس عن حزب الاستقلال ليست بعيدة عن الصواب، إن هذا الحزب يحمل الكثير من تقاليد الحزب – العائلة، وهو يشبه إلى حد ما تلك التجمعات السياسية العائلية في بلدان أوروبية معروفة بمثل هذه التقاليد. ولعل مما زاد من تكريس هذه النظرة إلى الحزب هو الارتباط بفكر علال الفاسي الذي تجسد في عائلة الزعيم، حيث أضفى على الحزب صبغة عائلية تماهت مع صورة عائلة الفاسي والانتساب لها. ولعل هذا ما وعى به شباط في منافسته مع ابن علال الفاسي، السيد عبد الواحد الفاسي. وقد حاول شباط عدم كشف نيته الترشح، إذ صرح بأنه لا ينوي الترشح إلا في المؤتمر 17 للحزب، في وقت قام بتشجيع قياديين لمنافسة عبد الواحد الفاسي. وفي هذا الصدد كتب أحد المتتبعين ما يلي: "كشفت المصادر أن حميد شباط، عضو اللجنة التنفيذية، وتياره داخل اللجنتين التنفيذية والتحضيرية للمؤتمر، يدفعان بالدويري كمرشح لهما لسحب البساط من تحت أقدام آل الفاسي المسيطرة على دواليب الحزب، دون أن يكون لهم حضور، مشيرة إلى أن عمدة فاس قاد تحركات في هذا الاتجاه خلال الأيام الماضية، من خلال ربط الاتصال بنجل القيادي الاستقلال امحمد الدويري والتنسيق معه، والتأكيد له على ضمان الدعم القمين بإيصاله إلى منصب الأمين العام. لجوء شباط إلى لعب ورقة الدويري يندرج في سياق ما يروج له أنصاره من ضرورة إعداد أمين عام جديد من الشباب لخلافة عباس الفاسي، تقول مصادرنا، مشيرة إلى أن الدفع برئيس «رابطة الاقتصاديين الاستقلاليين» قد يصطدم بوضع خصوم الكاتب العام للاتحاد العام للشغالين بالمغرب أيديهم على لجنة القوانين والأنظمة خلال تشكيل لجان المؤتمر، ما سيمكنهم من الوقوف في وجه كل محاولة لتعديل شروط تقلد منصب الأمين العام، ولاسيما شرط عضوية اللجنة التنفيذية للحزب مرتين، والذي يبقى عائقا يعترض طريق الدويري للوصول إلى الأمانة العامة. إلى ذلك، أكد عضو في اللجنة التنفيذية، من المنتمين إلى تيار شباط، خبر ترشيح الدويري للسباق نحو الأمانة العامة لحزب علال الفاسي، وقال في اتصال مع «المساء» إن «ترشيح الدويري وارد، ولكن توقيت الكشف عنه الآن قد يخلط الأمور». وتأتي محاولة شباط الدفع بوزير السياحة الأسبق بعد أن منيت بالفشل محاولاته السابقة للدفع بكل من امحمد الخليفة، عضو اللجنة التنفيذية، ومحمد الوفا، وزير التربية الوطنية، وكريم غلاب، رئيس مجلس النواب، الذي كان قد أعلن تبرأه من الترشح لخلافة الفاسي. فيما كان لافتا خلال اجتماع اللجنة التحضيرية للمؤتمر المنعقد قبل أسبوعين رسائل التطمين التي حاول شباط وتياره بعثها إلى الفاسي، حيث كان هناك حرص على التأكيد له على أن «لا اعتراض لهم على توليه للأمانة العامة». من جهة أخرى، ترى مصادر من تيار الفاسي أن هناك من يريد استنساخ نموذج حزب الأصالة والمعاصرة، الذي أوصل مصطفى بكوري إلى منصب الأمين العام خلال المؤتمر الاستثنائي المنعقد مؤخرا، موضحة أن الأطراف الاستقلالية، التي تراهن على أمين عام شاب تريد توجيه رسائل مباشرة إلى عبد الواحد الفاسي، نجل مؤسس الحزب علال الفاسي. غير أن قياديا من تيار شباط يرى أنه «آن الأوان للدفع بجيل جديد من الاستقلاليين لقيادة الحزب، والقطع مع جيل عباس الفاسي وعبد الواحد الفاسي ورؤيته للحزب وللبلاد التي بقيت جامدة»، مشيرا إلى أنه «بعد التغييرات التي حصلت في البلاد تبدو الحاجة ماسة إلى «بروفايل» أمين عام ورئيس حكومة في الوقت ذاته قادر على تقديم برنامج للحزب وللدولة». القيادي الاستقلالي اعتبر أن الدويري يمتلك «بروفايل» ونقط قوة تتمثل في جمعه ما بين النظري والممارسة. فيما ترى مصادر استقلالية أن التجربة والنضال داخل الحزب، وسيطرة تيار الفاسي على لجنة الأنظمة والقوانين تحولان دونه ودون تحقيق طموحه في تقلد منصب الأمين العام. من جهة أخرى تبدو اجتماعات اللجنة التحضيرية للمؤتمر المقبل واللجان المنبثقة، ولاسيما لجنة الأنظمة والقوانين، ساخنة، إذ ينتظر أن يتجدد الصراع مرة أخرى بين تيار شباط وتيار الفاسي وأعضاء في المجلس الوطني، خاصة على جبهة لجنة الأنظمة والقوانين. مصادر استقلالية توقعت احتدام معركة «عض الأصابع» بين شباط وخصومه المحسوبين على تيار الفاسي من أجل دفع لجنة الأنظمة والقوانين إلى إلغاء شرط التوفر على عضوية اللجنة التنفيذية مرتين لتقلد منصب الأمين العام، وهو نفس الشرط الذي وضع في المؤتمر الخامس عشر المنعقد في يناير 2009 لقطع الطريق على وصول عمدة فاس إلى منصب الأمين العام. جدير ذكره أن اللجنة التحضيرية للمؤتمر ستعقد الجلسة الرابعة للاجتماع الأول للجنة يوم السبت القادم بمقر الحزب من أجل استكمال هياكل اللجان الفرعية ومناقشة ورقة حول تدبير مرحلة التحضير للمؤتمر يقدمها مكتب اللجنة". وبالتالي، فقد كان إعلان شباط ترشحه لمنصب الأمانة العامة وخلافة عباس الفاسي مباغتا لمنافسه عبد الواحد الفاسي الذي انعكس من خلال رد فعل هذا الأخير، إذ تحول اجتماع للجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، إلى ساحة لتبادل الملاسنات بين حميد شباط، الكاتب العام للاتحاد العام للشغالين بالمغرب، وعبد الواحد الفاسي، المرشح الأبرز لخلافة عباس الفاسي على رأس الحزب خلال محطة المؤتمر السادس عشر. ووجد شباط نفسه في مواجهة كلامية مع نجل مؤسس الحزب علال الفاسي، على خلفية إعلانه أنه مرشح كذلك للسباق نحو خلافة الأمين العام الحالي. وحسب مصادر استقلالية فإن محاولة شباط إثارة حفيظة عبد الواحد الفاسي بإعلان ترشحه أتت بنتائج عكسية، مشيرة إلى أن عبد الواحد الفاسي كان رده حاسما بالتأكيد لغريمه السياسي أنه «مرشح كذلك لمنصب الأمين العام، قبل أن يوجه كلامه إلى عمدة فاس قائلا: «لست الشخص الوحيد الذين يتقن الوسائل التي تستعملها». وقد استند شباط في منافسته لعبد الواحد الفاسي على منصب الأمانة العامة للحزب إلى التأكيد على ضرورة القطع مع نظام التوريث العائلي الذي تكرس مع ترشيح ابن علال الفاسي، خاصة أن أجواء الربيع العربي التي مست تداعياتها المغرب ساعدت هذا الأخير على تكريس هذا المعطى. ففي ندوة عقدها بالرباط في إطار حملته الانتخابية ضد عبد الواحد الفاسي، صرح شباط بأنه "بعد يومين سيدخل مناضلونا مقر باب العزيزية لحزب الاستقلال، وسيتم إسقاط العائلة الفاسية...إن حزب الميزان لا يختلف كثيرا عن أحزاب بنعلي ومبارك التي كانت فيها العائلات والأصهار". ولعل ما أضفى على خطاب شباط بعض المصداقية التي لاقت تجاوبا لدى العديد من أطر الحزب، التي كانت ساخطة على النهج الذي اتبعه صهر علال الفاسي، عباس الفاسي، في توزير العديد من أطر الحزب الذين كانوا يعتبرون من مقربيه، وبالأخص زوج ابنته نزار بركة، الذي تقلد منصبين وزاريين سواء ضمن التشكيلة الحكومية التي ترأسها بعيد انتخابات 2007، أو ضمن التشكيلة الحكومية التي يتزعمها عبد الإله بنكيران؛ فقد اتهمه العديد من أطر الحزب، خاصة أولئك المحسوبين على شباط، بأنه استغل التفويض الذي خول له من طرف المجلس الوطني للتفاوض مع رئيس الحكومة بنكيران بعيد انتخابات 2011، ليرشح المقربين منه، خاصة صهره نزار بركة. وبهذا الصدد كتب أحد المتتبعين ما يلي: "سحبت تداعيات خلافات الاستوزار داخل حزب الاستقلال البساط من تحت نزار البركة، الذي كان يقوده صهره عباس الفاسي نحو الأمانة العامة للحزب. وعاد اسم عبد الواحد الفاسي، عضو اللجنة التنفيذية، إلى واجهة المرشحين بقوة لخلافة الأمين العام لحزب الاستقلال عباس الفاسي، بعد أن اجتمع ضده عدد من أعضاء الجهاز التنفيذي، مطالبين برحيله على خلفية تدبيره لمفاوضات تشكيل الحكومة مع تحالف عبد الإله بنكيران، واستفادة مقربين منه من الحقائب الوزارية دون غيرهم من الأسماء القيادية التي راج اسمها ضمن تشكيلة الحكومة، قبل أن يتم سحبها منها. وفي السياق ذاته قالت مصادر حزبية إن عباس الفاسي رفض ترضية بعض القياديين داخل الحزب، عبر "توزيرهم" في الحكومة لتأمين كرسي الأمانة العامة لصالح قريبه، نزار البركة، مضيفة أن عددا من المسؤولين داخل اللجنة التنفيذية، بينهم أعيان في الصحراء وقياديون في قطاعات حزبية موازية، دافعوا عن ترشيحاتهم للاستوزار، مقابل الاصطفاف إلى جانب مرشح عباس الفاسي في المؤتمر المقبل، مشيرة إلى أن هذه الحقيقة التي يحاول المناوئون للأمين العام للحزب تغطيتها تكشفها اللائحة الأولية التي تسربت بشأن الأسماء التي اقترحها الحزب للاستوزار، إذ تضمنت، تقول المصادر نفسها، أسماء من شبيبة الحزب وأخرى من القطاع النقابي الموازي للاستقلال وأعضاء في اللجنة التنفيذية كانوا يضغطون على الفاسي. وكشفت المصادر نفسها أن رفض بعض هذه الأسماء أربك حسابات الاستقلال، وفتح الباب أمام مرشحين آخرين كانوا بعيدين إلى آخر لحظات التفاوض عن حقيبة وزارية في حكومة بنكيران، مشيرة إلى أن خلافات الاستوزار داخل الحزب أفقدت صهري عباس الفاسي إمكانية قيادة الحزب مستقبلا، ويتعلق الأمر بنزار البركة، الذي عين وزيرا للمالية والاقتصاد، ومحمد الوفا، وزير التربية الوطنية، مؤكدة أن هذين الاسمين راجا بقوة قبل تعيين الحكومة الحالية لقيادة حزب الاستقلال بعد مؤتمره المقبل. ووفق المصادر نفسها فإن خلافات الاستوزار فتحت الطريق أمام عبد الواحد الفاسي لاستعادة موقعه في الطريق نحو الأمانة العامة للحزب، مشيرة إلى أن تحالفات جديدة يقودها شباط تعيد ترتيب البيت الداخلي للحزب قبل موعد مؤتمره، وتعيد خلط أوراق عباس الفاسي الذي قرر أن ينهي مساره السياسي. وأثارت المصادر نفسها أن الخلافات التي تحرك النقاش داخل حزب الاستقلال ليست ذات طبيعة سياسية، يمكن أن تتولد عنها الأفكار والمشاريع السياسية، بقدر ما هي خلافات شخصية ناتجة عن الصراع حول الحقائب الوزارية. وتجدر الإشارة إلى أن حزب الاستقلال يعيش غليانا منذ كشف لائحة المستوزرين باسم الحزب، إذ اتهم قياديون داخل اللجنة التنفيذية الأمين العام عباس الفاسي باقتراح أسماء للاستوزار لا علاقة لها بالحزب، وتفضيل آخرين لقرابتهم منه، مقابل إقصاء أسماء أخرى جرى اقتراحها في اجتماعات اللجنة التنفيذية إبان مشاورات تشكيل الحكومة". 2 - التحكم في المنظمات الموازية للحزب لم تتجسد قوة شباط فقط في سلاطة لسانه، بل قبل كل شيء في تحكمه في منظمات الحزب الموازية، وعلى رأسها الاتحاد العام للشغالين؛ فقد استغل توظيفه من طرف الأمين العام السابق عباس الفاسي في معارك تصفية خصومه السياسيين، كأفيلال الذي أرغمه على التنازل عن قيادة الاتحاد، ومحمد الاندلسي، لينقلب على الأخير، الذي كان يعتبر أحد الأطر التاريخية في الفرع الإقليمي لفاس، معقل حزب الاستقلال، ويسيطر على قيادة الذراع النقابي للحزب في 2009، ما مهد له التسلل إلى اللجنة التنفيذية في الحزب والتموقع ضمن هرمية السلطة داخله. ولم يقتصر نفوذ شباط على تموقعه ضمن الهرمية النقابية والحزبية، بل أضاف إلى ذلك تحكمه في الشبيبة الاستقلالية التي كرس على رئاستها عبد القادر الكيحل، الذي يعد من أتباعه الخلصاء. وهذا ما دعم موقفه في مواجهة عبد الواحد الفاسي، إذ أعلن أعضاء اللجنة التنفيذية للشبيبة الاستقلالية، وعلى رأسهم عبد القادر الكيحل، مساندتهم لترشيح شباط خلال اجتماع لجنتها المركزية، في حين اعترض أعضاء آخرون على ذلك، مطالبين بعدم إقحام هذه المنظمة في التنافس بين المرشحين. لكن الكاتب العام للمنظمة اللجنة الكيحل استطاع أن يفرض في البيان الختامي الصادر عن اجتماع اللجنة دعم التنظيم للمرشح حميد شباط، ما اعتبره أنصار المرشح الآخر عبد الواحد الفاسي انحيازا لشباط ولا يتماشى مع ضرورة التزام المنظمة بالحياد بين المرشحين. وهذا ما دفع بثلاث جمعيات منضوية لهذه المنظمة إلى انتقاد هذا الموقف ومحاولة التمرد على كاتبها العام، إذ أصدرت كل من منظمة الكشاف المغربي وروادها، وجمعية التربية والتنمية، وجمعية البناة، بيانا