يصادف يوم 15 مارس 2012 الاحتفال بمرور الذكرى الأولى لتأسيس صفحة نادي قضاة المغرب عبر الفيس بوك، ففي مثل هذا اليوم من سنة 2011 لجأ مجموعة من القضاة المغاربة إلى إطلاق أول صفحة لهم عبر شبكة التواصل الاجتماعي الفيس بوك في خطوة اعتبرت جريئة بالنظر إلى تاريخ القضاء المغربي وحتى في ضوء بعض التجارب المقارنة. فإذا كان النظام الأساسي الحالي لرجال القضاء يصادر على قضاة المملكة حقهم في التعبير ويخضع ممارستهم لهذا الحق وإشارتهم لصفتهم القضائية لضرورة الحصول على إذن كتابي مسبق من وزير العدل، رغم أن هذا الحق مكفول في كل المواثيق الدولية، كما أن حقهم في تكوين جمعيات أو الانخراط فيها ضل مصادرا وخاضعا لعدة قيود، فإن كل ذلك لم يمنع مجموعة من قضاة المملكة من جميع الأعمار وخاصة من الشباب من تأسيس أول صفحة وطنية وعربية للتعبير عن مشاغل هذه الفئة التي آثرت الصمت مدة طويلة. وقد جاءت هذه المبادرة في ظل سياق وطني ودولي عام يعرف تزايد الاهتمام بضرورة الإصلاح في شتى المجالات ولا سيما الإصلاح الديمقراطي عبر جميع مستوياته وذلك مع هبوب نسمات الربيع العربي، وسياق خاص يتمثل في الحراك الذي عرفته مواقع التواصل الاجتماعي والتي تحولت إلى قنوات مفتوحة للتعبير لشرائح وفئات مجتمعية عديدة، وأدوات خلاقة في التغيير. ولا شك أن السياق العام لظهور نادي قضاة المغرب في خطوته الأولى في شكل صفحة للتواصل الإجتماعي أسست بمبادرة فردية من طرف مجموعة من القضاة المتحمسين لفكرة الإصلاح جاء في إطار مبادرات مماثلة عرفتها بعض القطاعات على المستوى الوطني والتي انطلقت من بعض المطالب المشروعة للإصلاح، لكن الفرق بينها وبين تجربة نادي قضاة المغرب هو كون قضاة المملكة ضلوا لفترة طويلة محرومين من حقهم في التعبير عن آرائهم وتصوراتهم للإصلاح خارج المؤسسات الثلاث التي وضعتها الدولة رهن إشارتهم، وأقصد هنا المجلس الأعلى للقضاء، الودادية الحسنية للقضاة، والمؤسسة المحمدية للأعمال الاجتماعية لأسرة القضاء، وهي مؤسسات أثبتت العديد من التقارير الوطنية والدولية أنها أضحت غير قادرة على الاضطلاع بالمهام الموكولة لها أمام تزايد الانتقادات الموجهة لطريقة عملها. وقد تزامن الخروج الإعلامي لنادي قضاة المغرب عبر موقع الفيس بوك مع خروج مماثل لتجارب قضائية مقارنة خاصة في البلدان العربية مع هبوب نسمات الربيع العربي الذي انطلق من صفحات مواقع التواصل الإجتماعي. بل ويلاحظ أن تجربة صفحة نادي قضاة المغرب كانت رائدة، وقد تم الاقتداء بها وتبنيها من طرف عدد من القضاة في البلدان العربية المجاورة، فبعد أقل من شهر من المبادرة المغربية لجأ مجموعة من وكلاء النيابة العامة بمصر في شهر أبريل من سنة 2011 إلى إنشاء صفحة مماثلة عبر موقع التواصل المذكور تحت اسم شباب قضاة مصر وذلك بهدف فتح نقاش عميق حول مطالبهم، والتأم من خلالها أزيد من 600 عضو ينتمون كلهم لجهاز القضاء من أجل تقديم اقتراحاتهم الهادفة إلى الرقي بأوضاع السلطة القضائية، إلا أن هذه المبادرة تم إجهاضها من خلال إحالة القائمين عليها لجهاز التفتيش الفني عقابا لهم عن تجاوزهم لواجب التحفظ المفروض على القضاة وذلك قبل أن يتم تسوية الأمر بشكل ودي أمام الحركة الاحتجاجية الواسعة التي قام بها قضاة مصر ردا على هذا السلوك الذي يشكل مصادرة لحقهم في التعبير. وعرفت تونس ظهور صفحات مماثلة أنشأها عدد من قضاتها قصد تطهير بيتهم الداخلي من مخلفات الفساد المرتبطة بالنظام البائد. لكن الفرق بين كل هذه المبادرات وتجربة صفحة نادي قضاة المغرب يكمن في أن التجارب المقارنة المذكورة أعلاه لم تنجح في