يفترض المنطق الديموقراطي الأصيل أن أي حزب يحظى بثقة الناخبين بعد الإنتخابات التشريعية يسعى جاهدا إلى البحث عن أسباب تصحيح مسار السياسات العمومية من أجل توطين الثقة الشعبية ليس بغرض توسيع قاعدة الكتلة الإنتخابية المؤمنة بمشروعه السياسي و الإيديولوجي، و إنما بهدف إعادة الثقة في من فقدها في البرامج الحكومية السابقة. ويستلزم هذا المعطى من الناحية الأخلاقية أيضا ألا تطفو على سطح النقاش السياسي العام مجادلات و سجالات نابعة من عمق الحزازات الشخصية وتصفية الحسابات السياسوية الضيقة، بل يتعين أن تذوب الخلافات و النعرات العصبية في بوثقة هدف يسمو على النبش في ملفات لا تزيد ناتجنا الوطني الخام أية نقطة من شأنها أن تحسن مؤشرات تنميتنا البشرية بين مصاف الدول التي تشهد نهضة إقتصادية و إجتماعية وثقافية وسياسية، تجعلها تدفع بمنطق التغيير نحو تصحيح موجهات الحياة العامة بشكل يلامس من خلاله المواطن الناخب عن كتب صدقية البرامج التي صوت لأجلها، و تتحقق التعبئة السياسية العكسية تلقائيا دون حاجة إلى إبتذال دروب من أشكال التأطير السياسي العقيم الذي لا يؤمن سوى بمنطق النضالية القائم على العلاقات الشخصية و العشائرية والقبلية... إن المرحلة الحالية مرحلة منهجية في تدبير المشاكل الموروثة عن المراحل السابقة، ذلك أن السياسات العامة التي تصاغ بشكل دقيق و وفق معطيات صادقة و سليمة، تحيد بالمجتمعات عن الإحباط و الفشل الذي يصاحب تنفيذ السياسات العامة المصاغة بشكل غير علمي أو دقيق. و ما ينطبق عن السياسات العمومية يسري أيضا على إرساء قواعد الحكامة الجيدة، لأنهما وجهان لعملة واحدة هي بلوغ التنمية المستدامة، من خلال الأدوات و الوسائل الإقتصادية و المالية المتاحة، بحيث ترتبط هذه العناصر بالتحولات التي يشهدها السياق العام لتدخل الدولة في تفاعل مع حاجيات المجتمع و بالنظر لأهدافه وللوسائل التي أعدتها الدولة لهذه الغاية، إذ تشكل مختلف هذه الأطراف فاعلين ضمن مسلسل إنجاز تدخل الدولة، مع ما يستتبع ذلك من آثار ونتائج تعتبر المؤشر الحقيقي على نجاح أو فشل تدخل الدولة. فالدول التي تمكنت من الإنخراط القوي في درب التنمية هي تلك التي توصلت إلى إستلهام الروح العميقة للإسلام و مواءمة الشروط الجيوبوليتيكية للإسلام مع الفضاءات الإقتصادية الكبرى، و ذلك لكون التنمية لا تقوم لها قائمة سوى من خلال المقاولة والمبادرة الحرة و كذا التخطيط الذي يشيد بهما المختصون في الميدان الإقتصادي، حيث تتم المزاوجة و الإدماج بين عنصري المصلحة العامة و الخاصة مما يحقق العدالة الإجتماعية. إن السلوك السياسي للحزب الذي يقود الإئتلاف الحكومي الحالي، و هو حزب العدالة والتنمية، ينبغي أن يكون نموذجيا لاسيما و أن طروحاته المذهبية تترجم عقيدة سياسية تنهل من المرجعية الفكرية التي يحصل عليها إجماع من لدن كل الأطياف المجتمعية، يتعلق الأمر بالمرجعية الإسلامية التي تتبوأ مكان الصدارة في النظام الدستوري والقانوني و تشكل ثابتا للمجتمع والدولة. فالحري بمن تكون له مثل هذه الحظوة أن ينأى عن منطق الغيبة أو النميمة السياسي، فما بالك بلغط القول السياسي الذي لا يسمن فرص العمل لفائدة المعطلين، أو حتى يغني ذوي القدرة الشرائية المحدودة عن سداد أقساط ديونهم الشهرية. و في نفس الوقت تتطلب إكراهات المرحلة الراهنة ألا يختلط الخطاب السياسي بالخطاب الدعوي، فمنطق السياسة