بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين وعلى آل بيته الطاهرين وصحابته الغر الميامين والتابعين إلى يوم الدين، ... ما زالت الأمة تتدحرج في مدرجات الزمن بما يموج في أحشائها من علل الوهن والاستبداد حتى تداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها تماما كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم، فتمكن الاستعمار الغربي بقوته العسكرية، بعد مقاومة ضمير الأمة من الرجال الأشاوس بما معهم من وسائل بسيطة، من تمزيق الأمة إلى قوميات محجوزة في أوطان معدودة، وتغريب عقول أبنائها بقوة مدارسه الوظيفية التي أسسها لذات الغرض. لكن الله عز وجل تدارك هذه الأمة بعد هذا الليل المظلم الطويل برجال صنعهم على عينه، يجددون دين الأمة، وينفضون عنها غبار دين الانقياد والاستسلام للواقع المكروه، ويعالجونها من داء الوهن، ويذكرونها بأصالتها وبواجب ربها دنيا وأخرى، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"1، ففتح هذا العمل التجديدي الذي سمي لاحقا بالعمل الإسلامي وسمي القائمون عليه الحركة الإسلامية، بالإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله، ثم واصل الطريق آخرون من الرجال الكرام، كل في جهة من جهات الأمة المجزأة، فقام الإمام النورسي بتركيا، والأستاذ المودودي بباكستان، والإمام الندوي بالهند، والأستاذ عبد السلام ياسين بالمغرب... فسرى في الأمة هذا الروح الجديد وبدأت تنفض عنها غبار القرون الخوالي، فأقبلت الأمة شيبها وشبابها ذكورها وإناثها على التوبة والإنابة إلى ربها ببركة هذه الحركة الإسلامية المباركة، رغم شراسة وعتو الجاثمين على صدر الأمة ممن تسللوا للحكم إرثا موروثا وعضا عضوضا، أو انقلابا أو زورا، لما رأوا في هذه الحركة ماردا جديدا وخطرا مهددا لأنظمتهم القائمة على الدماء لا الولاء، وظن القوم الغافلون أن التنكيل بأجسام شباب هذه الحركة الإسلامية والزج بهم في غياهيب السجون وحصار حركتهم والتشهير بهم في حرب إعلامية عنيفة، وسيلة ناجعة وسريعة لاجتثاث النبتة المباركة، وما يدري التافهون أن هذا العمل من مقتضى العناية الربانية بالأمة في هذا الزمن وإن أخطأت الحركة أحيانا، وضعف أداؤها حينا وطاش شبابها حينا واصطلحت مع الواقع المكروه أحيانا أخرى، فهي حركة لا تخرج عن مقتضى السنن الكونية الضابطة للحركة في الكون بغض النظر عن السنن التشريعية. وشأن كل عمل له امتداد في الزمن ويكابد من أجل الاستمرار وسط ظروف معاكسة وتحديات قاسية وخصوم غير شرفاء وأعداء خبثاء، أن تشتد حاجته إلى مراجعة وتقويم بصدق وصراحة وفقه لأولويات الزمن، فالمراجعة والنقد والتقويم إذا ما سندته الشروط السابقة جزء لازم للعمل الجاد عموما والعمل الإسلامي خصوصا لأنه عمل يستهدف إحياء الأمة بربط قلوب أفرادها بمولاها إحسانا، وحركة الأمة في التاريخ بصناعة مستقبل الخلافة الثانية الموعودة على قاعدتي العدل والشورى. وفي هذا السياق يندرج كتاب " التربية والشورى: الأسئلة الحرجة " للمفكر الإسلامي المغربي الأستاذ خالد العسري الذي يقدمه هدية ثمينة للعمل الإسلامي، ودعما للحركة الإسلامية ليشتد عودها وتستوي على سوقها لتواصل بقوة وكفاءة مسيرها نحو الموعود النبوي، وهو عمل علمي جاد، وتقويم دعوي هادف لا يخرج عن مقتضى النصيحة التي هي من صميم ديننا مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة "2. ويستمد هذا العمل المتميز - الذي أتشرف بالتقديم له – قيمته العلمية والعملية من كونه عصارة تجربة، وخلاصة فكر وتأمل في واقع الحركة الإسلامية وتطورها وسط مختلف التناقضات القطرية والإقليمية والعالمية