السؤال الأول والمباشر الذي يتبادر إلى الدهن بمجرد إثارة الحديث عن المجال السوسي وقضايا الشباب والهوية الذي أختير كمحور هذه الدورة من الجامعة القروية محمد خير الدين هو الأتي: هل يشكل سوس إطارا هوياتيا ومجالا للانتماء والتمايز على المستوى الثقافي والاجتماعي؟ لا شك أن عناصر الإجابة الآتية كافية للإجابة الموضوعية عن هذا السؤال. فسوس الكبير مجال ترابي قائم الذات يحد بتانسيفت شمالا وواد درعة جنوبا والمحيط الأطلسي غربا إلى الحدود الجزائرية شرقا، بمحددات وخصائص جغرافية وبشرية واضحة، وهو مجال تاريخي يحمل ذاكرة سياسية وسجلا ديناميا على مستوى الأحداث التي عرفها والتفاعلات الاجتماعية والتاريخية التي ميزته. كما أن لهذا المجال إطار ثقافي ولغوي مؤطر لخاصيته الترابية والهوياتية ووجوده التاريخي، كما يتجلى ذلك في امتدادات وتراكمات هذا الاختلاف على مستوى التراث الرمزي والجمالي والتاريخ السياسي والاجتماعي. فالانتماء إلى سوس هو انتماء هوياتي، سواء كان واعيا أو متخيلا، ذو امتدادات وأثار بارزة على مستويات الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية. بيد أن السؤال الثاني الذي يترتب عن سابقه هو الأتي: ما طبيعة الوعي الهوياتي بالانتماء إلى سوس لدى ساكنة هذا المجال، وهل ساهم هذا الوعي في بروز نخب سياسية وثقافية واقتصادية تساهم في بلورة هذا الانتماء واعتماده في خدمة مجالها الحيوي وانتمائها الهوياتي؟ لمقاربة هذا السؤال وإضاءة مختلف الأبعاد الثقافية والسياسية التي يثيرها السؤالان معا الذين يفرضهما موضوع هذه الندوة ومحور هذه الدورة، يمكن التوقف عند المحاور الآتية: سوس بين الثقافة والتثاقف: يتميز المجال السوسي بحضور هام لثقافات مختلفة عبر تاريخ تحولاته وديناميته السياسية والاجتماعية. فالأمازيغية تمثل الإطار الهوياتي للوجود الاجتماعي والمجال السوسي عبر عامل اللغة ومختلف التعابير الفنية والثقافية المادية والرمزية التي أغنت الكيان المحلي والجهوي. والثقافة العربية وفدت عبر بعض الهجرات العربية وعبر التعليم الديني والمدارس العتيقة. والثقافة الزنجية ولجت بدورها المجال السوسي عبر المجموعات البشرية التي استقدمت من السودان وغانا منذ حملة أحمد المنصور الذهبي. ينضاف إلى هذا التفاعل بعض عناصر الثقافة اليهودية التي حملتها أقليات عبرية سكنت بمختلف مناطق سوس عبر بعض أنشطتها التجارية والزراعية التي ساهمت في تحقق تبادل ثقافي ملحوظ بهذا المجال خلال تلك الفترة. لكن كيف كان واقع المثاقفة ووضعية كل من هذه الثقافات والعناصر الاجتماعية؟ فالأمازيغية ورغم وضعها التاريخي والأنتربولوجي قد بقيت محصورة في المعيش اليومي والإنتاجات الرمزية والتداول التحتي على هامش الثقافة العربية التي صارت لغة وثقافة علم ومعرفة وفقه، لتنحصر الأمازيغية بذلك في مستوى ألا مفكر فيه. والثقافة الزنجية تم استدماجها القسري أو الطوعي داخل القالب الاجتماعي والروحي للثقافة العربية الإسلامية ليبقى الشكل الوحيد الذي تعبر من خلاله عن نفسها واختلافها هو المتخيل والتعابير الهامشية عبر التسرب والانفلات الرمزي والجسدي كما في رقصة كناوة. أما اليهودية فقد انحصرت في" الملاح" باستثناء بعض أشكال التفاعل والتسربات الجانبية التي استطاعت الانفلات من طوق وحكم العقل الفقهي الذي حاصرها في "كيتوهات" محدودة وحال دون حصول تثاقف فعلي داخل الفضاء الاجتماعي السوسي في إطار دينامية إنسية وثقافية حرة وخلاقة. الانتماء إلى سوس بين الحس التقليدي والوعي المعاصر: هل يمكن الحديث عن وعي هوياتي معاصر بالانتماء إلى سوس لدى النخب والجماهير السوسية العاملة في مختلف ميادين الإنتاج والعمل السياسي والاقتصادي والثقافي؟ في سياق الإجابة عن هذا السؤال ثمة بعض الأحداث والعوامل التي طبعت الدينامية الاجتماعية والسياسية التي عبر من خلالها السوسيون عن هذا الحس، ويمكن الاقتصار على المعطيات والوقائع الآتية: - لعبت الهجرة إلى المدن الكبرى وأوروبا منذ القرن 11م دورا بارزا في نشأة الحس بالانتماء السوسي في صفوف المجموعات الأولى من المهاجرين، وقد تم تشكل وتمظهر ذلك من خلال التجمعات شبه القبلية والأواصر العائلية التي طبعت حضورهم الاجتماعي في مجالات الهجرة التي كان تمثل بالنسبة إليهم نوعا من المنفى الاقتصادي. لكن هذا الانتماء لم يتبلور في وعي هوياتي عصري يمكن تصريفه عبر الأنشطة السياسية والاقتصادية وإمكانات العمل والتنظيم الحديثة، بقدر ما بقي مرتبطا "بنوستالجيا تمزيرت" والانتماء الصامت إلى سوس، بل والتنكر لذلك في صفوف العديد من الأفراد على مستوى الممارسة الثقافية والإدارية والسياسية. - تراجع الوعي السياسي السوسي بدأ منذ إخفاق المجموعة السوسية التي كانت تنشط ضمن صفوف حزب الاستقلال خلال الخمسينيات من القرن الماضي، حيث إن هذه المجموعة التي كانت تسمى اتحاد الجنوب وتضم عدة أفراد من بينهم عبد الله الصنهاجي وأحمد أو لحاج أخنوش... وممثلي 20 قبيلة استطاعت أن تخلق إطارا تنظيميا موازيا داخل حزب الاستقلال وتعمل في التوعية السياسية، لكن تم حلها من طرف لوبي الحزب خوفا من تطورها التنظيمي ونقلت ممتلكاتها إلى صندوق الحزب مما دفع بالسوسيين إلى مغادرته والانضمام سنة 1959 إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وفي هدا السياق أيضا حدثت عدة وقائع وردود من طرف التجار السوسيين الذين كانوا يشكلون مجموعة ضغط بالدار البيضاء، ومنها الاحتجاج على سياسة الميز وهيمنة المدن الكبرى خاصة فاسوالرباط فيما بقيت البوادي الأمازيغية مهمشة. - بعد تلك المرحلة صار يرتبط النموذج السياسي السوسي بوعي تقليدي يمتزج فيه الأمازيغي الصامت بالفقهي العالم وبالسياسي المنسلخ، فكان من الأمور العادية التي لم تثر كثيرا نباهة الوعي السوسي وحسه الهوياتي كيف اختزل هذا الانتماء في مجرد الاستعمال اللهجي للأمازيغية خلال التعبئة وتصريف الخطابات ذات المضمون الإيديولوجي القومي العربي أو الاشتراكي أو الإسلامي في قطيعة كبرى مع مقتضيات الانتماء السوسي وما يرتبط به من قضايا ثقافية ولغوية وسوسيو اقتصادية. والعديد من الأحداث العابرة تبين كيف أن الانتماء السوسي لم يكن يطفو بلمح سياسي وهوياتي إلى عندما يفعم الوجدان أو يستفز أو تحدث "الحكرة"، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك أحدات أنصار فريق حسنية أكادير لكرة القدم في الرباطوالدارالبيضاء ، وحادثة العامل مطيع مع تجار سوس بالدار البيضاء خلال ثمانينات القرن العشرين. كما يمكن إدراج مساهمة الشعر الأمازيغي وفن الروايس بالخصوص في إذكاء هذا الحس خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي خاصة أغاني الرايس محمد البنسير الذي كان يمثل لسان حال السوسيين كما في أغنيته الشهيرة التي جاء فيها: ربي زايدات لعيز ئي تشلحيت نتات أس ليغ أتيك إنا غ موسيغ أفاق الوعي والعمل في الإطار الهوياتي السوسي: بعد هذا السرد التاريخي والنقاش الثقافي حول سوس كمجال هوياتي واجتماعي، وإطار للعمل الثقافي والسياسي، يمكن أن نخلص إلى بعض الإضاءات وأفاق العمل مساهمة في الارتقاء بالوعي السوسي ودور الشباب في بلورة أفق عمل يستجيب لراهن ومتطلبات المرحلة. ولا شك أن مهمة الشباب اليوم هي التفكير في هذا الأفق للانتقال بشكل فعلي بالانتماء السوسي من إطار الحس الهوياتي الذي طبع جل المراحل السابقة إلى صعيد وعي ثقافي وسياسي عصري، وذلك انطلاقا من الاقتراحات ومصوغات العمل الآتية: - الانخراط في الحياة الجهوية والعمل على تجديد النخب وتغيير اللوبيات التقليدية التي استغلت الانتماء السوسي لتحقيق مصالحها الفردية والفئوية وحولت سوس إلى أصل تجاري للانتهازية والفساد السياسي في إطار خيار التحكم والانصياع والاستغلال الذي ميز المقاربات الترابية على امتداد أكثر من نصف قرن من الزمن المغربي المهدور. - العمل على تقويض سلطة المركز على المستويين السياسي والجمعوي وذلك بتأسيس حركة جهوية ذات مشروع رصين انطلاقا من الوعي التاريخي بهذا الانتماء، والانخراط في الدينامية الاجتماعية التي تعرفها العديد من المناطق المهمشة من أجل تحقيق تنمية وعدالة مجالية منصفة، والعمل في إطار ممكنات المجتمع المدني والسياسي لرد الاعتبار للغة والثقافة الأمازيغية وتمكينهما من الاضطلاع بدورهما الكامل والحديث في تدبير مجالات الحياة العامة الجهوية والوطنية. *قدم هذا العرض ضمن أشغال الدورة الأخيرة للجامعة القروية محمد خير الدين بتفراوت