عصر يوم 24 يونيو 2012، هاجت مصر في طوفان من الفرح غير المسبوق، بمجرد إعلان كبير قضاة مصر عن فوز الدكتور محمد مرسي رئيسا لجمهورية مصر العربية، بعد الملحمة الإنتخابية التاريخية التي لم تشهد لها مصر مثيلا، على مر سبعة آلاف سنة من ميلادها، وهام الشعب المصري عن بكرة أبيه في الشوارع والأزقة والميادين والفضاءات، من قاهرة المعز إلى أبعد قرية في صحاري الجنوب، وأنأى نقطة في فيافي سيناء، احتفاءا وجذلا وطربا بالحدث العظيم. لقد فعلها الإخوان المسلمون وللمرة الثانية، خلال ستين عاما، من 23 يوليو 1952 إلى 24 يونيو 2012، وفي كل مرة، كان تاريخ النيل العظيم يكتب شهادته الصادقة، أن الإخوان المسلمين هم ضمير الأمة المصرية عندما تدلهم الخطوب، وأن قدر الإخوان المسلمين، هو تخليص شعب النيل من استعباد الفراعين المتجبرة، كلما طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، وعلوا في الأرض، وعتوا فيها عتوا، وجعلوا أهلها شيعا يستضعفون طوائف منهم، بالذبح والتعذيب في السجون والتجويع والتهميش والمهانة. ألم يكن الإخوان المسلمون هم من صنع ثورة 23 يوليو 1952، حينما أطاحوا والضباط الأحرار، بالطاغية الفاسد فاروق المقبور، إذ لم تكن طليعة الضباط الأحرار سوى غراس تنظيمهم العسكري في صفوف الجيش، وما بذرته يد الإمام الشهيد حسن البنا تحت إشراف اللواء عزيز المصري أحد أبطال ثورة عرابي، والذي بقي مسكونا ومتيما بحب تحرير مصر من الطواغيت بالرغم من المحن التي تعرض لها، فكان أن استقطب أنور السادات ليكون الضابط الأول في خلية التأسيس، بينما كان جمال عبد الناصر الضابط الثاني في الترتيب في هذه الخلية، وهو الذي بايع الإمام الشهيد حسن البنا على السمع والطاعة في المنشط والمكره، حينما كان عضوا في التنظيم السري الخاص، فنقله حسن البنا إلى خلية التنظيم العسكري ليفصل بين المدنيين والعسكريين. ولولا أن العنجهية والأنانية وعبادة الذات، والعقيدة الفاسدة في استعلاء وعلو العسكري على المدني، والتي تولدت عنها مؤامرات الخيانة والغدر والتنكر لإخوة الإيمان والدعوة والنضال، لكان للشعب المصري مصير آخر، من الشرف والعزة، والرقي والصلاح، هو عين ما تم الإتفاق عليه بين المرشد العام للإخوان المسلمين حسن الهضيبي، وقيادة الضباط الأحرار ومنهم جمال عبد الناصر، حينما اتفقوا في جنح الليل، وببالغ التكتم والإسرار على ساعة الصفر للقيام بالحركة الثورية الانقلابية في الجيش للإطاحة بفاروق. هذا الفاروق الفاسد الذي كان قد سقط في التغرير به لقتل حسن البنا فقتله، بينما كان هذا الأخير يطمح في ترفيعه إلى سدة الخلافة، وإعلان عرشه امتدادا للخلافة الإسلامية كي تصبح مصر قلب العالم الإسلامي لاسترداد المجد المضيع للأمة الإسلامية، فلم يلبث هذا العرش الذي عزلته النزوات المرذولة عن هموم الأمة سوى ثلاث سنوات بعد هذه الجريمة الجبانة، ليصبح بعدها أثرا بعد عين، لنكتة سوداء طبعت صفحة التاريخ المصري، فطهره الإخوان المسلمون من لوثتها ليلة 23 يوليو 1952، حينما خرجت جموعهم وجماهيرهم تملأ شوارع القاهرة والمدن الكبرى لإسناد حركة الجيش التي قادتها حفنة من بسطاء الضباط المغمورين. لقد تصالحت مصر مع ذاتها يوم 24 يونيو 2012 بإختيارها واحدا من تلامذة الإخوان المسلمين رئيسا لها، وما أعجب ما تحفل به مصر من الأسرار والعبر والحكم الربانية، فهي التي حباها الله بمكانة تمكين أهلها من كل شيء، إذ قال عز وجل: "اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم" (البقرة 61), وقال سبحانه وتعالى: "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين" (يوسف 99)، وقال عز من قائل: "وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتُا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المومنين" (يونس 87). وتلك مصر التي ارتسمت في تاريخها الأبدي أسطورة الصراع بين الطاغية والمنقذ، في أبرز التجليات التي عرفها الكون لتكون عبرة للعالمين في كل