تهاتفه زوجته بأنها لا تستطيع أن تذهب إلى حفل زفاف بنت خالتها خاوية اليدين، ولا هدية تليق بالمناسبة تحملها معها...أتاه صوتها وهو في عمله البسيط سحيقا لا مذاق فيه، فمن أين يأتي لها بمال الهدية، ومدخوله اليومي لا يرقى إلى ثمنها، فقرر أن يعود إلى بيته ويمنع زوجته من الذهاب إلى حفل زفاف قريبتها... تطرح هذه المشكلة كثيرا في مجتمعاتنا العربية والإسلامية المغرب نموذجا ، حيث يتكلف بعض الناس في تقديم الهدية لأقاربهم في مناسبات اجتماعية أو دينية، وإن لم يجدوا كفوا عن زيارتهم، وتسببوا في قطيعة رحم، أو فتور علاقة أخوة وصداقة... فلماذا تحدث مثل هذه السلوكيات وما عواقبها؟ ، وهل من حل يهدي إلى الصواب ومصلحة المجتمع؟.. ذلك ما نحاول أن نتعرف عليه من خلال الموضوع التالي: فتور بسبب هدية قد تذعن الزوجة لقرار زوجها، فلا تحضر المناسبة العائلية، وقد تتحداه وتعصي أمره، وتكلف زوجها ما لا يطيقه بالاستلاف والقرض، وتشتري الهدية المناسبة. وفي الحالتين معا، الخاسر هو السلوكيات الاجتماعية السليمة، فإن امتنعت عن الحضور، تسبب عدم توفرها على ما تشتري به هدية قيمة في رسم أولى خطوات قطيعة الرحم، أو على الأقل أول بذور فتور قد يصيب العلاقات بين الأسرتين؛ وإن هي ذهبت واقترضت، فإنها تكلف زوجها عبئا ماليا قد يؤثر سلبا على ميزانية البيت، أو يترك شيئا من "حتى" في نفس الزوج.. تقول مريم، زوجة وأم طفلين، إنها تضرب أخماسا بأسداس كلما كان هناك حفل زفاف أو عقيقة، أو حتى عزاء داخل الأسرة: "لا أجد القدرة المالية الكافية لأقتني هدية أدخلها معي، فأعاني كثيرا حتى أتدبر الأمر ولو على حساب ميزانية البيت، غير أنه كثيرا ما أمتنع عن الذهاب تحت ذرائع كثيرة، وقد غضبت مني يوما إحدى بنات عمي، فردت لي الصاع صاعين، ولم تحضر هي أيضا حفل عقيقة ابني، وتباعدت المشاعر بيننا نتيجة لذلك، وتطورت إلى برود بين أسرتينا". قضية مصيرية ويتساءل عبد الله، زوج ومستخدم بسيط، عن الأسباب الكامنة في كون المرأة عادة ما تتضايق أكثر من الرجل إذا لم تدخل وبيديها الهدية المطلوبة واللائقة، فتبدأ حالة الطوارئ في البيت، إلى أن يمر الحفل أو تنصرم المناسبة العائلية". ويردف مستغربا: "تثور المرأة في هذا الموضوع بالذات، وأحيانا قد تضع زواجها في كفة وشراء الهدية الرائعة في كفة أخرى، وتُوازن بين الأمرين رغم أنه لا مجال للموازنة بينهما. وهذا كله في رأيي، يضيف الزوج، يعود إلى رغبة المرأة في أن تكون مثل المدعوات ولا تكون أقل منهن، سيما إذا كان الحفل أو المناسبة عائلية تجتمع فيها نساء الأسرة كلها، ليختم بأن مثل هذه الأمور صارت قضايا مصيرية بالنسبة لهن..". علاقات رد الهدية بالمثل وتعتبر سناء كريم ، صحفية مهتمة بالمجال الاجتماعي، أن العلاقات والزيارات الاجتماعية أصبحت في السنين الأخيرة تتقزم بشكل ملحوظ لعدة عوامل، يوجد من بينها ضرورة إحضار "الهدية" كعرف حتى أخذ صفة الإلزامية لكثرة تداوله بين الناس". وتستدرك الصحفية قائلة: "رغم أننا لا يمكن أن نختلف على أهمية الهدية كيفما كان نوعها ومهما كانت قيمتها المادية أو المعنوية، ودورها في تعزيز العلاقات وتعميقها، إلا أن الذي يحدث أن العديد من العلاقات تندثر بسبب هذه العادة، خصوصا وأن قيمة الهدية أيضا في تزايد مستمر، وأصبحت باهظة الثمن حتى أن