العامة يستلزم إعمال لغة الأرقام و المؤشرات العلمية و كذا اللغة التواصلية السياسية الناضجة المرتكزة على إعلام و إخبار المواطن بمراحل تقدم البرامج و المشاريع العمومية و البحث عن الحلول الممكنة للمعضلات الإقتصادية و الإجتماعية التي تكدر صفو التدبير العمومي. فالمعطى "الإيديولوجي" للحزب شكل المدخل الإنتقادي للأحزاب المعارضة على إعتبار أن "إسلامية السياسة" ليست حكرا على حزب بعينه و إنما هي شأن للجميع، و لا ينبغي أن تكون مطية بيد فئة معينة ضمانا للتنافس السياسي السليم، في حين أن إثارة مثل هذا العنصر السياسي أصبح متجاوزا من الناحية السياسية و الإقتصادية، و أن إثارة النقاش بشأنه تتعفف عنه حتى الأنظمة العلمانية التي تقدس الفصل الحاسم بين الشأن السياسي والشأن الديني. ذلك أنه في خضم الأزمات التي ألمت بالنظام الرأسمالي الحالي أصبحت السياسات العامة تكن بالمعروف لدراسات بعض المفكرين التي تشير إلى أن إقامة نظام إجتماعي إسلامي من شأنه تجاوز التحديات التي من الممكن أن تطرحها العولمة من خلال البنيات التحتية القوية لدعم الأنظمة المالية و البنكية التي توجد في بعض الدول الإسلامية المحافظة. ومن باب الموضوعية العلمية يعتبر البعض الآخر أن التطبيق الكلي لأحكام الشريعة الإسلامية في التشريع المعمول به ليس كافيا لوحده، بل يتطلب الأمر أكثر من ذلك حكامة جيدة للقضايا السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية، و هو ما نجده يلتقي مع المبادئ الأخلاقية التي يرتكز عليها الإسلام في تصوره للعالم و لطبيعة العلاقة التي تربط الفرد بخالقه وبالمجتمع. فليست هنا أية علاقة ربط حسب هذا الإتجاه بين التطبيق الكلي لأحكام الشريعة الإسلامية و بلوغ المجتمع لمرامي الحكم الصالح، و أن أحكام الشريعة الإسلامية يعد مجالها العملي هو أخلاقيات الحياة الفردية و الجماعية داخل المجتمع، و أنها ليست متوفرة على الآليات العملية التي تمكنها من مواجهة المشاكل السياسية و الإقتصادية والإجتماعية التي يتخبط فيها المجتمع المعاصر. غير أن مزاعم هذا التيار مردود عليها بكون المبادئ التي تدعو إليها بعض المنظمات الدولية الإقتصادية، من قبيل الشفافية والفعالية و محاربة الفساد والتي تدعو الدول إلى إعتمادها كأساس للتدبير و الحكامة الجيدة في تدبير الشؤون العامة، تعتبر قيما راسخة في الشريعة الإسلامية و لا حاجة إلى بيان الفصل فيها لأن مصادر التشريع الإسلامي أسهبت في التأكيد عليها و في تعداد محاسنها. فالعقيدة السياسية لحزب العدالة و التنمية جاءت متطابقة مع هذه الأحكام التي تقر آدمية الإنسان في المجتمع بدرجة كافية من خلال السعي لتحقيق مبادئ التنمية و العدالة الإجتماعية، و عليه فإن البرامج التي سيقودها الحزب ينبغي أن يشعر المواطن المغربي في ظلها بالأمن الإقتصادي و الإجتماعي و النفسي، حتى يستطيع أن يستغل طاقاته كلها من خلال حريته في مشاركته السياسية و خدمة المجتمع في سبيل رقيه الحضاري. وبمفهوم المخالفة يفترض أن يلمس هذا المواطن في البرامج المنسوبة للإئتلاف الذي يقوده حزب المصباح البون الواضح مع البرامج التي قادتها أحزاب سابقة، فالميزة التنافسية للحزب ينبغي أن تترجم على أٍرض الواقع. فعلى الرغم من الإرث الحضاري القوي الذي تحمله التعاليم الإسلامية و الداعية بالأساس إلى الرجوع إلى الأدلة النقلية بشكل يحظر البدع التي من شأنها أن تحيد