قالت العرب قديماً: "ضاع العلم بين أفخاذ النساء" وقالت كذلك " ذُبح العلم على أفخاذ النساء"... وقالوا في الفخذ ما لم يقل مالك في الخمر... بل حتى إمامنا مالك قال في الفخذ قولاً، سأذكره لاحقاً... و بعد و بعد و بعد... ثلاث أفخاذ طلَّت علينا في هذه السنة، فكانت النظرة الأولى لنا و الثانية علينا... فخذ نائبة برلمانية و فخذ وزير للعدل و فخذ ممثلة مقتدرة. سأتخذ لكل منهم سبعين عذراً كما ورد في الأثر: " إتخذ لأخيك سبعين عذراً، فإن لم تجد فلا تلومن إلا نفسك" ، و سأزيد على السبعين صفراً حتى يصبحوا سبعمائة عذر... و حرصاً على وقتكم الثمين، سأكتفي بسرد عذر واحد لكل منهم. أما عذري في فخذ النائبة المحترمة نبيلة بنعمر، بعد أن استرق المصور في غفلة من أمرها تلك الصورة، فهو قوله تعالى في سورة النور: " وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" . ذهب بعض المفسرين في معنى قوله " القواعد" مفرده قاعد و هي المرأة إذا كَبُرت و كثر قعودها و انقطع عنها المحيض و لا يرغب فيها الرجال فهي قاعدٌ... أترك لكم عناء البحث في متون التفاسير و قواميس اللغة لتَبَيُّنِ صحة عذري من بطلانه... و عذري في فخذ وزير عدلنا مصطفى الرميد بعد أن ظهر نصفها في مقابلة لكرة القدم و كيف استشاط الناس غضباً و صاحوا في وجهه غيرة على العرض المستباح و الشرف المهان، مخافة أن تفتن نسائهم بفخذه المترهل، عذري له ما نُسب لإمامنا مالك رحمه الله في أن فخذ الرجل ليست بعورة إلا إذا خيف من بروزها فتنة فإنه يجب سترها كأفخاذ الشباب... أما ثالثة الأفخاذ فهي للطيفة أحرار بعد أن استعرضت متعمدة فخذها أمام عدسات المصور مَثَلُها كمَثَلِ ذلك التاجر المفلس يعرض سلعته الكاسدة، يُزوقها و يَسْرُدُ محاسنها و يبخس في الثمن بعد أن ردت بضاعته عليه، فيستوقفني قول ذلك الشاعر: ولي فخذ مقروحة من يبيعني *** بها فخذاً ليست بذات قروح أباها علي الناس لا يشترونها *** ومن يشتري ذا علة بصحيح عذري لك يا سيدتي أن قد بلغ اليأس منك مبلغه فأصبحت تستنبطين الرزق بإظهار فخذك، و الفخذ لا يجود بالرزق إلاَّ إذا جادت الصخرة بالماء الزلال. فقد قيل قديماً: " قطع الأعناق أهون من قطع الأرزاق" فلا أستكثر عليك قطع فخذ من لحمك... فعذراً يا سيدتي و عذراً للشاعر بعد أن بدلت كبده المقروحة بفخذ امرأة... كفاني لهواً و مزاحاً... فقد خلطت الهزل بالجد و اختلقت أعذاراً باطلة و التمست حججاً واهية، فالآية نزلت في جواز وضع العجوز لجلبابها، و إمامنا مالك براء مما نسب له من رأي شاذ لا يأخذ به إلا شاذ... فشُدُّوا معي رحالكم، أسافر بكم عبر الزمن نحو العصور الغابرة حيث ترقد فخذ من ذهب... سأروي لكم قصة ميلاد أول برلمان في تاريخ البشر، قدر له أن يولد يتيم الأب، شأنه شأن كل العظماء... هو نفس البرلمان الذي خلعت عنده نائبتنا المحترمة حذائها و اتخذت لها متكأً فوق الأريكة الوثيرة في ركن من أركانه، تستريح من وعثاء السفر و تستظل تحت قبته... إنه برلمان أثينا. قصته ترويها لنا لوحة فنية من أعظم لوحات عصر التنوير. إنها لوحة "موت سقراط"... و ستلاحظون أوجه الشبه الصارخ بين اللوحة و الصورة التي التقطت في لحظة سهو النائبة. أترككم تتفحصون تفاصيل اللوحة جيداً قبل الخوض في رسائلها