أولا: محيط وانعكاسات المصادقة على دفاتر التحملات أثارت دفاتر تحملات الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة وشركة صورياد- القناة الثانية جدلاً حاداًّ، يتجاوز حدود النقاش المهني حول مكونات الدفاتر المذكورة، ليطرح تساؤلات جوهرية حول أداء مؤسسات الدولة حكومية كانت، أو هيئات عهدت إليها السلطات العمومية بتدبير وضبط مجال محدد. وكيفما كان تقييمنا لهذا الجدل، فإنه يبقى ظاهرة صحية طالما بقي في إطاره بعيداً عن لغتي الوعد والوعيد أولَيِّ الذراع، وفي أفق البحث عن إرساء ممارسات سليمة تتماشى مع متطلبات دولة القانون. فمن الزاوية الصرفة لدفاتر التحملات، من حسنات هذا النقاش، على الأقل، طرح للتداول في الساحة العمومية، موضوعاً يهم جميع المغاربة، وخروج أصوات مسؤولة على تدبير هذا القطاع من صمت الذهر، ومساهمة عدة فعاليات مهنية ومهتمة في نقاش موضوع الإعلام العمومي الذي تؤرق خدمته جل المواطنات والمواطنين. وبالرغم من الجدل الدائر بين كل الساهرين على تدبير القطاع حول درجة وطريقة مشاركته وإشراكه في إعداد هاته الدفاتر. فهي فرصة يجب أن نغتنمها لتعميق النقاش- بدرجة أولى بين المهنيين وفي مقدمتهم مهنيو الشركتين- من أجل الحفاظ على كل ما هو إيجابي في الدفاتر المذكورة والهادفة إلى الوصول إلى إعلام عمومي مهني متميز، ويؤدي فعلاً خدمة عمومية تساهم في بناء هذا الوطن، وكذا، بهدف إعادة النظر في العديد من القضايا التي بقيت غير مفهومة أو يلفها غموض في دفتري التحملات. أما من حيث مسؤولية مؤسسات الدولة، يجب البحث في كيفية عرض ومناقشة دفتري التحملات من قبل الحكومة ومصادقة الهيئة العليا للاتصال السمعي- البصري (هاكا)، فمن خلال المعطيات المتوفرة، تم إعداد هذه الدفاتر من طرف الحكومة وموقع عليها من طرف وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة، وذلك ما هو مثبت في آخر صفحة من كل دفتر تحملات، وأحالها السيد رئيس الحكومة على الهاكا كما هو وارد في قرار هذه الهيئة. هذا الوضع يفترض أن أعضاء الحكومة على علم بمقتضيات دفاتر التحملات، وبالتالي نحن أمام خيار حكومي، أسائل فيه صمام أمان سلامة النصوص القانونية تشريعية كانت أم تنظيمية، ألا وهو الأمانة العامة للحكومة عن عدم التناسق-incohérence– في مكونات تلك الدفاتر وانعكاساتها على الأمن القانوني لمؤسسات الدولة. أما إذا كان إعداد دفاتر التحملات قد تم فقط من طرف وزير الاتصال وبمباركة من رئيس الحكومة، فتلك إشكالية أخرى، ومؤشر سلبي بخصوص تنزيل باقي النصوص والمؤسسات المهيكلة لعمل الدولة المغربية في ظل دستور 2011 (13 قانون تنظيمي و19 قانون عادي). وتُطرَحُ قضية الأمن القانوني، كذلك، على كيفية تعامل الهاكا من دفاتر التحملات التي يعطيها القانون حق المصادقة عليها، ومن يقول المصادقة، يعني تمحيص وتدقيق ما يعرض عليها. غير أن الوقائع المتوفرة تذهب عكس ذلك، فالتواريخ المثبتة في ختم الدفاتر، وقرار الهيئة نفسها توضح أن "الحكومة" أعدتها يوم 28 مارس 2012، وأحالها رئيس الحكومة في اليوم الموالي (29 مارس) على الهيئة، لتؤشر على إجازتها في نفس اليوم. فلا أعتقد أن يوماً واحداً كاف لدراسة جدية لمقتضيات يُبْتَغَى منها إعادة نظر جذرية في الإعلام العمومي. لتساءل من خلال هذه الممارسة وظيفة وأداء كل المؤسسات المماثلة التي عهدت لها السلطات العمومية بضبط مجالات معينة، وأحياناً بإمكانيات مادية وبشرية جد مكلفة للمال العمومي؟ علماً بأن دورها لا محيد عنه في البناء الديمقراطي، ولكن إن هي قامت به كما هو محدد لها فعلاً في القوانين المحدثة لها. ثانيا: قراءة في دفاتر التحملات تجدر الإشارة بداية، إلى أن معالجتي لم تطل الجانب التقني ولا الجانب المهني في دفاتر التحملات، والتي يجب أن يعكف عليها المهنيون انطلاقاً مما هو وارد في تلك الدفاتر، كما أنني اقتصرت بخصوص دفتر تحملات الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، فقط، على أبواب الخدمة العمومية، والقواعد العامة المطبقة على الخدمة التلفزية، والالتزامات الخاصة للقناة "الأولى" وقناة "الرياضية"، والأبواب الخاصة بالإشهار والرعاية، والأخلاقيات، والحكامة الجيدة، والمقتضيات الانتقالية والختامية. خلصت من ذلك إلى ثلاث ملاحظات/قضايا تتطلب توضيحات من معدي الدفاتر والجهات التي صادقت عليها، أولاها مرتبط بتدخل الحكومة بصورة تحكمية أحياناً، وثانيها، يتعلق بالمعاملات التفضيلية بين مكوني القطب العمومي، وثالثها، يهم عدم التناسق- incohérence- بين مكونات الدفتر أو مع مقتضيات قانونية سارية المفعول، الأمر الذي لا يخلو من تشويش على الممارسة السليمة، لأن المقتضيات تشريعية كانت أم تنظيمية، يجب أن تتميز بالوضوح، درءاً لكل التباس أثناء تطبيقها. أولا: هيمنة وجهة نظر الحكومة. نقف عليها من خلال ملاحظتين: 1- تفرض المادة 10 من دفتر الشركة الوطنية، والمادة 8 من دفتر القناة الثانية، على القناتين، "بث البلاغات والرسائل والندوات والخطابات التي يمكن للحكومة إدراجها ضمن البرامج في أي وقت ممكن". المشكلة ليست في إعطاء الحكومة هذا الحق، وإنما في كيفية ضمان عدم تحوله لاستبداد يحرم المكونات غير الحكومية وفي مقدمتها المعارضة من ممارسة نفس الحق، وفي نفس الوقت أو يتزامن معه.لأن الاحتكام فقط إلى المسطرة المحددة في الظهير المحدث للهاكا ( المادة 4) في مثل هذه النوازل لن يجبر الضرر إن تحقق من خلال ممارسة الحكومة للحق المذكور بصورة تعسفية أو لتصفية حسابات سياسية. 2- استبعاد النقل المباشر لنقاشات قانون المالية ( المادة 25 من دفتر الشركة الوطنية)، وذلك من خلال التحديد الحصري للجلسات والتصريحات الممكن نقلها مباشرة، على القناة الأولى، وهي قضايا أساسية لا نقلل من أهميتها، غير أنه بالمقابل لا يمكن لأحد أن ينكر مكانة مناقشة قانون المالية في الحياة البرلمانية، فهو لحظة مكاشفة وتشريح سنوية للسياسات العمومية، من حق المواطن معرفة مختلف النقاشات التي تدور بشأنها، وليس الاقتصار على مجرد التغطيات الروتينية لأشغال البرلمان. ثانياً: معاملات تفضيلية بين مكوني القطب العمومي تتم المعاملة التفضيلية من خلال: 1- فرض شروط أكثر صرامة على القناة الثانية من الأولى وفي مواضيع مماثلة، من قبيل البرامج الثقافية والمعرفية ( المادتان 26 و32 من الدفترين) حيث يُحدد دفتر