لقد جاء مفهوم المجتمع المدني في الغرب، نتيجة صيرورة فكرية وفلسفية عميقة. فله قواعده ونسقه، لأن المجتمع المدني يعني بشكل مباشر اعترافا بالتمايز بين المجتمع والدولة، ويعني أيضا اعترافا بالفرد كمواطن أي ككائن حقوقي قائم بذاته، كما يعني اعترافا بالفروق والتمايزات بين الجماعات المكونة، ثم أخيرا تحرير المساحات الاجتماعية من القمع العملي والرمزي وتحسين شروط الاختيار الحر للفرد والجماعة على السواء. لذلك فإننا نميز بين المجتمع المدني باعتباره مفهوما معرفيا، والمجتمع المدني باعتباره قيمة أخلاقية ومطلبية تصدر في المغرب*، وفي كل الوطن العربي، عن عدد من الأزمات العميقة في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. ولعل واقع المجتمع العربي، بكل أطيافه، يجعل تجسيد حقيقة المجتمع المدني باهتة، ومعطوبة وتعاني من الإعاقة الدائمة. وأهم ما يؤزم هذا الوضع، هو مفهوم الديمقراطية وعلاقته بمفهوم المجتمع المدني. ويلخص أستاذنا الجابري هذه الإشكالية بالتساؤل حول إمكانية قيام ديمقراطية في مجتمع غير مدني وهل يمكن قيام مجتمع مدني بأسلوب غيرديمقراطي؟ وهكذا يقترح الجابري أن يتم النظر في غياب الديمقراطية في الوطن العربي، من زاويتين اثنتين، هما: زاوية التحليل السياسي الإيديولوجي، وزاوية التحليل الاجتماعي الثقافي. فالأولى تشير إلى تناول الظاهرة من خلال وجودها الراهن باعتباره تعبيرا عن صراع القوى والمصالح المحلية والدولية، في حين تركز الثانية على الإطار الاجتماعي والحقل الثقافي الذي تنتظم فيه المكونات الداخلية الذاتية للديمقراطية. وإذا كان المستوى الداخلي للمكونات هو الركن الأساس في إنتاج العلاقات الديمقراطية، فإن الملاحظ، اليوم، أننا نرى التركيز على العوامل الداخلية بما يجري تصويره من لدن الغرب باعتباره جزءا من السمات الثابتة للشخصية العربية المرتبطة بحقل ثقافي محدد، برأيهم، ويتجلى في الثقافة الإسلامية. وإذا كان هذا التمييز بين مكونات داخلية وأخرى خارجية ليزداد صعوبة في ظل انحسار دور ووظائف الدولة الوطنية، فإنه لابد من أن نسجل المتغيرات العالمية وما جره المناخ العالمي والأدبيات الجديدة المتصلة به التي تتيح مراكمة العناصر الضرورية لتحسين سياق وقواعد الممارسة الديمقراطية. من هنا صارت الديمقراطية مفهوما شائعا في الفكر العربي والخطاب العربي الثقافي والسياسي في الوقت الراهن، لكن هذه الديمقراطية لم تتحول إلى مطلب اجتماعي نابع من صميم الجماعات. ولم تتحول الحرية إلى مطلب يحمله الفعل الاجتماعي، فإلى أي حد يمكن الحديث عن المجتمع المدني والديمقراطية، وهل يمكن أن يتحول مطلب الديمقراطية الحقة إلى مطلب سياسي واجتماعي، وهو مادفع الجابري إلى القول »والشيء نفسه يمكن أن يقال بالنسبة للعملية الديمقراطية ونتائجها. إن ما حدث في الجزائر، عندما أجريت فيها انتخابات حرة نزيهة، هو ما كان سيحدث في أي بلد عربي آخر تجري فيه انتخابات بنزاهة. أعني بذلك أن أغلبية الأصوات ستنالها القوى المعارضة للدولة، سواء كانت هذه القوى منظمة أو غير منظمة، إسلامية أوغير إسلامية. ويمكن القول بصفة عامة، مع بعض الاستثناء الذي يزكي القاعدة، إن القوى المرشحة للفوز في العملية الديمقراطية النزيهة، في الأقطار العربية، قوى غير عصرية. والسؤال المطروح في هذه الحالة: هل سنقبل بالديمقراطية وبنتائجها مهما كانت، أم أنه يجب التمييز