تتبرأ فيه من مساندة قيادة الشبيبة الاستقلالية لشباط؛ في حين استغل عبد الواحد الفاسي اجتماعا عقد ببيت رئيس رابطة الأطباء الاستقلاليين، الدكتور نور الدين الدغيمر، للتهجم على شباط وأنصاره من خلال التأكيد على "ضرورة تحرير حزب الاستقلال من شباط ومن معه، ومحاربة عمليات اختراق الحزب والانتهازية والفساد ومحاولة الاستيلاء عليه من طرف أشخاص لا يمتلكون أي إرث نضالي والراغبين في الاستوزار"؛ كما استغل اللقاء الذي جمعه ببعض أعضاء المجلس الوطني للحزب ليتهجم على رئيس الشبيبة الاستقلالية، عبد القادر الكيحل، وكذا الشبيبة لمحاولة، في نظره، فرض رأيها على الحزب، معتبرا ذلك "انحرافا خطيرا وغير مقبول؛ فيما كان ينتظر منها أن تكون مشتلا لإنتاج أطر الحزب". 3- التحكم في معاقل الحزب تتميز مدينة فاس بأنها بمثابة المعقل الرمزي والسياسي لحزب الاستقلال. إذ عرفت العاصمة العلمية ليس فقط ولادة الحزب، بل ولادة أهم رموزه التاريخيين، وعلى رأسهم زعيم الحزب علال الفاسي. وبالتالي، فعلى الرغم من عدم انحدار حميد شباط من الأصول العريقة لأي عائلة فاسية، إلا أن مساره النقابي والحزبي تركز بالخصوص بمدينة فاس. فقد مارس نضاله النقابي منذ مساهمته في تأسيس نقابة بمعمل للصناعات الحديثة (لاسميف) وتعيينه كاتب عام فرع للاتحاد العام للشغالين بفاس، ليتزعم الإضراب العام الذي شل الحركة في دجنبر 1990 بفاس، ما أدى إلى ملاحقته من طرف الأجهزة الأمنية لأكثر من سنة، قبل أن تتخلى السلطات عن متابعته بضغط من حزب الاستقلال. كما شهدت فاس أيضا صعود نجم شباط من خلال دخوله في المعترك السياسي المحلي من خلال ترشحه للانتخابات الجماعية، إذ أصبح نائبا لرئيس جماعة زواغة بفاس في 1992، ثم رئيسا لجماعة زواغة سنة 1996، ليصبح بعد ذلك نائبا لرئيس المجموعة الحضرية لفاس، ثم عمدة للمدينة ابتداء من سنة 2003. وشهدت كذلك جل معارك شباط ضد خصومه السياسيين، فقد كانت أولى حروبه ضد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي هيمن على "تسييرفاس"، إذ دأب على وصف الحزب، الذي كان يشترك مع في الكتلة الديمقراطية، باتحاد الشركات، وأن اتحاديي فاس مجرد بلداء، ويتحملون المسؤولية عن مختلف المصائب التي عرفتها فاس؛ فيما كان يصفه الاتحاديون بالانقلابي والفاسد وبممارسة خروقات عقارية خاصة في تجزئتي واد فاس والقرويين.. لكن حروبه مع الاتحاديين توقفت بعد هزيمتهم في الانتخابات الجماعية وعجزهم عن مجاراة شباط.. بعد الاتحاديين ظهر منافسون جدد له بفاس، هم الإسلاميون، وخاصة مرشحهم لحسن الداودي قبيل انتخابات 2007. وأدى منع أنشطة العدالة والتنمية من طرف أنصار شباط إلى صدور تصريحات من لحسن الداودي، قال فيها إن شباط له مليشيات شبيهة بتلك الموجودة بأمريكا اللاتينية. ووصل الأمر بسعد الدين العثماني، الأمين العام السابق للعدالة والتنمية، إلى حد مراسلة قيادة حزب الاستقلال حول ما وصفه بسلوكات شباط غير السوية. وتطورت المواجهات إلى حد اعتراض سيارة عبد الإله بنكيران من طرف أشخاص قيل إنهم موالون لشباط، عندما جاء لترؤس نشاط في المدينة... وذلك في فبراير2008. وقبل ذلك تم قطع التيار الكهربائي عن سينما أمبير بفاس، حيث كان المقرئ أبو زيد ينوي إلقاء محاضرة في مارس 2007. وفي خضم انتخابات 2009، خاض شباط حروبا جديدة ضد حزب الأصالة والمعاصرة، إذ وصفه بحزب الدولة وأنه حزب ولد وفي فمه ملعقة من ذهب، معتبرا أن الدولة أخطأت حينما سايرت البام.. وهاجم شباط قادة البام واتهمهم بسرقة البرلمانيين والمستشارين في جميع المحطات الانتخابية، وإرهاب البلاد شمالا وجنوبا، وأنهم يوهمون بأنهم يمتلكون مفاتيح البلاد، ويعينون العمال والولاة ويعزلونهم. ولم يسلم شباط بدوره من هجمات البام، إذ وصفه قيادي الطاهر شاكر ب"السيكلس الذي أصبح يسير فوق الملايير"، كما وصفه ب"الطاغوت الذي تسلط على فاس". كما هدد فريد أمغار، الكاتب