عن سلوك المجتمع أو الدولة عن جادة المنهج الإسلامي الصحيح، فإن قنوات الإجتهاد الفقهي ترفع المؤسسات الإجتماعية و القانونية من بوثقة التقليد و الإنغلاق لتحملها على التطور والإنفتاح و ذلك ضمن الإحترام العقدي و الإلتزام المحافظ على بالشريعة الإسلامية. و من هنا تأتي أهمية الإجتهاد في الطرح السياسي التي دعا إلى مقاربة الوضع السياسي المغربي الراهن في شموليته. فتبني المنهجية المندمجة في خيار العمل الحكومي لمن شأنه أن يبلغ المقاصد الإجتماعية و يدرأ المفاسد السياسية. فهذا المضمون النموذجي الذي حمله البرنامج الحكومي لأول حكومة في ظل دستور فاتح يوليوز 2011 يتطلب التنزيل الحقيقي الذي من شأنه، إلى جانب إرساء آليات الحكامة الجيدة، أن يتصدى لكل مظاهر الفساد التي تضيع على بلدنا الإرتقاء في مدارج مؤشرات التنمية المستدامة، و تفوت على الأمة الفرصة لكي تساهم بفعالية في أن تضطلع بأدوارها الحقيقية إلى جانب الأمم الأخرى. فالإكراهات الحقيقية للمرحلة الراهنة تطرح تحديات كبرى على حزب العدالة و التنمية الذي نقلته صناديق الإقتراع ليوم 25 نونبر 2011 من حزب معارض إلى حزب ممارس للسلطة في ظرفية سياسية يطبعها نسيم الربيع العربي و تطوقها أيضا مرغمات المحيط الدولي التي تفرزها العولمة والشمولية و التي من شأنها أن تساهم في إضافة أعداد جديدة من الفقراء في المدن الكبرى، و هي فئات إجتماعية ترفض الإندماج الإجتماعي و تشكل بالتالي تهديدا للتنمية التي تصبو إلى تحقيقها الدول. إن السلوك السياسي لحزب العدالة و التنمية بعد تنصيب حكومة الأستاذ عبد الإله ابن كيران أخذ يستحضر مقاربة منطق التدبير العمومي، كما أنه لا يحيد عن هذه الإنشغالات الكبرى التي هي مطروحة اليوم في قلب تدبير الشأن العام. فمنطق تخليق الحياة العامة ومواصلة تثبيت دولة الحق و القانون جلية و هي عناوين بارزة تؤكد إحترام الأجندة السياسية للبرنامج الإنتخابي للحزب و تبتعد عن تأكيد فرضيات رسملة شعبية الحزب بإجراءات أو تدابير خارجة عن نطاق هذا البرنامج. والملاحظ أن ترجمة هذه التوجهات العامة تم بشكل واضح من خلال البرامج الحكومية، فالمنهجية المندمجة و التشاركية تشكل بحق القيمة المضافة للبرنامج الحكومي الحالي، وهي لا ينبغي أن تستهلك سياسيا قبل أن ترسخ أسلوبا في التدبير العمومي يكون قطب رحاه هو إستحضار تصورات مختلف القطاعات المتداخلة في المجال الذي يكون موضوع أي نشاط عمومي Action Publique، و ذلك ضمن مقاربة تشاركية حقيقية تدمج الرؤى و توحد الأهداف. و يعد هذا المطلب من أدبيات التدبير الرشيد التي تعمل وفقه مختلف الدول المتقدمة. فقوة السياسة العامة نابعة من قوة تماسك لحمة الإطار الفلسفي و المذهبي الذي يؤطرها ويصنعها، و مما يزيد مناعة هذه السياسة العامة تماسك شرعيتها الإجتماعية لاسيما إذا كانت ترتكز على مبادئ متفق عليها، لأن تقدمها يتسق طرديا مع إبراز كرامة الإنسان وتحقيق آدميته، وبالتالي تمكينه من التنمية و الرفاهية و العيش الكريم. فلا يمكن تحقيق هذه الكرامة البشرية إلا من خلال إقرار حرية الإنسان، ذلك أن القرآن الكريم جعل من الإنسان مكلفا مسؤولا، وحريته غير مطلقة، بل هي مقيدة بإحترام الآخرين ومراعاة المصلحة العامة. فالتشريع الإسلامي يقر بهذا الأمر غير أنه يقرنه بشرط آخر نعتبره جوهريا وهو المتمثل في عدم إستغلال الفرد بالشكل الذي يقتل فيه آدميته و يعطل