بين الديمقراطية التي تعني في نفس الوقت الحداثة (في مجال الفكر والسلوك على الأقل) وبين الديمقراطية التي لا تأخذ في اعتبارها إلا التعبير الحر والنزيه؟. إذن، فالمجتمع المدني والديمقراطية والحرية والاستقلالية، كلها تتضافر فيما بينها لتؤسس لتصور مجتمعي منسجم، إلى حد ما. ومن ثم أمكننا ا لقول بأن مفهوم المجتمع المدني قد ولد من رحم مفهوم العقد الاجتماعي كما تمت بلورته من قبل فلاسفة التنوير. هكذا رأى هوبز في منتصف القرن السابع عشر المجتمع المنظم سياسيا، واعتبره ذلك المجتمع القادر على تشكيل إرادة عامة ليتماهى فيها الحاكمون والمحكومون عن طريق الدولة القائمة على التعاقد. في حين رأى روسو (القرن الثامن عشر) أن الحركة الجمعوية هي النسق الأنجع للدفاع ضد مخاطر الاستبداد التي يمكنها أن تهدد المجتمع. يتضح لنا من خلال النظريات التي سادت في تلك المرحلة من تاريخ أوروبا، أن الفكر الغربي استعمل العبارة »مجتمع مدني« للدلالة على المجتمعات التي تجاوزت حالة الطبيعة التي تأسست على السياسي، وحققت عقدا اجتماعيا وحد بين الأفراد وأفرز الدولة، ومن ثم دلت العبارة على الدولة والمجتمع معا. وجماع ذلك يؤدي بنا إلى أن المجتمع المدني كان يعني كل تجمع بشري خرج من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية، وبالتالي فثنائية الدولة والمجتمع المدني التي تتمثل بهيئة قائمة على اتفاق تعاقدي، وهو مجتمع لايعرف المراتب الاجتماعية. وتطورت فكرة المجتمع المدني مع هيجل لتصبح ممثلة الحيز الاجتماعي والأخلاقي الواقع بين العائلة والدولة، مما يعني أن المجتمع المدني يتشكل بعد بناء الدولة. فهيجل لم يجعل المجتمع المدني شرطا للحرية أو إطارا طبيعيا لها، بقدر ما هو مجتمع الحاجة والأنانية، ويبقى من الطبيعي أن يكون مراقبا من قبل الدولة التي تجسد ما هو مطلق، أي الحرية والقانون والغاية التاريخية في أرقى تجلياتها. إذن فالخلاصة التي يمكن التوصل إليها من خلال هذا العرض المختصر، هو أن الأساس التاريخي لمفهوم المجتمع المدني ضمن ارتباطه بالواقع البرجوازي، وضمن السياق الثقافي العام الذي تشكل في رحمه، ينبني على مرتكزين أساسيين، هما: أولا: على أساس مضمون الحياة المدنية الحديثة، الذي جوهره التحرر السياسي، وعلى التمييز بين الإنسان المطلق والإنسان الديني، أو بالأحرى على الفصل والاستقلال الديني وعن مواطن الدولة المدنية. ويمثل هذا التمييز البذرة العقلية للتحرر السياسي. غير أنه وجبت الإشارة إلى أن تحرر الدولة السياسي عن الدين، لايتضمن التحرر الفعلي للإنسان من الدين. ثانيا: إن التحرر السياسي، نادرا ما يقضي على التدين الفعلي للإنسان، مثلما لاتعني العلمانية الإلحاد. ومن ثم تصير العلمانية روح المجتمع المدني، التي لا تتحقق إلا في درجة جذرية من انفصال السياق الديني عن الدولة. ولن يتأتى هذا إلا في ظل سيادة العقلانية، واستقلال المجتمع المدني عن السلطة الدينية، واستقلال السلطة الدينية عن السلطة الزمنية، في ظل سيادة الدولة الديمقراطية الحديثة والمعاصرة، حيث كل إنسان مطلق بمفرده، سواء كان مؤمنا أومتدينا، متعصبا لدينه وأصوليا، عقلانيا أم ظلاميا، يكون فيها كائنا إنسانيا نوعيا سائدا. إن المتمعن في اختلاف معاني وتطور مفهوم المجتمع المدني يستنتج أنها تتقاطع جميعها في تعريفها بفصله عن الدولة. ومع ذلك فيمكننا أن نميز بين صنفين، إذ إن