التحملات بدقة ما يجب بثه من طرف القناة الثانية مع شرط حرص الشركة على راهنية المعطيات العلمية المقدمة في برامجها، مقابل توصيف عام لدور القناة الأولى مع إعفائها من شرط راهنية المعطيات المقدمة. وكذلك بالنسبة للبرامج الفنية، اشترط على القناة الثانية أن لا تقل مدة برنامج المسابقات عن 52 دقيقة (المادة 30)، في حين أعفيت الأولى من هذا الشرط (المادة 36). أما بخصوص الأعمال التلفزية والسينمائية والمسرحية، حصرت الدفاتر بث المسلسلات أو السلسلات الوطنية المنتجة وطنياً في القناة الأولى، بينما خصص للقناة الثانية عرض الأفلام السينمائية القصيرة. كما أن القناة الثانية، أصبحت بموجب المادة 31، مطالبة بإنتاج وبث بصفة منتظمة عملاً مسرحياً مغربياً في الشهر، بينما أعفيت القناة الأولى من ذلك، بالرغم من أن المادة 37 من دفترها معنوية ب"أعمال تلفزية وسينمائية ومسرحية"؛ 2- وضعية البرامج الرياضية بقيت ملتبسة بالنسبة للقناة الثانية، فمن خلال المادة 20 المحددة للخصائص العامة لبرمجة القناة، لا وجود للبرامج الرياضية، مع الإشارة إلى أن صياغة هذه المادة لا تفيد الحصر، إضافة إلى أن دفتر التحملات سمح لها بإدراج الوصلات الإشهارية عند نقلها لمنافسات رياضية ( المادة 39-3)، وبإبرام شراكات لاقتناء واستغلال حقوق بث المنافسات الرياضية ( المادة 61). علماً أن الرياضة شكلت إلى وقت قريب أحد العناصر الأساسية لهوية القناة الثانية. بالمقابل أوكلت بصراحة مهمة نقل المنافسات الرياضية الوطنية والدولية إلى القناة الأولى (المادتان 17و23). ثالثاً: عدم التناسق بين مكونات الدفترين كما أسلفت، من الأمن القانوني لبلادنا، أن تكون مقتضيات دفاتر التحملات واضحة وتعبيراتها لا تثير اللبس حماية من أي تفسير تعسفي أو مخالف لمقتضيات الدستور وقوانين البلاد، ولا يجوز إلقاء عبء توضيح دلالاتها ومقاصدها على السلطات الإدارية أو القضائية لوحدها، لأنه اختصاص صرف للدفاتر المذكورة. ومن أمثلة ذلك في دفاتر التحملات: 1- تحفيز الاجتهاد والافتاء في القضايا المعاصرة، حيث منحت المادة 30 من دفتر الشركة الوطنية والمادة 25 من دفتر صورياد، تفويضاً عاماً وبدون حدود ولا قيود للخوض في هذا الموضوع من خلال برنامج يومي أوأسبوعي، وهو الأمر المخالف للفصل 41 من الدستور الذي حدد الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوي، كما أن مقتضيات المادة 30 من الدفتر لا تساير الفصل السادس من الدستور الذي يلزم الجميع أشخاصاً ذاتيين أو اعتباريين من الامتثال للقانون، وهذا ما تؤكده المادة الأولى من دفتري تحملات الشركتين(احترام قوانين المملكة). مما يجعل أن إعطاء تخصص في المجال الديني غير محدد، لا يتماشى حتى مع مقتضيات دفتر التحملات نفسه. وما يؤكد هذا النهج، هو أن البرنامج الشهري المختص بالاجتهاد والتجديد الديني بشأن القضايا المجتمعية الراهنة في القناة الثانية، يجب أن يتم وفقاً للتوجهات العامة للمؤسسات والهيئات الدينية الرسمية بالمغرب ( المادة 25 الفقرة2)، أي التي حددها الدستور الذي هو أسمى قانون. 