المشفرة: في سنة 1787 ميلادية رسم الفنان الفرنسي جاك لوي دافيد رائعته "موت سقراط" التي تصوّر اللحظات الأخيرة في حياة الفيلسوف الإغريقي العظيم و الأجواء التي مر فيها تنفيذ حكم الإعدام في حقه، و ذلك بإرغامه على شرب قدح السم أمام أتباعه في تلك الزنزانة التي قضى فيها المعلم آخر أيامه سنة 399 قبل الميلاد. نرى جلياً في وسط اللوحة سقراط حافي القدمين، يُظهر فخذه اليمنى و يلبس رداءً ناصع البياض كأنه رداء الطهر و الخلود. و نرى في الصورة الأخرى نائبة برلمانية حافية القدمين، تظهر فخذها اليسرى و تلبس رداءً أسود كأنه رداء الحداد و الفناء... كانت مملكة أثينا قد أصدرت حكمها على سقراط وخيّرته ما بين الموت أو النفي، عقابا له على دروسه ومحاضراته التي كانت تثير الشكوك في نفوس الشباب وتحرّضهم على احتقار الآلهة والتمرّد عليها، و يدعو من خلال فلسفته إلى تكوين جمعية سياسية تنظم علاقات الأفراد داخل المجتمع ترتكز على منظومة العقد الإجتماعي، سُمِّيت لاحقا بالبرلمان. وقد رفض سقراط النفي في النهاية وفضّل الموت بتناول السم. فأصبح بذلك مثالا آخر على التضحية بالنفس في سبيل المبدأ. في اللوحة يبدو سقراط متماسكا وقد غمرته غلالة من النور، بينما سيطر على أتباعه الحزن واليأس. ومن خلال توزيع الضوء استطاع دافيد تحويل المشهد إلى دعوة مدوّية للنبل والتضحية والثبات على المبدأ حتى في وجه الموت. ويبدو سقراط مستمرّا في الحديث إلى تلاميذه حتى وهو يمدّ يده إلى قدح السم، مؤكّدا استهانته بالموت والتزامه بأفكاره ومبادئه. وقد ظهر على مريديه و هم ملتفون حوله حزناً عميقاً، كاشفين عن ضعفهم وعجزهم أمام ذلك الامتحان العسير. و تبدو يد الجلاد اليمنى موجهة إلى الفراغ، إلى العدم، ترتعش خائفة من يد المعلم سقراط، وقد أخفى عينيه بيده اليسرى متألما لحاله... بعض المصادر التاريخية تذكر أن تلاميذه حاولوا إقناع سقراط بتهريبه إلى الخارج لكنه رفض الفكرة على اعتبار أنها خرق للقانون لا يصحّ ولا يجوز. في الزاوية البعيدة من اللوحة يمكن رؤية زوجة سقراط وهي تغادر السجن، بينما جلس تلميذه الوفيّ أفلاطون عند مؤخّرة السرير مدبر الظهر و مطأطأ الرأس، وراح كريتو يمسك بفخذ معلمه وهو يواسيه. يذكر لنا أفلاطون بأن المعلم بمجرد ما أنهى كلماته حتى تناول القدح وشربه دفعة واحدة وبهدوء مطلق... بالنسبة لمعاصري الفنان دافيد فإن المشهد يستدعي الأحداث التي شهدتها فرنسا بعد وأد محاولات إصلاح النظام الملكي وحلّ مجلس الأعيان والعدد الكبير من المعتقلين السياسيين داخل السجون. وقد أراد دافيد من خلال هذه اللوحة إيقاظ الأنفس الخانعة وتحريضها على البذل والتضحية. أي أنها بمعنى ما دعوة صريحة لمقاومة السلطة الغاشمة. لقد كان الفيلسوف سقراط حقاً أولّ زعيم لأوّل حركة تنويرية في التاريخ دعت إلى تغليب العقل على الجهل والخرافة، و جمح شهوة حكم و تسلط الطغاة بجعل السلطة في يد الشعب، فكان بامتياز الأب الروحي للبرلمان... تلك كانت رحلتي بين الأفخاذ و ذلك ما وسوس لي أن أطرح سؤالاً على المعلم سقراط: هل نحن مستعدون للموت في سبيل حياة الأمة؟ أم ضاعت الأمة بين أفخاذ الرجال و النساء؟ *أستاذ مساعد في علوم الطاقات المتجددة بجامعة بازل بسويسرا [email protected]