من شاب مثقف خبر العمل الإسلامي واعتنق آماله واكتوى بآلامه سنين عديدة، واستوعب تراثه التنظيري من مختلف مدارسه دراسة وتأليفا. ولذلك فهو عمل تنظيري نقدي تقويمي للعمل الإسلامي من خبير بالموضوع مطلع ممارس حريص بصدق على جودة سير الحركة الإسلامية وعلى حسن تدبير عملها نحو أولوياتها الكبرى، بعيدا عن احتراف النقد والتوجيه للحركة الإسلامية الذي أصبح موضة هذا الزمن؛ كما نقرأ بين الفينة والأخرى على أعمدة الجرائد وفي مقالات المجلات وفي مواقع إلكترونية، سواء من قبل خصوم الحركة الإسلامية أو من قبل بعض أبنائها بالأمس ممن نفد صبرهم على مشاق الطريق، أو استمالتهم أجهزة النظام الرسمي احتواء على حين غفلة من أجهزة الحركة، بعد أن نال منهم العياء الحركي. والكتاب أسسه صاحبه على قضيتين مركزيتين عليهما مدار نجاح أو فشل الحركة الإسلامية في مسيرها، وهما التربية والشورى وما يتناسل منهما من أسئلة مقلقة وإشكالات حرجة يمليها واقع الحركة الإسلامية المعاصرة واختياراتها وتحدياتها، ومن الأسئلة المحورية التي جاءت في مقدمة الكاتب، والتي بني عليها الكتاب: "ما العمل حتى يتخرج من الجماعات الإسلامية أهلُ الربانية أهلُ الإحسان الموقنون أن الاستبداد لا يمكن أن يستقيم مع الشرع الحنيف، وأنه وإن اتخذ أشكالا وألوانا فلا بد من مدافعته وممانعته حتى ولو تدثر بدثار التربية، ولا يحصل ذلك إلا باليقين أن الحل الأمثل يكون بجعل الشورى فقها تنظيميا مشاعا في الصف، لا يتنازل عنها بأي حال من الأحوال". وقد عالج الكتاب تفاصيل القضيتين وأجوبة ما تفرع عنهما من أسئلة في سبعة فصول، خصص الفصلين الأولين لقضايا منهجية ومعرفية غاية في الأهمية اتخذهما المؤلف مدخلا منهجيا للدخول في تفاصيل التربية والشورى، ففي الفصل الأول تحدث عن الطبيعة الاجتهادية لعمل الحركة الإسلامية، وأن التعددية في الحركة الإسلامية بمقتضى نسبية الاجتهاد على مستوى الفروع لا يلغي وجود القضايا المشتركة بين هذه الحركة على مستوى الأصول، بينما تناول الفصل الثاني التذكير بالمنطلقات الأساسية لانبعاث الحركة الإسلامية وبواعث عملها الإيمانية، وهي إشارة ذكية وغمزة لطيفة للمتحاملين على الحركة الإسلامية الجاهلين أو المتجاهلين لمنطلقات العمل الإسلامي وطبيعته الشمولية، بعد ذلك جاءت الفصول الخمسة الأخرى لتفصل القول في ثنائية التربية والشورى وأثرهما في بناء العمل الإسلامي وإنضاجه. وهكذا جاء الحديث عن التربية ومركزيتها وعوائقها في الفصل الثالث، لينتقل الكتاب في الفصل الرابع إلى معالجة إشكال القعود والجهاد في السلوك التربوي الصوفي منشأ ومآلا متتبعا تطور السلوك التربوي من القعود إلى الجهاد في سلوك رموز الحركة الإسلامية، وفي الفصل الخامس نجد الكلام على شروط التربية، فكان ذلك مناسبة لإثارة الخلاف بين الأستاذين ياسين والبنا في موضوع شرط الصحبة، وكذا الحديث عن علاقة أهل العلم بأهل التربية من خلال نماذج من الرجال الذين بلغوا من العلم أعلى المراتب، فانقادوا بعدها إلى التلمذة على رجال أهل التربية. أما الفصل السادس الموسوم ب "بين منطقي التربية والشورى" فقد كان عميقا في معالجته لإشكال الربط بين التربية والشورى، حيث فحص المؤلف حفظه الله ما ورثته الأمة في موضوع التربية التي ارتبط منطقها كليا بهم الخلاص الفردي متسائلا ومحللا ومعللا ومقترحا إمكانية الجمع بين الخلاص الفردي والجماعي لاكتمال الاقتداء بالسنة. كما استنطق المؤلف إرث الأمة في قضية الشورى، فألفاه إرثا مؤصلا لكنه غير مفصل، مازالت الإجابة عن أسئلة العصر التفصيلية من منطلق قاعدة الشورى في حاجة إلى اجتهادات علمية ناضجة