المرء يغض النظر في أحيان كثيرة عن القيام بزيارات عائلية، أو يحد من علاقاته فقط بسبب عدم توفر ثمن الهدية. و في حالات أخرى، يتوقف المرء على عيادة المريض فقط بسبب عدم توفره على مال يكفي لشراء شيء للمريض، وبالتالي تنقطع الصلة بسبب أمر تافه مثل هذا، ناهيك عن هدايا الأفراح التي صارت تشكل عبئا على جيب المدعوين، ولذلك يقترض البعض المال كي يجلب هدية إذا كان مضطرا للحضور، أو يمتنع عن ذلك ثم تبدأ الحكاية ، تنشأ علاقة متوترة بين صاحب المناسبة والمدعو إليها . وتزيد سناء موضحة : "بالرغم من أن الزيارات العائلية أو فيما بين الأصدقاء أو الجيران عادة اجتماعية وإنسانية في بعض الحالات، إلا أنها تتحول إلى رد الجميل أو المقابل، وبالتالي من أهداك شيئا يلزم أن تهاديه بأحسن منه، و تنتهي أو تنقطع الصلة في حالة عدم المؤازرة بالمثل". هاجس الهدية ويجمع أخصائيو الاجتماع على أن سلوك التهادي بين الأسر في المناسبات وفي غيرها سلوك اجتماعي نبيل ومحبب، غير أنه إذا صار هذا السلوك العادي هاجسا لدى المُهدي أو المهدى إليه، وخرج عن إطار "الاعتياد" ليبلغ درجة الضرورة والحاجة الاجتماعية، وتم ربطه بمدى قبول الفرد أو الأسرة لدى الآخر، أو الأسرة المستقبلة للهدية، فهو سلوك اجتماعي ونفسي سلبي حتما. ومرد السلبية هنا يكمن في كونه سيورث علاقات متذبذبة مبنية على الأخذ والعطاء، زيادة على ما يبقى في النفس من أسف أو غيظ إن لم يأت المدعو بالهدية إلى قريبه في مناسبة عزيزة له، غير مقدر هذا القريب لما يمكن أن يكون عليه الحال المالي لقريبه، فتنشأ علاقات أسرية واجتماعية بعيدة عن العفوية في التعامل، وقريبة أكثر من التكلف والتصنع، مثل إحضار هدية بما يمكن أن تكلفه ماديا على المهدي فقط من أجل إرضاء الطرف الثاني، وليس "محبة" فيه. ويضطر هذا الأخير أن يأتي له بهدية في مناسبة قادمة مثلها، وإن لم يقدم له هدية امتنع هو الآخر عن تقديمها له، وهذا ينافي سلوك التهادي الذي يجب أن يشيع وسط المجتمع بعفوية وصدق دون كذب أو تصنع مزيف، وهذا ما يسمى بتهادي السلوك... مجال للتظاهر وتؤصل الدكتورة سعاد الناصر، داعية وأستاذة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، موضوع الهدية وتعتبرها "ضرورة هامة من أجل التعبير عن التودد والصداقة والأخوة في العلاقات الاجتماعية، وتمتين أواصر المحبة والمودة فيها، بل قد تكون أحيانا سببا في إذابة الجليد القاسي الذي قد يتكون بين الإخوة والأقارب والمحبين. وفي الحديث النبوي: "تهادوا تحابوا" إشارة إلى أهمية الهدية ومكانتها وعظيم تأثيرها في القلوب والأرواح، لأنها من أنجع الوسائل التي تنفذ من خلالها إلى قلب الإنسان وروحه". وتردف الناصر بالقول إن الهدية ممارسة اجتماعية قديمة عبر عنها القرآن الكريم على لسان بلقيس حين أرسلت هدية لسليمان في قوله تعالى: "وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ". وقد قبل صلى الله عليه وسلم الهدية، وأهدى أيضا، وأكد أنها ليست هي الصدقة أو مساعدة المحتاجين، وإنما تعبير مادي عن المودة والمحبة والألفة، أو محاولة كسبها". وتثير الناصر الانتباه على أنه في المجتمع المغربي، لم يعد للهدية هذا المدلول المعبر عن تمتين العلاقات، وتصفيتها من أي سوء أو ضغينة، وإنما أصبحت مجالا للتظاهر والتكلف بين الأقارب