الجهوي للبام بإحالة ملفات فساد شباط على القضاء. ولعل خوض شباط حروبه الضارية ضد خصومه السياسيين كان ينطلق دائما من أن فاس بمثابة قلعته السياسية التي لا يسمح باقتحامها أو اقتسامها سواء مع حلفائه أو خصومه، متسلحا في ذلك بشبكة متنوعة من العلاقات تستند إلى مجموعة من أصحاب رؤوس الأموال، خاصة من المنعشين العقاريين الذين يقومون بتمويل كل حملاته الانتخابية مقابل تسهيل حصولهم على التجزئات الأرضية والعقارية التي يقيمون فيها مشاريعهم العقارية المربحة. ومن بين هذه المجموعات والشركات العقارية هناك مجموعة الجامعي، ومجموعة الضحى، ومجموعة التاجموعتي ومجموعة جسوس، بالإضافة إلى شبكة من جمعيات المجتمع المدني التي تشتغل في المجال الخيري، كجمعية أوربة التي تترأسها زوجته وابنة عمه فاطمة طارق، وجمعية مولاي إدريس التي تتلقى أموالا من كبار تجار فاس المقيمين بالعاصمة الاقتصادية، أو في بعض المدن الأوربية أو الأمريكية، والتي تقدم خدمات اجتماعية وخيرية وتعليمية يشرف عليها أشخاص معروفون بأنهم من أنصار شباط. II – من الآلية التوافقية إلى الآلية الانتخابية يبدو أن لجوء الحزب لأول مرة في تاريخه إلى الآلية الديمقراطية لانتخاب منصب الأمين العام قد لعب دورا حاسما في تقوية حظوظ شباط في الفوز بهذا المنصب. إذ بعد كل المحاولات التي بذلت من طرف لجنة المساعي الحميدة، التي كلفت من طرف مجلس رئاسة الحزب لإيجاد حل توافقي لحل مسألة الأمانة العامة، تم الحسم في الأخير إلى اللجوء إلى الآلية الانتخابية للفصل بين كل من مرشحي الحزب عبد الواحد الفاسي وحميد شباط، خاصة بعدما ابتعد القصر عن التدخل في هذا الشأن. 1- حياد القصر لقد لعب القصر في عهد الملك الراحل الحسن الثاني دورا حاسما في التحكم في الحقل الحزبي وضبط مكوناته، فهو لم يكن يهتم فقط بصنع الأحزاب أو اختراقها، بل كان يسعى أيضا إلى اختيار زعمائها وأمنائها العامين من خلال تمييل الكفة لصالح الشخصيات المقربة منه أو تلك التي يمكن أن تتواصل مع شخصية ومزاجية الملك الراحل. ولعل هذا ما يفسر بقاء الأمناء العامين لجل الأحزاب في مناصبهم أطول مدة ممكنة، فعادة ما لا يتم تعويضهم إلا بعد وفاتهم بشخصيات عادة ما كانت تحوز رضا أو قبول القصر. لكن يبدو أن هذا الوضع قد تغير نسبيا بعد تولي الملك محمد السادس الحكم، إذ أبدى منذ بداية حكمه رغبة صريحة في الاشتغال مع نخبة حزبية جديدة منتخبة بطرق ديمقراطية، ما كان يؤكده من خلال عدة خطب ملكية دعا فيها إلى إصلاح الأحزاب ودعوتها إلى تفعيل آليات الديمقراطية داخلها. من هنا، يفهم لماذا فشل محمد الوفا، صهر علال الفاسي ووزير التربية الوطنية في حكومة بنكيران، في حشد أي دعم لصالحه في المنافسة المحتدمة بين شباط وعبد الواحد الفاسي.. فقد استغل احتدام هذه المنافسة ليشيع خبر اتصاله بالمحيط الملكي واعتباره مرشح القصر. لكن مع مرور الوقت، اتضح بأن القصر لم تصدر عنه أي إشارات أو تصريحات بهذا الشأن، بل بدا أن محيط الملك ربما كان يفضل صعود شخصية من طينة شباط لمنافسة بنكيران سواء في شعبويته أو داخل التكتل الحكومي. ولعل هذا ما شجع شباط من مواصلة منافسته لابن الزعيم علال الفاسي، نافيا بشكل قطعي أي تدخل للقصر في شؤون الحزب سواء لفائدته أو فائدة غيره؛ وهكذا صرح في ندوة صحافية بأن "لا وجود لأي تدخل من طرف القصر، لقد كانوا يقولون إنهم سيمنعون شباط، وسيأتون بكريم غلاب.. هذا عهد آخر، وملك آخر يحرص أشد الحرص على تطبيق الديمقراطية في دستور جديد، وأن المؤسسة الملكية للجميع، ويحترمها الجميع، ولا يجب إطلاقا إقحامها في أي موضوع". كما استبعد شباط أي تحرك لمحيط القصر في رده على إمكانية تدخل القصر خلال الربع ساعة الأخيرة، مشيرا إلى أن "الملك محمد السادس طينة أخرى من الملوك ويؤمن بالديمقراطية"، موضحا أنه فضلا عن الميولات الملكية الديمقراطية، فإن الدستور الجديد لا يسمح لأي مؤسسة بالتدخل في شؤون أي مؤسسة أخرى". 