2- منع الوصلات الإشهارية لألعاب الحظ، لا نختلف في ضرورة وواجب حماية ليس الناشئة فقط، وإنما كل مكونات المجتمع من مخاطر بعض المجالات، ولكن دائماً في احترام تام لقوانين المملكة. علماً أن مفعولها الواقعي سيكون منعدماً، لأنه إذا أخذت مجال كرة القدم مثلاً، ففرق كريال مدريد ومارسيليا مُحْتَضَنة وتُشْهِر على أقمصتها شركات عالمية للقمار وليس لألعاب الحظ، كما أن فريق كلفربول الإنجليزي أو كأس عصبة الأبطال الأوروبية فهي مُحْتَضَنَة من كبار شركات الجعة في العالم، وتشهر ذلك في أقمصتها ولوحاتها الإشهارية داخل الملعب، فكيف ستتعامل القنوات المغربية أثناء بثها للتظاهرات الرياضية التي تشهر مواد ممنوعة حسب دفاتر التحملات؟ ناهيك عن التداول وعلى نطاق واسع لأقمصة الفرق المذكورة في الشارع المغربي. كما أن ألعاب الحظ والرهان منتظمة في إطار مؤسسات ومنظمة بقوانين، ولا يجوز أن تقبل بفوائدها في جانب، وندعو للحد من نشاطها في جوانب أخرى، فما مآل الحساب الخاص لليانصيب بالميزانية والذي رصد له 100 مليون درهم خلال سنة 2012، أو مساهمة المغربية للألعاب بحوالي ربع الصندوق الوطني للتنمية الرياضية الذي خصص له هذه السنة 800 مليون درهم. كما أن لهذه الشركة شراكة مع المعهد العالي للتجارة وإدارة المقاولات (ISCAE) منذ 2009 بشأن إحداث "ماستر للتدبير في المجال الرياضي"، هل سنلغي ذلك؟ هذه أمثلة عن الغموض الذي تتركه الفقرات المرتبطة بمنع بث الوصلات الإشهارية لألعاب الحظ والرهان. 3- القضايا الممنوع بثها في مواد الإشهار، أحالت المادة 182-1 من دفتر الشركة الوطنية، والمادة 2.51 من دفتر صورياد على قانون الاتصال السمعي البصري ( قانون رقم 03-77) لاسيما في مواده 2و66و67و68 لتحديد الممنوع بثه في مادة الإشهار، غير أن المادتين المذكورتين في الدفترين أضافت مواضيع جديدة لمجال الحظر. من حيث الموضوع قد لا تشكل مشكلاً، لكنه من الزاوية القانونية تثير تساؤلات، من قبيل، هل يجوز لدفاتر التحملات التي هي مسألة تنظيمية أن تغير أو تتمم نصاً قانونياً؟ سنكون أمام تجاوز السلطة التنفيذية لاختصاصاتها، لأن قضايا الإشهار محدد بدقة وبصورة حصرية في مواد القانون 77.03، خصوصاً وأن المادة 68 من هذا القانون عندما سمحت بتحديد طابع القضايا الممنوعة، ربطتها بالنصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، أي أن التفسير، يجب يقوم من خلال النصوص السارية المفعول حين عرض الواقعة، وبالتالي لا يجوز لدفاتر تحملات والتي هي ذات طابع تنظيمي أن تضيف مقتضيات ذات طبيعة قانونية، ولا أن تفسر ما هو منصوص عليه في القانون 03-77. 4- احترام الأخلاق العامة، ورد في الدفترين بخصوص الممارسات التمييزية عبارة "ديانة سماوية معينة" كأحد أسباب التمييز، في حين أن الفصل الثالث من الدستور يحدد بأن "الدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية" ونصت الفقرة الرابعة في بندها الثامن من تصدير الدستور على "خظر ومكافحة كل أشكال التمييز، بسبب... أو المعتقد..."، وبالتالي حظر الممارسات التمييزية بسبب المعتقد لم تربط في الدستور بالديانات السماوية. هذه ملاحظات، كما أسلفت يجب معالجتها في إطار بعيداً عن التخندق وراء اعتبارات إيديولوجية. * أستاذ باحث