وتجارب ميدانية راشدة، وذلك راجع إلى اغتيال قيم الشورى في الحكم في وقت مبكر من تاريخ المسلمين، وهذا ما أثار إشكالا جديدا يواجه منطق الشورى في هذا العصر على مستوى التنزيل تناوله الفصل، ألا وهو التردد بين الصيغ التاريخية للشورى المرتبطة بالتدبير الفردي التي لا تفي بالغرض الآن على الأقل، وبين قيم الديمقراطية وآلياتها التي أثبتت التجارب أنها تقود إلى ما لا ينسجم والقيم الإسلامية من التنافس على المناصب والتحايل على التمسك بالزعامة وغيرها من عورات الديمقراطية. غير أن طبيعة العمل الإسلامي في نظر المؤلف القائم على الجمع بين همي مصير الفرد الأخروي ومصير الأمة في التاريخ إنما يلائمه الجمع بين منطق التربية في الجمع بين قلوب الأفراد مع توقي منزلق الاستبداد، وبين منطق الشورى في توحيد الصفوف والتصورات دون السقوط في عورات الديمقراطية، ولحل هذا الإشكال العميق يقترح المؤلف بناء الصف الإسلامي على ثلاثة أقطاب: قطب التربية المركزي الباني وقطب المعرفة الشرعية المسدد، وقطب الخبرة الميدانية المدعم في تكامل تام دونما توهم الفصل. ثم يخوض بك المؤلف في هذا الفصل في تفاصيل بناء الصف الإسلامي بناء متكاملا وفق مقتضى الشرع وتحديات الواقع انطلاقا من قاعدتي التربية والشورى، ويبين ببراعة كيف تطاع القيادة التربوية دون خشية الاستبداد، وكيف يختار التنظيم قياداته على أساس القيم التربوية الإيمانية، وغيرها من التفاصيل الشيقة التي لا تخلو من الإبداع. وفي الفصل الأخير " وأمرهم شورى بينهم" يثير المؤلف المعايير اللازم اعتمادها في اختيار مسؤولي التنظيمات الإسلامية، وهي معايير عامة مشتركة وأخرى تخص كل مسؤولية على حدة، كما طرح مقترح البناء الهيكلي الجديد للصف الإسلامي وفق مقتضى واقع العصر، ويتمثل في تأسيس الهيكل التنظيمي العام على رافدين اثنين: التنظيم لداخلي والتنظيم الخارجي المختص بالشأن العام، ثم يختم المؤلف هذا الفصل بالوقوف مليا مع مفهوم الشورى من مقتضى آية آل عمران، فاستعرض الفهوم السائدة لدى الكثير من الحركات الإسلامية، ليحاكمها إلى مقتضى النصوص القرآنية والنبوية وسير الخلفاء والأئمة المجتهدين. وفي ختام هذا التقديم أقر أن هذا العمل العلمي والدعوي إضافة نوعية في المكتبة الإسلامية، ولبنة جديدة في التراث التنظيري للعمل الإسلامي، وأدعو كل المهتمين بالحركة الإسلامية سواء على سبيل الموافقة أو المخالفة وكل الحركات الإسلامية للإفادة من هذا العمل المبارك، فقراءة فصول هذا الكتاب لا تخلو من متعة وإفادة، سر ذلك راجع كما أشرت آنفا إلى أن الكلام لخبير مطلع ممارس أوتي القدرة على البيان والعمق في التحليل والتعليل، والمهارة في انتقاء الشواهد وتنويعها ونظمها في سياق المقصود، كما استطاع أن يدير إشكالات الكتاب العميقة الجديدة المتشابكة ببراعة المتمرس بالكتابة المتأنية الجادة التي تخرج فيها الأفكار أحيانا من بين فرث ودم، لكنها في نضج واكتمال. ومما زاد هذا العمل رونقا وجمالا توفق المؤلف في انتقاء نوادر النصوص الحكيمة التي افتتح بها مباحث فصول الكتاب، معززا بها النقول العديدة التي أسس عليها عمله، اقتبسها من مصادر ومراجع مختلفة ومتنوعة تنم عن عمق البحث وصرامة المنهج وطول النفس. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل هذا العمل له خالصا وللناس نافعا، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين. *أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز- فاس/ المغرب. ***** 1 الحاكم النيسابوري: المستدرك على الصحيحين. كتاب الفتن والملاحم. 2 صحيح مسلم - كتاب الإيمان. باب بيان أن الدين النصيحة