(تحية ووفاء) سيلتئم في نهاية الأسبوع الجاري، المنتدى الوطني الثالث للفكر السوسيولوجي بمدينة تطوان، وسيكون المفكر وعالم الاجتماع المغربي مصطفى محسن، شخصية الدورة، حيث سيتم الاحتفاء به وباعماله وبمشروعه السوسيولوجي، وهي مناسبة وطنية وعلمية وفكرية بالغة الأهمية، نظرا للعطاء العلمي والسوسيولوجي الذي قدمه الأستاذ مصطفى محسن طيلة أزيد من 20 سنة من التأليف والمساهمات القيمة في حقل السوسيولوجيا عامة وبشكل خاص في سوسيولوجيا التربية، حيث يعد الباحث من النخبة المغربية التي ساهمت في إثراء الفكر التربوي ببلادنا، وبالوطن العربي، ولعل الاطلاع على قائمة أبحاثه ومؤلفاته، تؤكد أننا أمام مسار علمي وأكاديمي وبيداغوجي، يستحق منا كل التقدير والثناء. ومن بين اهم هذه المؤلفات نذكر الكتاب الهام " في المسألة التربوية: نحو منظور سوسيولوجي منفتح" المركز الثقاافي العربي، طبعة 2002، أو "الخطاب الإصلاحي التربوي بين أسئلة الأزمة وتحديات التحول الحضاري: رؤية سوسيولوجية نقدية" المركز الثقافي العربي، طبعة 1999. وفي المجال السياسي، كتب الأستاذ مصطفى محسن أحد أهم الكتب التي تعد في نظرنا إحدى المساهمات القيمة في مجال التنظير والتبيئة لمفهوم التنمية السياسية، بل إن هذا المؤلف على الرغم من صغر حجمه، فإنه يشكل رؤية فكرية سياسية تنموية لأهم الأعطاب التي عاني منها العقل السياسي المغربي سابقا، ولازال يجر بعضا من توعكاتها، إنه المؤلف الموسوم "في التنمية السياسية: مقدمات في سوسيولوجيا الإصلاح في المغرب المعاصر" الصادر عن سلسلة دفاتر وجهة نظر، سنة 2007. ولاشك أن الاحتفاء بواحد من أبناء المغرب ومن الرعيل الثاني من السوسيولوجيين المغاربة، يعد في نظرنا، ذا دلالات عميقة، إذ أنه احتفال واحتفاء بالفكر السوسيولوجي عموما، خصوصا في ظرفية تعيشها مجتمعاتنا، تتميز بالتحولات السريعة والكبيرة والمفاجئة، ولهذا تتعزز الحاجة أكثر من أي وقت مضى، إلى العلوم الاجتماعية وإلى السوسيولوجيا بشكل خاص. ومما يستحق منا التوقف في هذه المناسبة، هو طبيعة المقاربة التي تبناها الدكتور مصطفى محسن، منذ أعماله الأولى، حيث بلور نموذجا تفسيريا يسمه بالنقد المتعدد الأبعاد، وهو منهج يقوم على نقد الذات واللحظة التاريخية والآخر، مما شكل براديغما، أو نموذج إرشادي مكن الباحث من تملك رؤية وخلفية تحلل مجموع الإشكالات التي كانت تعانيها مجتمعاتنا أو لازالت تعانيها، سواء في القضايا الاجتماعية، أو مما يحب ان يسميها الباحث: المسألة الاجتماعية، أو في تفرعاتها، كالمسألة الشبابية، أو المسألة التربوية، أو المسألة السياسية، أو بشكل أكثر تعبيرا بالمسألة التنموية. وإذا كان المفكر والسوسيولوجي الراحل، عبد الكبير الخطيبي، قد انتهج "النقد المزدوج" فإن عالمنا الأستاذ مصطفى محسن، اختار "النقد المتعدد الأبعاد" والذي جعله مشروعا فكريا مؤظرا لكل أعماله، بما يمثله من اختيار ابيستيمولوجي منفتح قادر على التفاعل مع الآخر ومع اللحظة التاريخية ومع الذات، وأيضا قائم على التجدد والتطور والإغناء والتحاور، سواء على المستوى المحلي أو الكوني. ولإبراز، بعض من معالم هذا المنهج، يمكن الإشارة إلى مجموعة من مؤلفات الباحث في تخصص سوسيولوجيا التربية، حيث منذ أعماله الأولى، "المسألة التربوية"(الطبعة الأولى،1990) انتقد التعامل مع القضية التعليمية بنوع من الاختزالية، أو باعتبارها أزمة قطاعية، أو من خلال نقده للتعامل التبعي الإتباعي، سواء في استلهام مفاهيم أو رؤى أو مناهج أو أطر تحليلية، ومحاولها تلفيقها وإلصاقها بالواقع المغربي.