2- شراسة الحملة الانتخابية لم تتميز الحملة الانتخابية التي سبقت انتخاب الأمين العام بطول مدتها فقط، بل اتسمت بالأساس بحدتها، إذ تم اللجوء فيها إلى مختلف الوسائل لاستقطاب أعضاء المجلس الوطني كل بطريقته الخاصة. - فعبد الواحد الفاسي فضل في إدارة حملته الانتخابية اللجوء إلى تنظيم الاجتماعات الهادئة التي يحضرها "عدد من القياديين وأعضاء المجلس الوطني وبرلمانيون، واعتماد لغة الإقناع في الحديث والخطابة... فقد أكد الفاسي أمام حشد من أنصاره في اجتماع حضره 245 عضوا في المجلس الوطني يمثلون مختلف الجهات أن الاستقلال مازال يزخر بالوطنيين الشرفاء، وأنه لازال يشكل معادلة أساسية في الحقل السياسي... وأبرز الفاسي أنه نظم حملة نظيفة ونزيهة عكس منافسه الذي وظف كل الأسلحة الممكنة للنيل منه، ولجأ إلى أساليب غير نزيهة بلغت في بعض الأحيان التهجم على شخصه...وأكد تشبثه بالقيم التاريخية للحزب، وتمسكه بخدمة الحزب والوطن بمزيد من التفاني والمسؤولية، مبرزا أن الأولوية هي الحفاظ على الحزب وتعزيز مكانته في الحقل السياسي، وتأهيله لينخرط بقوة في الاستحقاقات القادمة، وأبرز استعداده الكامل لمواصلة مهام الأمناء العامين السابقين للحزب". -أما حميد شباط فنهج في حملته الانتخابية أسلوبا يتماشى مع شخصيته وتمرسه بالعمل النقابي الذي يقوم على الحشد والاستقطاب من خلال تعبئة قواعد المنظمات الموازية للحزب كالاتحاد العام للشغالين الذي يتحكم فيه والشبيبة الاستقلالية التي احتشدت وراءه بزعامة أحد أتباعه عبد القادر الكيحل. كما وضع خطة تواصلية لاستقطاب بعض العائلات المتنفذة في بعض الأقاليم كالمنطقة الشرقية ومنطقة سوس، بالإضافة إلى بعض أعيان الأقاليم الصحراوية. وهكذا نجح في كسب مساندة رئيس المجلس البلدي لمدينة وجدة، وعائلة رئيس الفريق النيابي نور الدين مضيان، بالإضافة إلى دعم آل قيوح. بالإضافة إلى أن شباط استطاع أن يستقطب بعض الأطر والكوادر المتنفذة داخل الحزب، ككريم غلاب رئيس مجلس النواب، وعادل الدويري، وزير السياحة السابق، الذي صرح في استجواب صحفي بأنه في إطار الاستعداد للتنافس مع أحزاب قوية، وضرورة استعادة حزب الاستقلال لمكانته داخل المشهد السياسي، "فنحن في حاجة إلى زعيم قوي وشعبي". بالإضافة إلى ذلك تركزت حملته الانتخابية على محاربة التوريث، وانتقاد عائلة عباس الفاسي من خلال التشكيك في ذمتها المالية والأخلاقية، إذ اتهم في بعض تصريحاته أثناء حملته الانتخابية صهر عباس الفاسي وزير الاقتصاد والمالية في حكومة بنكيران، نزار بركة، بأنه يستغل منصبه للضغط على بعض أعضاء المجلس الوطني للحزب من خلال استمالتهم للتصويت لصالح عبد الواحد الفاسي نظير إلغاء بعض الضرائب التي مازالت بذمتهم، كما نعته بالكذب عندما شكك في الأرقام التي أدلى بها وزير المالية السابق صلاح الدين مزوار؛ في حين انتقد عبد الواحد الفاسي لتشبيهه بعض الاستقلاليين بماسحي الأحذية أو السيرورات، متحديا إياه بكشف ممتلكات الحزب التي توجد في اسم عائلة الفاسي. ومقابل ما صرح به غريمه عبد الواحد الفاسي في لقاء تواصلي بالدارالبيضاء حول اهتمامه بضرورة "بناء حزب قوي على المستوى التنظيمي وذلك بشكل تشاركي مع جميع مناضلي الحزب، لأن المرحلة تقتضي وجود حزب قوي تنظيميا في المغرب"، لجأ شباط إلى استمالة كل الأعضاء الذين تضرروا أو كانوا مستائين من تسيير عباس الفاسي للحزب، إذ أكد على ضرورة الحفاظ على وحدة الحزب، ملتزما "بإعادة الاعتبار إلى أعضاء مجلس الرئاسة الذين همشوا طيلة 14سنة، وهي المدة التي قضاها عباس الفاسي في أمانة الحزب؛ كما وعد بإعادة كل الأسماء الاستقلالية البارزة التي حاربها عباس إلى البيت الاستقلالي، وأبرزهم عبد الحميد عواد وعادل الدويري وغيرهم. كما لعب شباط على الوتر الاستقلالي من خلال انتقاده لتقاعس الأمين العام السابق عن التزامه بإجراء تعديل