لديه طاقاته. و نشير في هذا الصدد إلى أن بعض الجامعات الأمريكية أخذت تبحث جديا في المؤهلات و الآفاق التي يتيحها التشريع المالي الإسلامي لاسيما عقب الأزمات المالية المتتالية التي تعرفها الأنظمة المالية الليبرالية التي لا تؤمن سوى بقوى السوق في ضبط الحقل المالي، و الذي يتسبب في خسائر تقنع جميع المتتبعين بمن فيهم المتعصبين للنموذج الليبرالي الرأسمالي بأن دور الدولة لا محيد عنه من أجل رأب الصدع و تجاوز محنة الأزمة التي قد تعصف بكيانها نتيجة لعدم إستقرار الأوضاع المالية و الإقتصادية والإجتماعية. فالعقيدة السياسية التي ينهل من معينها الذي لا ينضب حزب العدالة و التنمية تبرز أن للإسلام خصوصياته التنموية التي لا تلتقي مع النموذجين الرأسمالي أو الإشتراكي، لأنه يحمل بين طياته رسالة شمولية لا تخاطب الفرد أو الجماعة فحسب، بل هي رسالة توفيقية تسعى إلى حماية مصالح الفرد و المجتمع على حد سواء، إنها أكثر من ذلك رسالة ذات ميزة تنافسية لكونها تصبو من خلال التعاليم التي تحملها إلى دفع الإنسان إلى بلوغ غايات الإستقرار المادي و الروحي معا. و في هذا السياق، يشكل إقرار مبادئ الحكامة الجيدة في التدبير العمومي تحديا رئيسيا على العمل الحكومي أن يدمجه في السياسات العمومية المتعلقة بمختلف القطاعات. فمما لاشك فيه أن الحكامة الجيدة أصبحت مطمح السياسات العمومية للدول على تباين أنظمتها السياسية و إتجاهاتها الفكرية، و هي بحاجة إلى دعم و مساندة شعوبها لما تتخذه من قرارات و تشريعات في هذا المجال. و حتى يتسنى لها ذلك تقوم السلطات الحكومية بحل مشاكل الأفراد و الإستجابة لمطالبهم المتنوعة من خلال مجموعة من البرامج تعرف بالسياسات العمومية التي تغطي جميع القطاعات الهادفة لتحقيق التنمية في أبعادها المختلفة. فالسياسات العمومية بالمغرب ينبغي أن تشهد تجديدا مفاهيميا مرتبطا بالإكراهات التي تطرحها العولمة كما تعرف تحولا في حقلها التداولي نتيجة للتحولات العامة التي شهدتها الأنظمة السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية الحديثة، و ذلك على غرار بعض المفاهيم الجديدة في هذا المجال من قبيل الفاعل المحلي و سياسة القرب و الحكامة الجيدة. و ضمن هذا المنطلق يندرج مفهوم الحكامة الجيدة المرتبط بالأساس بمراجعة موقع الدولة في تدبير الشأن العام، و كذا بتدني فعالية النشاط العمومي، وبالتالي محاولات نهج سياسات عمومية جديدة تسعى للخروج من أزمة التدبير المركزي، و كذا قطع الصلة مع أنماط التدبير العمومي التقليدية، لاسيما و أن ما يميز السياسات العمومية هو شمولية آثارها و نتائجها التي تطال فئات واسعة من المجتمع، مما يحتم التركيز على أساليب ومناهج تطويرها و تحديثها للزيادة من فرص نجاحها و تقليل فرص فشلها، و بالتالي تحقيق غايات التنمية المتوخاة. إن مقتضيات التدبير العمومي تشكل المحك الحقيقي لإستثمار حزب العدالة و التنمية لقوته التنظيمية النابعة من عمقه الديموقراطي و معطى الإلتفاف الجماهيري الحاصل حوله في ظل ظرفية سياسية تؤهله من دون منازع لأن يكون حزبا متميزا في المشهد السياسي الراهن نتيجة لفتور المعارضة السياسية، فهل سيوفق هذا الحزب في كسب رهان التدبير العمومي مثلما تفوق في تقدير تدبير تنظيمه الداخلي؟ *أستاذ باحث في المالية العامة كلية العلوم القانونية و الإقتصادية و الإجتماعية- أكدال – الرباط [email protected]