احتدم النقاش مؤخرا حول طقوس البيعة بالمغرب أو ما يسمى بحفل الولاء ، هذه الطقوس التي تحمل في مدلولها التاريخي و السياسي خضوع جميع جهات المغرب لحكم السلطان، حيث ينخرط ممثلي هذه الجهات في حركات عبارة عن انحناءات والتي تعبر عن بيعتهم للسلطان و بالتالي خضوعهم لأوامره و تعليماته، في حين يلتزم أحد المرافقين له بالدعاء لهم بلسان السلطان بأن يعينهم الله على مهامهم و أن ينالوا رضا الله، هذا بالنسبة للمدلول السياسي الذي سطره أجدادنا للبيعة وهي تقام كل سنة في ذكرى اعتلاء الملك للعرش وهي بمثابة تجديد للعهد والوفاء. لكن الظاهر أن هذه الطقوس أصبحت في نظر البعض متجاوزة والبعض الآخر محطة لانتقاد المؤسسة الملكية وفرصة للمتاجرة بها سياسيا بعدما ألبسها العباءة الدينية. وإذ أتفهم الفئة التي تعتبر هذه الطقوس مجرد تقاليد يجب تجاوزها و هي أغلبها من أوساط الشباب الذي أصبح يطالب بتحديث المؤسسة الملكية عبر التخلي عن هذه الطقوس، فهو يرى أن الاستمرار في ممارستها فيه إساءة لصورة المغرب الحداثي، و يرجع تفهمي إلى هذا النوع من النقاش الشبابي إلى ما يقع داخل المجتمع من نقاشات حول العادات والتقاليد أو ما يسمى بصراع الأجيال، فأكيد أن الشباب الذي كسر عدة طابوهات مجتمعية (حيث أصبحت علاقاته جد متحررة و طريقة تناوله للحياة هي مختلفة عن طريقة عيش الآباء فكيف مقارنتها بطريقة عيش الأجداد) ، لن يكون تقييمه لهذه الطقوس سوى على أنها بالية و قديمة و أصبحت متجاوزة، و هذا النقاش ما هو إلا صورة مصغرة من نقاش موجود و مطروح داخل المجتمع بخصوص العادات و التقاليد و هناك أمثلة عديدة كالرقص على دم ليلة الدخلة للعروسة و ما يتخللها من أهازيج شعبية. وهنا لا بد أن أشير إلى أن الشعب الياباني رغم ما وصل إليه من تقدم على جميع الأصعدة، فهو يبادل التحية عن طريق الانحناء دون إعطاء لهذه التقاليد أي بعد ديني أو عقائدي حتى لا نقرن هذه الثقافة بالتخلف و الرجعية رغم أننا تعرفنا على ثقافتهم في التحية منذ الطفولة عبر مشاهدة الرسوم المتحركة اليابانية، و لم يسبق لأحد في العالم أن نعت الشعب الياباني بالعبيد بل إن اليابانيين يفتخرون و يعتزون بطريقة تحيتهم باعتبارها حسب رأيهم أنها من أحسن و أفضل الطرق صحيا للتحية مادام أنها لا تساهم في نقل الأمراض عن طريق المصافحة باليد أو الوجه خصوصا الأنفلونزا! قلت على أنني أتفهم نقاش الشباب التواق إلى كل ما هو حداثي و عصري، لكنني أستغرب من النقاش الذي أثارته بعض الأطراف بحيث مارست نوع من "الدين السياسي " على الموضوع، و هكذا فمن أجل تمرير رسائل لنظام المغرب تم إلباس هذه التقاليد المغربية العباءة الدينية، و هكذا انتقل مدلول هذه الطقوس من "البيعة" إلى "الركوع" وهي مقاربة ليست بغريبة أو جديدة ما دام أن هناك العديد من الشيوخ الإسلاميين الذين يرون في انحناء الإنسان للإنسان أو للجماد ما هو إلا شرك و كفر بمعنى: *الانحناء من أجل التحية حرام *انحناء رئيس دولة أو حكومة لراية البلاد حرام *انحناء اللاعبين الذين يمارسون بعض الرياضات كالتكواندو و الكراطي و الجيدو و غيرها من رياضات فيها الانحناء حرام *انحناء الفنان فوق خشبة المسرح لتحية جمهوره حرام 0000000 ورغم أنني غير ملمة بالأمور الفقهية، فإن يقيني و إيماني لا يسمحان لي بوضع مثل هذه المقاربات أو المقارنات بالصفة الإلهية و لو في الخيال، وإلا فإنه علينا أن نعيد صلواتنا التي نؤديها في منازلنا و نحن محاطين بالأشخاص و الأدوات المنزلية! ولأن ثقافة الانحناء منتشرة داخل المجتمع المغربي للتحية، فالصغير ينحني للكبير، وفي القرى نرى انحناء النساء للرجال أثناء التحية، و الابن ينحني للوالدين عند تقبيل اليدين و التلميذ ينحني للفقيه أو المعلم و يقبل يديه دون إعطائها أي بعد ديني ما دام أن مدلولها هو مدلول اجتماعي محض و هو لا يتجاوز معناها الاحترام و الوقار و التقدير. إن إحاطة المؤسسة الملكية و كذلك الزوجية بمجموعة من العادات والتقاليد لم تقع أثناء استعمار الفرنسيين أو الأسبان للمغرب وبالتالي فهي ليست بإرث استعماري كتداول اللغة الفرنسية داخل المرافق العمومية وإنما هي ممارسات تم شرعنتها بمباركة أهل الدين، الذين رأوا في ممارستها تحصين للمجتمع و ضمان لاستقراره دون إعطائها بعدا روحانيا ، وذلك نتيجة قربهم من السلطة في فترة معينة من الحكم بالمغرب ؛ حيث كانت المؤسسة الملكية تعتمد على خريجي المدارس العتيقة في تسيير الدولة، و من بين هذه الطقوس أو العادات الممارسة داخل المجتمع نجد ثقافة الانحناءات و تقبيل الأيادي للشرفاء و الفقهاء و التي قد تلازم أصحابها (الشرفاء و الفقهاء) حتى بعد الوفاة عبر ما نراه من تقبيل بعض فئات من المجتمع لأضرحتهم، وإن ثقافة الانحناء و تقبيل الأيادي عموما ما هي إلا من صنع أهل الدين من فقهاء و رهبان و قساوسة . و الأكيد أن الشعب المغربي ينتظر من النخب السياسية والمثقفة نقاشا يتسم بنوع من النضوج الفكري وذو رؤية مستقبلية بخصوص همومه و انشغالاته الحقيقية من شغل و تعليم و صحة و سكن، وإنه لبؤس فكري أن ننشغل ونجتهد في تأويل طقوس وعادات وضعها الأجداد لا تتعدى مدتها بضع دقائق و نترك جانبا ما تعانيه فئة عريضة من المجتمع من هشاشة وفقر على طول السنة.