فكرة الفصل هذه تظل اسمية nominale في النظريتين الهيغيلية والماركسية، وفعلية في النظريتين الليبرالية والغرامشية. إن المراهنة على المجتمع المدني لم تلغ عند غرامشي دور الدولة ولا أهمية السيطرة عليه. بحيث يعتبر العمل في إطار المجتمع المدني جزءا من العمل في إطار الدولة وسياسة التحويل الدولية. لذلك لا قيمة للمثقف عند غرامشي ولا فعالية لديه إلا إذا كان عضويا، أي إذا ارتبط بمشروعه الطبقي السياسي، كما أن الهيمنة لا قيمة لها إلا كمستوى من مستويات العمل لتحقيق السيطرة الاجتماعية. فهي بهذا تكون مكملة للسياسة. إن المجتمع المدني والسياسي يسيران جنبا إلى جنب ويجمع بينهما في كل نظام ديناميكية السيطرة الاجتماعية. لهذا فأطروحة هذا الأخير، تتيح القول بوجود اختلاف في مستويات النظر بالنسبة لماركس وهيغل من جهة وغرامشي من جهة ثانية. كما يميز غرامشي بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي على أساس وسائل عمل، منها: الهيمنة فيما يخص المجتمع المدني للضغط على المجتمع السياسي. فلا وجود للمجتمع المدني بدون الدولة عند هيجل ولا وجود للدولة بدون المجتمع المدني عند ماركس والدولة عند هيجل توحد الخاص والعام وهي عند ماركس تقدم الخاص على أنه عام. في حين أن الفكر الليبرالي لا يرسي جدلية بين الدولة والمجتمع المدني بل مقابلة لا يمكن تجاوزها. إن واقع المجتمع المدني في الوطن العربي، وخصوصا في المغرب، ليدفعنا إلى طرح عدة تساؤلات حول ماهيته، وطبيعته، ووظيفته ودوره، وطرائق اشتغاله وتدبير مشاريعه، ثم الحمولة الفكرية والفسلفية لمجموع هذا الخطاب، وما هي إجاباته عن تساؤلات وانتظارات المجتمع، وإلى أي حد تمكن من تحقيق استقلاليته؟ لعل أهم ما يميز الخطاب السياسي والاجتماعي في الوطن العربي، هو إسرافه في الحديث عن المجتمع المدني، وتطوره، بل ودوره الهام في تطوير آساليب التنمية والارتقاء بالمجتمع، الأمر الذي تولدت عنه تخمة في إنتاج الجمعيات، والمشاريع والتدخلات في عدد من القطاعات الاجتماعية. لكن بالوقوف مليا، تتبدا للناظر عدة شوائب ومزالق جعلت »المجتمع المدني« ينزاح عن جوهر عمله، وينزاح عن المرتكزات الأساسية التي قام عليها مفهوم المجتمع المدني من حيث هو مفهوم معرفي، قبل أن يصير قيمة أخلاقية ترتبط بنبذ العنف والتسامح وتعميم هذه القيم من خلال قبول الآخر وحق الاختلاف بين المواطنين. أي مجموع القيم الحضارية المرتبطة بالتمدن. إن الحديث المتزايد عن المجتمع المدني في البلاد النامية، ومنها البلاد العربية، يمثل تعويضا عن غياب حقيقي لهذا المجتمع، وهو أيضا رد على الفراغ الذي أحدثه في الفضاء العمومي تفسخ الدولة وتحلل السلط العمومية إلى سلط أصحاب مصالح ذاتية وخاصة جدا، وانهيار القاعدة القانونية والمؤسسية الثابتة والراسخة للدولة والمجتمع على السواء. لذا فالمجتمع المدني، في هذا السياق، يشتغل ويستمر في إطار الإيديولوجية، وهو ما يعني أنه متحَكَّمٌ فيه وظل وسيلة لتحقيق أهداف وتدعيم مواقف وتأكيد مساع قد تصل إلى حد التناقض. فهو ليس مقصودا لما يمثله من إطار نظري وقانوني يهدف إلى إقامة سلطة اجتماعية مستقلة بعيدا عن النزاعات السياسية بمقدورها المشاركة في إيجاد الحلول من خارج السياسي والرسمي لمشاكل وقضايا مجتمعية، وإنما لشيء آخر، أي لأهداف تتعلق بما هو سياسي، بمعنى الصراع على السلطة كمواقع ومناصب أوبالوجاهة أو