في حكومة بنكيران للرفع من تمثيلية المرأة، والأقاليم الجنوبية، وكذا لعدم انسجام عمل الوزراء الاستقلاليين الستة داخل حكومة بنكيران لغياب التنسيق بينهم وعدم تواصلهم مع نواب أو قيادة الحزب، ملتزما بأنه في حالة فوزه سيضغط من أجل تعديل وضع وعمل وزراء الحزب داخل الحكومة التي يترأسها حزب العدالة والتنمية، وأنه سيقوم بمحاسبة وزراء حزبه على تواجدهم الضعيف، وأنه سيقدم اقتراحا للمجلس الوطني بأسماء وزراء الشعب الذين يمتلكون برنامجا، ويحترمون الفريقين البرلمانيين والمستشارين المحليين، ويخضعون لقرارات المجلس الوطني". 3 - شفافية التصويت تميزت أول عملية في تاريخ الحزب لانتخاب الأمين العام بعيدا عن التوافقات بأجواء انطبعت بروح التنافس الحاد، وبروح شفافية التي طبعت العملية الانتخابية. - أجواء العملية الانتخابية لقد حاول المرشحان استغلال الحضور المكثف للصحافة التي اهتمت بتغطية مجريات هذا المؤتمر ونقل وقائعه التي يعرفها الحزب للإدلاء بتصريحات أكدا فيها على حظوظهما في الفوز بمنصب الأمين العام، وثقتهما بجدارتهما في رئاسة الحزب. وهكذا وصف الصحفيان عبد القادر الحجاجي وخالد العيموني هذه الأجواء التي سبقت عملية التصويت من خلال ما يلي: "منذ الساعات الأولى من صباح اليوم الأحد بدأ أعضاء المجلس الوطني لحزب الاستقلال في التوافد على قصر المؤتمرات بالصخيرات لحضور أشغال دورته الأولى بهدف الحسم بين مرشحين لمنصب الأمانة العامة، وهما حميد شباط وعبد الواحد الفاسي، نجل الزعيم التاريخي علال الفاسي، وانتخاب لجنة تنفيذية في خطوة قد تقطع مع مرحلة المرشح الوحيد. أمام مقر قاعة قصر المؤتمرات كان عشرات الصحافيين والمصورين ينتظرون تسلم بطائقهم الإلكترونية لدخول الاجتماع الذي كان مقررا على الساعة التاسعة صباحا، غير أن الأبواب ظلت موصدة، ليتحول الفضاء إلى ساحة لتجاذب أطراف الحديث وتبادل التخمينات حول من سيقود سفينة حزب الاستقلال خلال الولاية المقبلة. الساعة تشير إلى التاسعة والنصف، ركنت إحدى السيارات الفارهة ولاح في الأفق شخص حميد شباط، حيث وجد أمامه زوجته ونجله نضال، عضوا المجلس الوطني للحزب. وبدا المشهد يوحي بأن العائلة واثقة من الفوز، إذ اختارت تحية الأنصار ب"مبروك العيد"، بينما كان مناصرو شباط زعيم نقابة الاتحاد العام للشغالين الموالية للحزب يرددون عبارة "أهلا بالأمين العام". لم يضيع شباط كثيرا من الوقت حتى بدأ في توزيع التصريحات على الصحافيين، متحدثا فيها عن حظوظه وعن برنامجه ومستقبل الحزب، وفي الوقت ذاته تحية أعضاء المجلس الوطني أمام مقر قصر المؤتمرات الذي وجد فيه مكان لشخص يبيع كوفيات مزينة برمز القدس الشريف وأخرى باللون الوردي وشعار الميزان لحزب الاستقلال وقبعات تحمل رمز العلم الوطني. فتح قصر المؤتمرات أبوابه الخارجية حوالي الساعة العاشرة صباحا، وبعدها بلحظات وصل المرشح عبد الواحد الفاسي. كان هادئا كعادته يمشي متثاقل الخطى يصافح الأنصار ويرد التحية على مناصريه الذين يتوسمون فيه القدرة على قيادة حزب سبق أن قاده والده الزعيم التاريخي علال الفاسي في مرحلة متميزة من تاريخ المغرب. لم يفوت الفاسي بدوره فرصة التواجد المهم للصحافيين.. كان يعطي تصريحات دبلوماسية أنست الصحافيين ما تم تبادله من اتهامات بين المرشحين طيلة الحملة الانتخابية التي خاضها المرشحان، والتي فاقت أحيانا حدود اللياقة. تحول بهو قصر المؤتمرات حيث تجمع الأعضاء بعد أن عبروا الأبواب بالبطاقات الإلكترونية إلى حلقيات أجمعت على أن ما يعيشه حزب الاستقلال يعد نقلة نوعية في تاريخه العريق الذي بدأ رسميا منذ سنة 1944 بتزامن مع تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال. يرى محمد ماء العينين، عضو المجلس الوطني واللجنة التنفيذية سابقا وسفير المغرب حاليا بأستراليا، أن اجتماع المجلس الوطني الذي حضره جل قياديي الحزب باستثناء القيادي امحمد الخليفة