الأزمان. إذ يبلغ فيها الفرعون الحاكم أن ينتفش غرورا وطغيانا وتجبرا بمالا يضاهى ولم يسبقه إليه بشر، فيستخف بالشعب كما أخبر الله تعالى: "أليس لي ملك مصر وهذه الانهار تجري من تحتي" (الزخرف 51)، ويستخف بالمنقذ ومن يقود المعارضة "أم أنا خير من هذا الذي مهين ولا يكاد يبين" (الزخرف 52)، ويستخف بوزرائه فينادي في كبيرهم: "يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى" (غافر 36-37)، ويستخف بمن يثوب إلى رشده من حاشيته من السحرة: "فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى" (طه 71)، ويستخف بالجميع فيقول: " أنا ربكم الأعلى " (النازعات 24)، و " ما علمت لكم من إله غيري " (القصص 38). وعند هذا الحد تكون نهاية الحاكم الطاغية في مصر في كل دهر وزمان، بتنكيل الله به نكال الآخرة والأولى، إذ يقول الله عز وجل "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الارض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون" (القصص 5-6). وفي تاريخ مصر آية، فهي تقتل رؤساءها وحكامها، وتنكل بهم كلما طغوا وتألهوا، وتأتي بالمنقذين فيها من المنفى أو من السجن، وتأتي بهم من صلب الطائفة التي تنصب عليها أصناف التعذيب والقهر والبطش والإقصاء، فموسى عليه السلام الذي أهلك الله فرعون بين يديه، قدم من المنفى والفرار والخوف، وقدم من الطائفة التي استضعفها فرعون بذبح أبناءها واستحياء نساءها. ويوسف عليه السلام، قدم من السجن ليحكم مصر بعد العزيز الذي سجنه حينما كان حاكمها الأوحد، وبعد قرون من الزمن وعهود غوابر، تحل نفس القاعدة، وتتحكم نفس السنن، إذ في نهاية فاروق وعبد الناصر والسادات ومبارك كان الناس يخرجون من السجون ويعودون من المنافي أفواجا أفواجا، وفي مقدمتهم جميعا الإخوان المسلمون نحو التمكين والاستخلاف. والإخوان المسلمون رووا بدماءهم ثرى فلسطين وهم يقاتلون الصهاينة، وثرى مصر والقنال وهم يقاتلون الإنجليز، وأريقت دماؤهم في الدهاليز المظلمة والأقبية المرعبة لسجون فاروق وعبد الناصر والسادات ومبارك تعذيبا وسلخا وبطشا، بآلات التعذيب الرهيبة، وذبحا وسفكا وقتلا على أعواد المشانق، فكانوا للشعب فداءا وقرابين على مذبح الحرية والكرامة. وفي مدرسة الإخوان المسلمين، نهل الشعب المصري من التربية والإيمان، والعلم والفكر، أجيالا بعد أجيال، حتى لم يبق واحد من المصريين لم تكن له بهذه المدرسة صلة أو تواصل من قريب أو بعيد ولو بخيط رفيع أو بسبب من الأسباب، حتى ممن قاتلهم أو عاداهم أو شنع عليهم، بعد غدر ونكران جميل. ومن معين مدرسة الإخوان المسلمين، ارتوت طلائع الحركات التحررية الوطنية، في عموم أقطار العالم الإسلامي، في شمال إفريقيا، والمغرب العربي، وفي بلاد الأفغان والباكستان، وبلاد الأناضول، واقتبس أعلام وأئمة المذهب الشيعي في العراق ولبنان وإيران من النموذج الإخواني ما أحدثوا به ثورة في بنيتهم الفكرية والتنظيمية، وما أخرجوا به أتباعهم من العجز والاستكانة والانتظارية البليدة، وما تمكنوا به من أن يزلزلوا عروش الطغاة في إيران. وكان استشهاد سيد قطب مفسر القرآن الكريم، بمثابة الشرارة التي عممت فكر حركة الإخوان المسلمين في كل الأمصار والأصقاع من بلاد العرب والمسلمين. وفي مشرق العالم الإسلامي ومغربه، غدت مؤلفات )معالم في الطريق(، و)في ظلال القرآن الكريم( للشهيد المفكر سيد قطب، بوصلة للفكر والكفاح، ونبراسا للاهتداء والاقتداء، ومنهلا للعلم والارتواء، وأصبحت )مأثورات( حسن البنا، و)رسالة التعاليم(، وردا مورودا، وزادا لاقتيات الأرواح وتصفية النفوس. لقد كانت ومازالت مدرسة الإخوان المسلمين بمثابة الكلمة الطيبة التي كانت بذرة مباركة للشجرة الطيبة، "ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء توتي أكلها كل حين بإذن ربها " (ابراهيم 24-25). فيا سعدى مصر برئيسها محمد مرسي وطوبى لها بعهد الإخوان المسلمين، في الجمهورية الثانية. *عضو الأمانة العامة لحزب النهضة والفضيلة