بالمنافع المادية التي تزداد قيمة بقدر ماتزداد مساعدات الدول الصناعية لهذا القطاع الجديد من النشاط الدولي الذي يدعو إلى طرح أكثر من علامة استفهام. إن هشاشة البنية السياسية في البلدان النامية تنعكس على الديمقراطية بشكل سلبي، بحيث تبدو أكثر فأكثر تجسيدا للمصالح الخاصة والجزئية، وغياب القانون يُنمي نزوعا قويا إلى البحث عن المواطنية والعمومية والمصالح الوطنية والحرية داخل المجتمع المدني، الذي صار إحدى الوسائل الموظفة والمستعملة لخدمة المصالح السياسوية!! وهذا يعني أن الدولة -في هذا النموذج- تسعى إلى قلب المعادلة، وتأزيم الوضع، من خلال محاولتها بناء العام من داخل الخاص، أي إعادة تكوين الدولة وولادتها من قلب المجتمع، »وتظهر تبعية الاستعمال العمومي للاستعمال الخصوصي، على صعيد داخلي في عسكرة المجتمع المدني وراء برنامج الحزب الواحد وتصنيع الجمعيات والأحزاب أو السيطرة عليها فتبدو التعددية ظاهرا يخلب الألباب، ولكن في باطنها واحدية مقيتة وانغلاق خانق«، وهو ما جعل النخب المسيطرة على الدولة تشعر بأن فكرة المجتمع المدني تنطوي على إنشاء دولة بديلة أو دولة. فما يميز الدولة في العالم العربي، بعد الاستقلال، هو الهيمنة المطلقة والتسلطية على المجتمع المدني بواسطة أنظمة شديدة المركزية أو حزب ذي طبيعة شمولية اكتسب شرعيته بفضل النضال ضد الاستعمار، أو بفضل "الشرعية الثورية" عن طريق الانقلابات العسكرية، إلى جانب وجود هيمنة إيديولوجيا الشمولية الإقصائية. وهذا ما يفسر لنا ما ذهب إليه المنصب وناس حين تحدث عن المجتمع المدني الذي رأى أنه نشأ في سياق خيار إيديولوجي هجين، لم يعمل سوى على تعميق التبعية الثقافية للآخر، مما فاقم التناقضات وكشف عن الهشاشة إلى حد كبير. هكذا انكشفت الهشاشة التكوينية للدول العربية المنبثقة عن الاستقلال السياسي، وانكشف طابعها المركزي التسلطي بعد أن عملت على إجهاض اللحظة الليبرالية التي كانت تشكل المجال الوحيد للمعارضة السياسية. وهذا أيضا يجرنا إلى الكشف عن حقيقة غاية في الأهمية تتمثل في أن سيرورة وتشكل الدولة العربية الحديثة في علاقتها بالمجتمع المدني من جهة، وبالقوى الاجتماعية من جهة أخرى، لم تكن في إطار القطيعة مع ميراث الكولونيالية التي تمثل الاستمرار التاريخي للدولة البيروقراطية الحديثة، كما أن القطيعة مع الدولة السلطانية التي سادت العالم الإسلامي لم تتحقق من جهة أخرى. وعليه، فإن مشاريع التحديث التي تبنتها الدول الجديدة في العالم العربي، وبالنظر إلى انعكاساتها على المجتمع المدني، وفي علاقة الدولة بالمجتمع المدني، قد ظلت محكومة بتجربة الحزب الشمولي، والحاكم الأوحد وهو الرئيس، وشرعية الزعامة السياسية والفردية والتاريخية للرئيس التي ترتكز على عقلية التكيف والاندماج والتحول في المراحل التاريخية التي تقطعها »ونقصد بذلك النماذج المجتمعية المرتبطة بدولة الحزب الوحيد، ودولة "ثورة الجيش"، ودولة الملكيات المطلقة والرئاسات القبلية والفردية« ( الجابري). وفي صميم هذه المعادلة اللامتوازنة تكمن أزمة الفئات الحاكمة في ديناميات بناء السلطة، وقضايا التحرر والتحديث، باعتبارها فئة تمثل نخبة مارست الاحتكار الفعال لمصادرة القوة والسلطة في المجتمع، وأفرغت العملية السياسية المعارضة حين ألغت المجال السياسي بهيمنتها المطلقة على المجتمع المدني، في محاولة خطرة نحو تحجيم نشاط