مشهدان أثارا انتباهي هذا الأسبوع، واحد بالديار البلجيكية والثاني بالمغرب؛ نازلة حرمان طلبة من الشمال، ينحدرون من قرى مهمشة (زومي، مقرصات، باب برد...) من منحة التعليم العالي رغم استيفائهم الشروط اللازمة بدعوى أن ذويهم يتعاطون زراعة "الكيف" وبالتالي تم تصنيفهم ضمن العائلات الميسورة، وهكذا مازال 80 طالبا يعانون من هذا الحرمان والحيف إلى حد الآن. "" والنازلة الثانية وقعت ببلجيكا وتهم المغربي "لحسن أوكفا" الذي اتخذ مسكنا عشوائيا مقرا له، بجانب القصر الملكي الخاص بالعائلة الملكية البلجيكية، بمحاذاة قصر الملك بودوان المشهور بقصر "لايكن" والذي يقطنه حاليا ولي العهد الأمير "فيليب" والأميرة "ماتيلد" مع أبنائهما الثلاثة. والعجيب في القضية أن القائمين على الأمور بالعاصمة البلجيكية ومصالح البلدية لم يصدر عنهم أي تصرف مشين أو غيره رغم أن الأمر مخالف للقانون، علما أنهم لا يريدون الوصول إلى قرار هدم البناء العشوائي في حالة عدم التوصل إلى حل اجتماعي، مفضلين إيجاد حل بديل عن التدخل بالقوة، مع أن أكثر من مصلحة اجتماعية تدخلت من أجل حلحلة هذه الإشكالية، لكن "لحسن أوكفا" رفض أكثر من حل بديل ورفض مساكن اجتماعية اقترحت عليه من قبل مركز العمل الاجتماعي الاستعجالي البلجيكي. مشهدان يصوران عقليتين في التعاطي مع المواطنين ونهج تصرف المواطنة، ولكم أن تتصورا رد فعل السلطات المغربية لو حدث مع وقع ببلجيكا في المغرب، وتجرأ أحد المغاربة بالتفكير في المكوث ولو ليلة واحدة على مقربة ليس من القصر الملكي، ولكن في إقامة الوالي أو العامل وحتى الباشا أو القائد، لقامت القيامة وخضع صاحبنا ل "سين وجيم" وتعرض إلى ما لا يحمد عقباه. فهل هذا يعني أن البلجيكيين يبالغون في احترام روح المواطنة والكرامة الإنسانية، أم أنه يعني أننا مازلنا نعاني الكثير من المعيقات التي تمنعنا من إتباع النموذج البلجيكي في تكريس المواطنة وترسيخ احترام الكرامة الإنسانية مهما كانت الظروف؟ فكيف ينظر إلينا البلجيكيون عندما يعاينون تهاطل "هراوات" عناصر اضريس والعنيكري على المعطلين المكفوفين بمجرد وقوفهم أمام قبة البرلمان للتنديد بأوضاعهم والتعبير عن غضبهم؟ هل فعلا سيعتبرون أننا ولجنا فعلا عهد "المواطنة واحترام الكرامة الإنسانية"؟ إنها صورة مؤلمة حقا، عندما نلاحظ كيف يعامل الإنسان عندهم وكيف يعامل عندنا؟ سبق وأن أحدثنا وزارة حقوق الإنسان في وقت كانت فيه هذه الحقوق معرضة للانتهاكات في واضحة النهار، واقتنع الجميع أن القضية ليست مرتبطة بإدارة أو بميزانية أو وزير، وإنما بعقلية وقناعات وتربية، وقبل هذا وذاك هي مرتبطة باختيار. لا نبالغ بالقول إن "المواطنة"عندنا ولدت جنينا مشوها يحمل إعاقات في بنيته ومكوناته، رغم أنه يخضع من حين لآخر، وفي بعض المناسبات لجملة من عمليات التجميل لتحسين صورته في مرآة الآخرين، أو حتى لا يسبب هذا التشوه في أزمات أو محن داخلية. فمفهوم المواطنة المعوق، المكرس على أرض الواقع، حمل الكثير من واجبات "المواطن" تجاه القائمين على أمورنا وتجاه الدولة وفتاتا من الحقوق، رغم قلتها فإنها تتعرض بسهولة للدوس والانتهاك. لذلك وبالرغم من بعض التحولات الديمقراطية إلا أنه لا يمكن اعتبار المجتمع المغربي قد تمكن من حمل الصفة السياسية الكاملة، فالمنظومات والآليات ما تزال على شاكلتها والمشاركة السياسية لا يمكنها المساهمة الفعلية في التغيير المتوخى والمنتظر لشكل الدولة واختياراتها وسياساتها، وفي ظل غياب انبعاث المجتمع السياسي بصورته المكتملة، فإنه من الصعب اعتبار أبنائه كاملي النمو سياسيا، وهذا ينطبق كذلك، بالتمام والكمال على المواطنة التي لا تزال تعتبر مجرد مفهوم "قانوني" مبتور، وهذا ما يجعل المواطن المغربي ليس "كائنا سياسيا" بالقدر والدرجة الكافيين والمواصفات والفعالية التي يستوجبها مجتمع سياسي يعيش مرحلة انتقالية شوهت مساراتها. لذلك لا يمكن حاليا اعتبار حاليا أن المواطنة بالمغرب تشكل صمام أمان على أساس أن المواطن المغربي لم يترعرع ككائن سياسي يتحمل مسؤوليته تجاه " الدولة والمجتمع: وإنما كتابع، مستقبله رهين بما قد يجود به القانون عليه من إكراميات وامتيازات وليس عبر تكريس حقوقه كاملة غير منقوصة والحرص على احترامها مهما كانت الظروف. وهذا لسبب بسيط هو أن المواطنة ليست حالة طبيعية تولد مع الإنسان وإنما هي جملة من الصفات والخصائص والمواقف والتصرفات التي يتعلمها ويكتسبها الإنسان، وهذا غير ممكن التحقيق إلا عندما تولد المواطنة في رحم مجتمع سياسي حقيقي مكون من "كائنات سياسية" وليس من مجرد توابع. لا يمكن نكران أن الحياة السياسية راكدة وكرامة المواطن ما زالت مقهورة ومهدورة داخليا وخارجيا، وأكوام بشرية تتزاحم بمناطق السكن العشوائي والغلاء يستشري كل يوم والشباب العاطل يعد بالملايين حاليا، والأهم من هذا وذاك، أن "المواطنة المبتورة" تكمن في الولاء وليس في الانتماء، وبالتالي ماذا تعني المواطنة لمن يجد نفسه محاطا بمسؤولين لا يريدون الاعتراف بأن حب الوطن يأتي عن طريق الإحساس الغامر بقدرة فرده على التمتع به والذوبان في محيطه والاندماج في كيانه والتجول في أرجائه والغرف من نعيمه والمشاركة في بناء يومه وغده. فكيف تستقيم "المواطنة" في جو مطبوع بشبح البطالة وشبح الكرامة المهدورة والفساد المستشري؟ وماذا يعني الوطن لإنسان يخاف المستقبل، وحينما تصبح " إشراقات" الماضي رغم مرارته سلوى الكثير من اختناقات الحاضر ومخاوف الغد؟