والأصدقاء والأحبة. وتضيف قائلة:" هذا أمر خاطئ في اعتقادي لأنه يتسبب في ممارسات أخلاقية سيئة، من مثل التكبر والتظاهر والكذب والنفاق وقطع الرحم، وغيرها من ممارسات يرفضها الشرع ويحرمها". لا للمغالاة... ويعلق العلامة محمد التاويل، من علماء القرويين وأحد كبار علماء المالكية بالمغرب، على هذا الموضوع بالقول: إن نصوص الشريعة السمحة تحث على تبادل الهدايا بين المسلمين، فبالأحرى بين الأسر والأقرباء، والهدية تزيل الضغائن بين النفوس، وتقوي العلاقات الاجتماعية وتمتن من عضدها، وهذه المصالح لا ينبغي تجاهلها حين تبادل الهدايا، فالأصل في تقديم الهدية هو استثمار هاته المصالح الاجتماعية الجميلة، لا التعفف عنها ومحاولة تجاهلها". ويضيف الشيخ التاويل قائلا:" لا ينبغي المغالاة في الهدايا، بل يجب أن تكون رمزية، حيث لا يتكلف المهدي فوق طاقته، كما أن المهدى إليه عليه أن لا يحاسب المهدي على قيمة الهدية، فلا يستقلها ولا يحتقرها. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا نساء المؤمنات! لا تحقرن جارة جارتها ولو فرسن شاة) وفي رواية: (ولو بظلف محرق)، أي ولو جزء الشاة المحترق. وهذا خطاب يستطرد العالم المغربي موجه للنساء أكثر، لأنهن أكثر تأثرا بهذه الأمور، فالمرأة المهدية، لقريبتها أو حتى لجارتها، لا ينبغي أن تستصغر الهدية أو تقلل من شأنها، وفي حديث آخر ما معناه: "لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت"، وهذا دليل جلي على ضرورة قبول الهدية كيفما كانت، لأن المقصود بالهدية ليس الإغناء والإثراء. وخلص التاويل إلى أنه إذا ما قدمنا الهدية بهاته المعاني السلبية لدخلنا مجال المتاجرة، فلا تبقى للهدية مغزاها الصافي، فإهداء وردة يكفي للتعبير عن شعور إنساني طيب". هدايا رمزية وحملة إعلامية وللأسف يضيف التاويل عندما يُنظَر إلى الهدية بمنظار فيه تكلف وتصنع، وفيه ضرورة منح هدية قيمة وغالية، يصعب على الإنسان قطعا أن يقدم الهدايا، لأن أسعارها ارتفعت كثيرا في مجتمعاتنا، والمداخيل لا توازي ارتفاع المصاريف، لهذا أرى محاربة المغالاة في الهدايا كحل لهاته المعضلة، فذلك يتسبب في قطيعة الرحم وأيضا انتشار الحزازات وتراكم سوء الظن. ويرى التاويل الحل أيضا في حملة تقوم بها وسائل الإعلام والجهات المسؤولة في المجتمع للتعريف بمقاصد الهدية وللدعوة بعدم المغالاة فيها، حتى تتغير المفاهيم الاجتماعية الفاسدة السائدة، وتصبح الهدية على قدر طاعة الإنسان، لا يتكلف في شرائها ولا تقديمها". ومن جهتها، تقترح الدكتورة سعاد الناصر أنه بات "من الضروري إعادة النظر في عديد من المفاهيم وضبطها بالضابط الشرعي الأخلاقي المعبر عن مقاصد ديننا الحنيف. وتضيف: ليبدأ الإنسان بنفسه، ويحاول أن يقدم هدايا متعددة في مناسبات كثيرة، لكن رمزية فقط، كي تعبر عما في القلوب من اهتمام بالروح وليس بالجانب المادي". وتستدرك الناصر بالقول إن "الإشكال الذي يحصل في مجتمعاتنا، أن العديد من الناس يعون بالأزمة، وبخطأ بعض العادات والممارسات، لكن ليس هناك من يرفضها ممارسة وليس كلاما فقط؛ فتظل السلوكات المجانبة للصواب هي السائدة ، وتضيع أي دعوة لإصلاحها، وقد آن الأوان أن يبدأ كل إنسان بنفسه، ويتحرى رضا الله عز وجل، آنذاك تذوب وتختفي العديد من مثل هذه المظاهر السيئة".