رغم زحمة المكان وهرولة الرائح والغادي في وسط مدينة وجدة الصاخب وبمحاذاة سوق مليلية "البائد"، فالكل يعلم أن هؤلاء النسوة اللواتي لا يكاد يميز الرائي الشابة منهن من المسنة لفرط تقاسيم البؤس البادية عليهن والملتحفة بثيابهن البالية، واللواتي يتخذن من هذا المكان مركز تجمعهن كل صباح، ويتهافتن على كل سيارة تقترب منهن، هن نساء "الموقف". ولا ندري هل سمين كذلك ل "وقوفهن" الدائم في ذاك المكان؟ أم لأنهن اتخذن "موقف" العمل الشريف، رغم مشقته، لإعالة أسرهن؟! "الموقف" لا يعدو كونه رصيف يتخذ منه هؤلاء النسوة مكانا لطلب العمل، ويترقبن فيه كل صباح، بأعين التوسل نساء ورجالا يأتون بسياراتهم لأخذ واحدة منهن لتشغيلها ليوم واحد مقابل 50 أو 60 درهم. "لالة!! بغيتي شي خدامة؟؟ سيدي!! خصك شي خدامة؟؟" هن في الغالب أرامل أو مطلقات في عهدتهن صغار، تكالبت عليهن نوائب الدهر، فسخرن سواعدهن لجلب لقمة حلال، يشتغلن في كل الأعمال المنزلية وعلى رأسها عملية التنظيف والتصبين، كما يشتغلن في الأعمال الفلاحية جنبا لجنب، كتفا لكتف، مع سواعد رجالية متينة. من سمى النساء "جنسا ناعما" سيفزع لمنظر أناملهن المتورمة وأياديهن التي تتخللها شقوق غائرة كشقوق الفقر التي تغمر حياتهن البائسة. تعهد إليهن، في الغالب، أعمال شاقة تفوق تلك الدريهمات التي تمنح لهن في آخر النهار، فقد تعمد بعض النساء، والموظفات منهن على وجه الخصوص إلى استقدام واحدة من نساء "الموقف" وتكليفها بمهمات عديدة من تنظيف وغسل وشطف وتصبين وطبخ... وكل هذا في يوم واحد. "أم الخير" امرأة في عقدها الخامس، تحاول، عبثا، إخفاء البؤس البادية ملامحه عليها بابتسامة مريرة وهي تتحدث لنا عن حكاياتها مع هذه الحرفة التي كان امتهانها اضطرارا لا خيارا وهي الأرملة التي تعيل فتى معاقا كان ثمرة زواجها من عجوز وقد كان عمرها قارب الأربعين. تقول أنها كانت في البداية تضطر لتكبيل ابنها "عبد القادر" لحين عودتها، قبل أن تهتدي لإحدى الجمعيات التي تهتم بشؤون المعاقين حيث يقضي اليوم " عبد القادر" نهاره حتى تأتي أمه لجلبه بعد عودتها منهكة من العمل، لتبدأ معه محنة أخرى لردعه وهو الفتى المعاق إعاقة ذهنية وحركية. استرسلت "أم الخير" في الحديث إلينا عما يعترضها ورفيقاتها في الحرفة من مشاكل قائلة "كاينين ولاد الناس وكاينين ولاد لحرام، وكاينين بنات الناس وكاينين عيالات قلوبهم حجر.." فكل واحدة منهن وطوال فترة ممارستها لهذه الحرفة قد تعرضت إما لعدم تأدية أجرتها أو تم تكليفها بمهام شاقة جدا أو كانت عرضة للتحرش الجنسي. لكنهن يفضلن الصمت بدل اللجوء للقضاء لعدم قدرتهن على الدخول في معمعته، وهن :لَوْليّات" الفقيرات، ولعدم ثقتهن في جدوى ذلك، كما صرحت لنا بذلك "فاطمة" هذه الشابة الثلاثينية المطلقة، والتي همست لنا بأنها تعرضت للتحرش أكثر من مرة وخاصة من طرف عمال الحقول، وأنها ليست الوحيدة، فالكثيرات من رفيقاتها يتناقلن همسا حكاياهن مع التحرش، وبدمعة تدحرجت على خدها الشاحب أكدت لنا أنه لولا اضطرارها للعمل لإعالة بنتيها لما قبلت بهذا العمل الحاط بالكرامة خصوصا عندما يتعلق الأمر بالعمل في منزل امرأة متعالية فظة "حنا نغسلولها وسخها وهي هازة نيفها"!! واستطردت "فاطمة" أن "الموقف" بدأ يعرف وقوف نساء دخيلات يمارسن البغاء، وقالت أن هؤلاء النساء يشوشن على عملهن ويشوهنه، كما تحدثت عن صويحبات لها يقمن بسرقة بعض الأغراض من البيوت التي يذهبن للعمل بها مم يجعل البعض يعرض عن استخدامهن. وفي غياب أي التفاتة من الوزارة المعنية لهذه الفئة من العاملات، فقد حاولت بعض جمعيات المجتمع المدني الوجدي إدراج خادمات "الموقف" ضمن اهتماماتها عبر إحداث مركز للخدمات والتكوين خاص بهن ، مع تخصيص حضانة لأطفالهن تعنى بالاهتمام بهم أثناء غياب أمهاتهن للعمل، وكذا إخضاع هؤلاء النسوة للتكوين في عدة مجالات كالطبخ والخياطة والتدبير المنزلي، بالإضافة إلى دروس في محو الأمية محاولة لانتشالهن من براثن الجهل. لكن هذه الالتفاتة الجمعوية تبقى قاصرة عن تخفيف معاناة نسوة "عزل" يرتمين يوميا في دوامة "حكرة" وغبن واستغلال. إن هذه الصورة الدرامية التي تعيشها هؤلاء النسوة، كل صباح، وفي نفس المكان، تفرض التدخل العاجل لتنظيم هذه الحرفة وتقنينها لحماية هذه الفئة التي ينخرها البؤس.