الذي سبق أن نادى بتأجيل انتخاب الأمين العام إلى مطلع السنة المقبلة، "سيكون بمثابة سابقة في الحياة السياسية المغربية لأن المرشحين لتولي المسؤولية الأولى في الحزب أخذا من الوقت ما يكفي لزيارة كل الأقاليم وتعريف المناضلين بالرؤى المستقبلية التي سيسير عليها الحزب تحت قيادة المسؤول الذي سيختارون"، معتبرا أن "أعضاء المجلس الوطني أصبح لديهم ما يكفي من القناعة لاختيار هذا المرشح أو ذلك، وهذا سبق لحزب الاستقلال لإرساء قواعد الديمقراطية التي يؤسس لها الدستور الذي اقترحه جلالة الملك محمد السادس وينادي بتطبيقها داخل الأحزاب كما داخل المجتمع". أقوى لحظات الحزب كانت لحظة اجتمع فيها حميد شباط وعبد الواحد الفاسي لينضم إليهما الأمين العام المنتهية ولايته عباس الفاسي، في صورة تجسد الماضي والمستقبل، ودفعت بأحد المناضلين وعضو المجلس الوطني إلى طرح سؤال: "والله ما اعرفت سفينة ديال الحزب فين غادا". وسط مشهد توزع الأنصار بين هذا المرشح أو ذاك يبرز مشهد "حكماء" الحزب وقد حرصوا على حضور هذا الموعد، وإن كان الزمن قد أخذ مأخذه من بعضهم كما هو حال عبد الكريم غلاب، عضو مجلس الرئاسة الذي حضر متكئا على عصاه ومسنودا من أحد أقاربه، بحيث توجه إلى حيث سيجد رفيقيه في المجلس محمد بوستة الزعيم السابق للحزب وامحمد الدويري، أحد أبرز القادة الاستقلاليين. رمزية الحكماء وحضورهم في الوعي الجماعي للاستقلاليين تجسدت بقوة عندما اهتزت القاعة تنادي باسم بوستة، الأمين العام الأسبق والعضو الحالي لمجلس الرئاسة، في رسالة توحي وكأنها بمثابة حل ثالث". - عملية التصويت لإضفاء الشفافية على أول عملية انتخابية في تاريخ الحزب، تم الاتفاق على اتباع آلية ديمقراطية تتميز بالشفافية. وهكذا حددت مجموعة من الإجراءات لكيفية التصويت أعلنها رئيس المؤتمر الوطني للحزب محمد الأنصاري من خلال كلمة ألقاها في بداية افتتاح هذا المؤتمر كما ما يلي: "...بالنسبة للشخص الذي نودي عليه سيتقدم ببطاقته الإلكترونية مصحوبا ببطاقته الوطنية إلى الإخوان التقنيين التابعين للشركة المنظمة، ليبين للقاعة أن الشخص المعني هو المصوت وليظهر صورته على الشاشة لإضفاء مزيد من الشفافية والوضوح والديمقراطية على مرأى ومسمع الجميع.. كما عليه أن يتقدم إلى منصة الرئاسة ليمده رئيس المؤتمر بورقة التصويت التي تحتوي كذلك رفعا لكل لبس أو التباس على خاتم المؤتمر وعلى توقيع رئيس المؤتمر، وهذا الخاتم لا وجود لنسخة منه وهو واحد ووحيد تسلمه المركز العام للحزب يوم أمس لرئاسة المؤتمر ليمر الأخ أو الأخت على الجهة اليسرى إلى مخادع التصويت، ليكتب المرشح الذي أراد التصويت عليه، وليأتي إلى الصندوق الموضوع أمامكم، وهو صندوق زجاجي ليضع الورقة داخله... وبعد انتهاء عملية التصويت سيطلب من الجميع مغادرة القاعة، سواء تعلق الأمر بالإخوان والأخوات أعضاء المجلس الوطني أو رجال الإعلام، لتبقى اللجنة المكلفة بهذه العملية ورئاسة المؤتمر لتختلي اللجنة وأعضاء المكتب. وبحضور ثلاثة أشخاص عن كل مرشح لفرز الأصوات بمحضر موقع من طرف الجميع...". وبعد هذه الكلمة التي حددت فيها إجراءات التصويت، انطلقت عملية التصويت حوالي منتصف النهار إذ كان عباس الفاسي أول من نودي عليه للإدلاء بصوته وتبعه أعضاء مجلس الرئاسة، ثم أعضاء اللجنة التنفيذية وباقي أعضاء المجلس الوطني. وبعد الانتهاء من عملية التصويت، وفرز الأصوات، أعلن فوز حميد شباط ب478 صوتا مقابل 458 صوتا لعبد الواحد الفاسي، ليكرس كأول أمين عام تم انتخابه من خلال آلية ديمقراطية بدل الآلية التوافقية التي أفرزت الأمناء العامين لحزب الاستقلال، مع ما كان لذلك من انعكاسات سواء على الوضع الداخلي للحزب، من خلال تشكيك بعض أعضاء الحزب في عملية انتخاب الأمين العام الجديد وكذا اتهامه بتزوير انتخابات اللجنة التنفيذية وتأسيس تيار "بلا هوادة" الذي دخل مع شباط في حرب قانونية وقضائية.