القوى السياسية الحاملة لمشاريع عقلانية ووطنية، كما ساهمت في ترييف المدن. واضح أن المجتمع المدني ارتبط في نشأته بالحداثة الغربية، حيث تمت إعادة تشكيل الفضاء الاجتماعي على أسس العقد الاجتماعي، كما رأينا، والذي أبرم بين أفراد الهيئة الاجتماعية أنفسهم، وليس بينهم وبين أية قوة خارجة عنهم متعالية عليهم. كما أنه اقترن بالتوجه الفكري والسياسي الذي أسقط القدسية عن مفهوم الدولة والسلطة، لتحل محل ذلك الإرادة الحرة للفرد الذي غدا هو أصل الحكم، منه يستمد وجوده وشرعيته، وعلى أساس حقوقه الطبيعية يتأسس المجتمع المدني المتشبع بدلالات وحمولات ثقافية لم يكن لها ما يوازيها في ثقافتنا التراثية العربية. إن هذه التأملات التي قادتنا إلى ملامسة عدد من الجوانب التي لها صلة بالمجتمع المدني كخطاب ومفهوم، قد جلت لنا بعض مواطن الضعف والهشاشة التي قادت إلى أزمة حقيقية يتخبط فيها هذا الخطاب في الوطن العربي (المغرب على الخصوص). لذلك يبدو أن المجتمع المدني لازال مسألة نخبة، ولم يتفش بعد، ولم يعمَّ الوعي الذي يجعل المجتمع المدني واقعا جماعيا، ويبقى تراثنا من أكبر العوائق التي تحول دون تعميم هذا الوعي. إذ لازال الوعي الجماعي محكوما بسلطة أدبيات سياسية هيمنت طوال قرون، وهي التي تربط شرعية الدولة والملك بالشوكة والغلبة والسيف ففصلت الشرعية عن مشروعية مثالية تتمثل في فكرة الخلافة. فمازال ينظر إلى المسؤول السياسي على أنه ممثل مصالح خاصة ضمن مؤسسات عامة شكلا، والوعي العام لازال غارقا في الظلام والتخلف على المستوى الذي وصلت إليه المؤسسات والأطر القانونية، مما يسهل تأويلها وفق قوالب فكرية حددتها أشكال سياسية اندثرت على مستوى التنظيم والخطاب ولكنها حاضرة كسلط رمزية على مستوى الوجدان والفعل والممارسة واللاوعي؛ وإن السلطة من هذه الزاوية لن تعمل إلا على الحفاظ على خطابها الذي أنتجها. فالسلط السياسية لاتستمر إلا بما تقوم به من حرص للحفاظ على وجود الخطاب الذي أنتجها، باعتبارها تمثل إحدى الممارسات الخطابية؛ حيث يتولى مهمة إخضاع مزدوج: إخضاع الذوات المتحدثة إلى خطابات وإخضاع الخطابات إلى جماعات يفترض أنها جماعة ذوات متحدثة. إن الإرباك الخطير والأساسي للمجتمع المدني ، يتمثل في التركيب القبلي والعشائري والطائفي والإثني للمجتمعات العربية، فالجماعات الوسطية بين الفرد والمجتمع، والمقصود بها هنا: القبيلة، الطائفة، القرية، الحي، المجتمع المحلي، تحتل كما يرى حليم بركات في "المجتمع المعاصر" مركزا مرموقا في حياة العرب الاجتماعية، مما يجعل المؤسسات العامة لا تتواصل مع الأفراد إلا من خلال الجماعات التقليدية. لذا وجدنا هذا النمط التقليدي، هو نفسه يحضر في نسيج المجتمع المدني. فالولاء والانتهازية، وغياب تصور نسقي متكامل لمشاريع اجتماعية، كلها تظل غائبة، إضافة إلى غياب الديمقراطية داخل هذه التنظيمات التي تسودها التفاوتات في طبيعة العلاقات. إلى جانب أنها محكومة بسلطة "العصبية" التي تشكل مرتكزا محوريا في تحديد طبيعة ونوعية العلاقات داخل هذه التنظيمات في النسيج الجمعياتي المغربي (والعربي). إذ أضحى المجتمع المدني ساحة لتكديس الثروات على حساب الفئات الفقيرة والمعدومة، وساحة للتجارة بكل أبعادها، بدءا من الصفقات التي توازي عمليات التجهيز والإعداد، وانتهاء بالتلاعبات التي تصاحب المشاريع من تزييف في التقارير والأنشطة