( فعلى سبيل المثال، سبق للأستاذ مصطفى محسن، أن استهجن العمى البيداغوجي الذي أصاب العقل التربوي المغربي، عندما بدأ يسوق لمفاهميم وطرق بيداغوجية ومنهجيات غريبة عن مجتمعنا وعن سياقنا السوسيوثقافي). أو من خلال نقده لكل خطاب أو دعوة لحداثة ولتنمية مستوردة، فوفق التصور النقدي الذي يتبناه الباحث، فإن الدعوة إلى تبني تنمية أو حداثة مستوردة، إنما هو عمى فكري، يمكن أن يهدم أسس التنمية أكثر مما يصلح، فالتنمية والتحديث عمل مؤصل ومتواصل ومطابق لخصوصيات المجتمع، سواء منها الدينية او الثقافية أو السوسيوتاريخية، وأيضا لعمق البلد الخضاري، دونما تغافل عن الانفتاح العقلاني على مكتسبات الحضارة الإنسانية الكونية. ولعل هذه الفكرة بكل قوتها وزغمها تشكل في نظرنا، تصورا ناضجا لمفكرنا، الذي لم تستهويه الخطابات الحداثوية والمغرقة في التقليدانية سواء للتراث أو للغرب، وبدل ذلك نادى بضرورة التفكير في مشروع مجتمعي يقوم على استحضار كل الخصوصيات والمقومات الحضارية والانفتاح المعقلن على المكتسب الإنساني، بكل ذكاء واقتدار. لم يكن الأستاذ مصطفى محسن، ليقنع بتحليل المعضلة التربوية، دون وضعها في سياقها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي/ القيمي العام، الذي يسم المجتمع المغربي، وعبره سائر المجتمعات العربية التي تتشابه في بعض القضايا ذات القواسم المشتركة، فعلى سبيل المثال، فإن مقاربة المسألة التربوية، تطلبت من الباحث، الغوص في تحليل مجمل البنيات المحايثة والملازمة لنسقية التربية والمجتمع، وهكذا اعتبر الأستاذ مصطفى محسن، أن من بين التوعكات التي لازمت المعضلة التربوية ببلادنا على الأقل، هو الافتقار إلى مشروع مجتمعي متوافق بشأنه ويشكل رؤية ناظمة لكل مناشط المجتمع، وإذا كان الأستاذ مصطفى محسن قد تحدث عن ضرورة بلورة ميثاق وطني للتربية والتكوين قبل أن يظهر للوجود بسنوات، حيث لم يتوقف الباحث في جل أعماله إلى المطالبة بهذا الميثاق، الذي يمثل أرضية مشتركة تكون منطلقا لمباشرة عملية الإصلاح التربوي ومن ورائه الإصلاح المجتمعي. ورغم تثمينه لصدور الوثيقة التاريخية التي سميت بالميثاق الوطني للتربية والتكوين، ليس لأنه كان يشكل أحد الخبراء 15 الذين ساهموا بخبرتهم في إنضاج هذه الوثيقة، لكنه في الوقت نفسه اتخذ مسافة نقدية، من بعض مبادئها وتوجهاتها، حيث يتحدث الأستاذ مصطفى محسن عن الطابع التعميمي الذي صيغت به الأهداف والغايات والمرتكزات، أو في عدم وضوح موقف الميثاق من الإشكالية اللغوية (وهي بالمناسبة من بين الإشكالات التي لازالت ترهن حال ومآل الملف التعليمي برمته)، أو مشكلة التكوين المهني الذي لم تتم معالجته بكيفية أشمل وفي إطار موسع، وفي تهريبه من يد وزارة التربية الوطنية إلى يد إدارة أخرى، ودون تجسير حقيقي للروابط والصلات الضرورية والممكنة بين كل من التكوين المهني والتعليم العام. إن هذه الامثلة التي سقنا بعضا منها، تبين أن مقاربة الأستاذ مصطفى محسن، اتسمت بطابعها النسبي والمرن، أو يمكن أن ننعته بالأنساق المرنة، التي تعامل معها الباحث، دونما انغلاق في إحدى التصورات أو المقاربات أو المفاهيم أو ألمنظورات بل إنه يعمل على الانتقال من مقاربة إلى أخرى ومن مفهوم إلى آخر، وبشكل خاص، عندما ينحث المفكر مفاهيمه الخاص به لفهم وشرح وتفسير مختلف الإشكالات السوسيولوجية التي تعج بها مجتمعتنا، والتي لا تمثل المسألة ألتربوية إلا واحدة منها. لم تنحصر اهتمامات، عالم الاجتماع المغربي، مصطفى محسن، عند حدود المسألة التربوية، على الرغم من أن جل كتاباته انصبت حول هذه الإشكالية، لكنه راكم عدة أبحاث ومؤلفات حول المسألة السياسية وعلاقة الدولة بالمجتمع، والجهوية والمجتمع المدني، وقضايا الشباب والاندماج المهني،وبشكل خاص الإشكاليات التنموية التي تعاني منها مجتمعاتنا، كقضايا التخلف والتبعية، وما يصاحبها من إكراهات تحديات ورهانات. وقد لا يسعفنا المجال للحديث عن كل هذه القضايا، وطريقة معالجتها من طرف الباحث، لكن حسبي أن