الوهمية، إلى جانب تفريخ جمعيات وهمية تستفيد من مبالغ ودعم مادي خيالي يزيد المستفيدين ثراء، مادامت أن رقابة الدولة على الأنشطة وعلى المجتمع المدني خجولة ولم ترق بعد إلى مستوى المبالغ المروجة في هذا المجال. ولعل أخطر ما في الأمر، أن المجتمع المدني صار مرتعا لكل من أراد الغنى ويطمح إلى تحسين وضعه المادي والاعتباري، في غياب أدنى حس بالمسؤولية والدور الذي يجب الاضطلاع به في هذا المجال. فصرنا أمام أنصاف مثقفين، وأشباه فاعلين جمعويين. هكذا نجحت الدول في تمييع، بل والتحكم في المجتمع المدني وتوجيهه إلى حد الخجل. في حين أن المواطن المدني المستنير في المجتمع المدني، هو ذلك الذي يتحلى بالجرأة على استخدام العقل المستقل ذاتيا، والمبرإ من الانحيازات العرقية، والطائفية، والدينية أو الطبقية. فالمواطن المدني عقل مستقل وهوية مدنية، أي مستنيرة، يفكر لذاته مستقلا عن القواعد التي تفرضها سلطة خارج الذات. وفي هذا الصدد يقول كانط أن المثقف المستنير في المجتمع المدني هو الأنا المفارقة أو المتعالية، المنفصل تماما عن الالتزامات والمعتقدات الجزئية الطائفية وصولا إلى معرفة الحق الكلي، من دون تمييز أو تفرقة. كما أن المثقف المستنير بقول إدوار سعيد هو »المتحفظ في علاقته بالسلطة السياسية« والمناهض للجمود العقائدي، والحر في اختياراته العقلانية. إنه ذلك الذي يبذل قصارى جهده من أجل الكشف عن المسكوت عنه، ونزع القناع الإيديولوجي الزائف الذي يخفي وراءه باطنا. ما حدث على أرض الواقع، وبعد سنوات الاحتلال والحكومات المتعاقبة، أن المجتمع لم يتغير، وظلت ثوابت الركود والبداوة أهم سماته. وما يبدو في الظاهر أنه تغير لايعدو أن يكون سوى نمط من العادات بالكاد كان لها أثرا حقيقيا على مستوى التمدن والتحديث. ويزداد الوضع تفاقما، مع تدمير الخصوصية الوطنية بصورة ممنهجة من أجل إحلال خصوصية الآخر المناقض، والأمر يصل إلى حد تمكين جماعات ثقافية جديدة من الهيمنة والسيطرة والتأثيرفي المجتمع (ما يدعى جماعات المجتمع المدني الممول بشكل مباشر وصارخ من الغرب**). هامش: *من بين 8 الدول العربية التي غطاها التقرير الصادر عن الشبكة العربية للمنظمات الأهلية عام 2002 وحدها 8590 منظمة، منها 7000 جمعية ومنظمة تتركز في المملكة المغربية وحدها (حوالي 81٪ من العدد الإجمالي) تليها بفارق ملحوظ مصر التي شهدت تسجيل وإشهار 700 جمعية ومنظمة أهلية جديدة، ثم اليمن 326،ولبنان 219، وتونس 157،وسوريا 18. وقد أشار التقريرإلى الزيادة المطردة في عدد الجمعيات. ** قال بيتر تيلور وكولن فلنت: »تمثلت إحدى الطرائق بالغة الوضوح التي واصلت بها بلدان المركز ممارسة نفوذها في بلدان الأطراف للحقبة ما بعد الكولونيالية في برامج المساعدات الاقتصادية، فقد استخدمت المساعدات الاقتصادية -والتي روج لها على أنها مبادرات دولية للإنعاش المجتمعي- كأداة للحفاظ على/أو لتطوير وتعزيز النفوذ السياسي لبلدان المركز في الدول المستقلة حديثا. ولو أن اهتمامات الدول المانحة للمساعدات كانت »إنسانوية« Humanitarian لكان من المتوقع تنفيذ برامج موجهة للبلدان الأفقر بوجه خاص. غير أنه لم تكن هناك أي علاقة فعلية بين الفقر وأموال المساعدات الجاري تخصيصها، وإنما نجد بدلا من ذلك التنافسات الجيوبولوتيكية هي المحددات الأكثر أهمية فيما يتعلق بمن يحصل على المساعدات وحجم ونوعية تلك المساعدات. «