أشير في هذه العجالة إلى كتابه السابق الذكر "في التنمية السياسية" والذي رغم أنه صدر في سياق سوسيوتاريخي معين، خصوصا عندما ركز على قضية تجربة التناوب التوافقي على عهد حكومة السيد عبد الرحمان اليوسفي، فإنه يظل صالحا لقراءة المشهد السياسي المغربي، في مرحلة ما قبل الربيع العربي، وما بعده، فمن بين القضايا التي ركز عليها الباحث، هي مسألة التنمية السياسية في معناها العام، والتي تشكل خلفية يمكن من خلالها فهم مختلف الأعطاب التي وسمت ولاتزال تسم الوضع السياسي ببلادنا، حيث نادى بضرورة إعادة الاعتبار للسياسة، لا كاحتراف ارتزاقي وإنما كفلسفة وفكر ومنظومة مبادئ وقيم وتقاليد واخلاقيات.وايضا بمطالبته بضرورة استبدال المنظور التقنوي البراغماتي لتدبير شؤون المجتمع بمنظور شمولي متعدد الأبعاد. وبجانب ذلك ألح على أهمية إيلاء الاهتمام لتفعيل الوظائف التربوية والتكوينة للأحزاب والنقابات، حتى تشكل مدارس موازية للتنشئة السياسية. ومن بين النقاط الجوهرية التي تحدث عنها الدكتور مصطفى محسن في هذا المؤلف، الذي صدر سنة 2007، أن دور النخب الاجتماعية والسياسية يعد حجر الزاوية في أي إصلاح أو تغيير ممكن، إذا ما هي تمثلت وظيفتها وأدوارها التي تحتم عليها اللحظات التاريخية القيام بها، ومن بين هذه المهام الوعي بأن مصالحها ومواقعها الخاصة لا يمكن أن تستمر ضمن شروط التسلطية والفساد وثقافة الريع والزبونية واللإستحقاق وتزوير إرادة الناخبين وغيرها من الممارسات البائدة التي تعرقل كل تنمية ونهضة حقيقية. ولهذا طالب الأستاذ مصطفى محسن النخبة الحاكمة إلى الانضمام الواعي لركب التحول، ومعانقة هموم المواطنين وحسن الانصات إلى معاناتهم وإلى تمثل دور الفاعل العضوي الذي يعيش قضايا وطنه ويقدم الاجابات التاريخية التي تحتاجها اللحظة التاريخية، وإلا فإن التعثر وعدم الاستجابة قد يدفع البلد إلى المجهول.( وكأن الأستاذ مصطفى محسن تنبأ بحسه السوسيولوجي وبنظرته الثاقبة لتحولات الربيع العربي وما وقع في العديد من الدول التي اندلعت في ثورات أطاحت بأنظمة عمرت لسنين من الزمن). لا يمكن الحديث عن الربيع العربي، دونما الانتباه إلى البيان التاريخي الذي أصدره الدكتور مصطفى محسن، والذي ليس بيانا سياسيا أو نقابيا أو جمعويا، فالأستاذ مصطفى ليس له انتماء سياسي أو جمعوي أو نقابي أو حركي معين، اللهم انتماؤه للوطن لبلده المغرب، وللوطن العربي وللأمة الإسلامية ، لكنه بيان للسوسيولوجين العرب، حتى ينهضوا لبحث مفاعيل الثورة وتقديم التفسيرات والرؤى والمنظورات السوسيولوجية لفهم ما جرى، أفليست السوسيولوجيا أيقونة العلوم الانسانية والاجتماعية، وبالتالي فهي الأقدر على رفع منسوب الوعي بالقضايا والمعضلات والتحولات التي تجتاحنا من كل جانب؟ إلا أنه رغم هذا الإعلان، فإن العلوم الاجتماعية وبشكل خاص السوسيولوجيا العربية، أصابتها التوعكلات التفسيرية وانتهى بها المطاف إلى نوع من السوسيولوجيا المعارة لمراكز الأبحاث الأجنبية التي أصبحت تطلب الخبرة والأرقام الكمية الصلبة والمؤشرات الصماء، دونما احساس بالتحولات العميقة التي تغلي من تحتنا، ولهذا رفع عالمنا السوسيولوجي الألمعي عقيرته، مطالبا: يا سوسيولوجي العرب هبوا لفهم ما جرى في أوطانكم،لا تكونوا مغيبين ومتغيبين ومقلدين ومغتربين؟ إنها صيحة ستطل شاهدة على عبقرية هذا المفكر الكبير الذي لم يأخذ حقه في زمن اللاعتراف ،لكن شاءت الأقدار أن يكون التكريم من طرف" جمعية أصدقاء السوسيولوجيا من الجيل الثالث" الذين رفعوا رأس هذا العلم وقرروا أن يحتفوا بواحد من أعلام هذا التخصص العتيد. فشكرا لجمعية أصدقاء السوسيولوجيا وهنيئا لنا بالمفكر والمربي والإنسان والمثقف الملتزم، وكل تكريم لكم أستاذي وانتم في صحة جيدة وتألق دائم. *باحث في علم الاجتماع