تجاوز العالم الافتراضي، إذ بقيت وإلى حدود الآن مجرد فضاءات للتعبير تسمح لمرتاديها من القضاة بتجاذب أطراف الحديث وتبادل وجهات النظر بخصوص القضايا ذات الصلة بالشأن القضائي، بل واستغلت بعضها كقنوات لتصفية الحسابات الضيقة بين أعضائها، أو تمرير بعض الخطابات لأغراض غير معلنة، بينما نجح نادي قضاة المغرب من تجاوز العالم الافتراضي والخروج إلى العلن على أرض الواقع من خلال التحول من مجرد صفحة إلكترونية إلى جمعية مهنية للقضاة قائمة بحد ذاتها، لها نظام أساسي وأهداف محددة، وأجهزة مسيرة، مركزية وجهوية، وخطة عمل وملف مطلبي للإصلاح تم إعداده بشكل توافقي، اتخذ من صفحة التواصل الاجتماعي نواة لتجميع الآراء وتوحيد التصورات و طرحها للنقاش. ومن أسباب نجاح تجربة نادي قضاة المغرب كخطوة أولى حرص القائمين على الصفحة على توضيح الأهداف المتوخاة من تأسيسها والتي تتجلى بالأساس في فتح نقاش جدري و حقيقي وبناء بين قضاة المملكة بغية تقديم تصوراتهم لمشروع إصلاح القضاء، واستعراض المشاكل التي يعانون منها والتي يواجهونها أثناء القيام بمهامهم، والحلول التي يرونها مناسبة لتجاوز معوقات الإصلاح القضائي، فضلا عن إحياء أخلاقيات القضاء ومبادئه خاصة إشاعة روح التضامن بين القضاة. أي أن جوهر الصفحة يقوم أساسا على التواصل والحوار والتفاعل وهي قيم كانت غائبة أو مغيبة إلى حد كبير في تجارب سابقة. ولقد استفادت الصفحة من الإمكانيات الكبيرة التي تتيحها شبكة التواصل الاجتماعي الفيس بوك إذ أن أغلب محتوياتها التي تنشر يوميا وعلى مدار الساعة هي من صنع الزوار، الذين يملكون الحق في نشر أي خبر أو معلومة أو صورة، ولهم إمكانية التعليق عليها، ومشاركتها، والتحكم في المحتوى المعروض، وهو ما يحقق تواصلا فعالا بين المستخدمين للصفحة، كما أن محتوى الصفحة تم اخضاعها لرقابة ذاتية من طرف عدد من القائمين عليها حتى لا يتم تحريف المسار المحدد للصفحة، أو استغلالها لأهداف غير الأهداف المحددة لها. إن الاحتفاء بالذكرى الأولى لتأسيس صفحة نادي قضاة المغرب يدفع لاستحضار اللحظات المهمة في تاريخ هذه الصفحة والتي ارتبطت بأحداث مفصلية في تاريخ القضاء المغربي، أهمها حدث التعديلات الدستورية التي ارتقت بنص دستوري صريح بالقضاء إلى مستوى سلطة، ونصت على ضمانات استقلاليته، وكفلت لقضاة المملكة حقهم في التعبير وتأسيس جمعيات مهنية والانخراط فيها أيضا، وأسست لمراجعة تشكيلة المجلس الأعلى للقضاء الذي تحول إلى مجلس أعلى للسلطة القضائية، وهي مقتضيات أثثت لنقاشات عميقة وبناءة عبر الصفحة التواصلية المذكورة، قدم فيها الرأي والرأي الآخر في تجربة لم يسبق لها أي مثيل في تاريخ القضاء بالمغرب. وتأتي تجربة الإعداد للجمع العام التأسيسي لنادي قضاة المغرب كمحطة بارزة في تاريخ الصفحة إذ أن كل خطوات هذا الحدث تم الإعداد لها بشكل تشاوري وتفاعلي بين أعضاء الصفحة، بدءا من التاريخ المحدد للجمع العام، وتسمية الجمعية المهنية المزمع إنشاؤها، وشعارها، والخطوط العريضة لقانونها الأساسي، إذ لا بد من استحضار النقاش الذي طرح بخصوص بعض المواد خاصة ما له علاقة بحالة التنافي بين العضوية في أجهزة الجمعية والعضوية بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية أو المسؤولية بالمحاكم أو بالمصالح المركزية لوزارة العدل وهي الفكرة التي تم تبنيها بكل جرأة بل ووضعت بالمحك أكثر من مرة، وكذا النقاش الذي طرح بخصوص اعتماد أسلوب الكوطا لضمان تمثيلية وازنة للمرأة القاضية في أجهزة الجمعية، وهي الفكرة التي تم استبعادها على أساس أن المرأة القاضية مثلها مثل زميلها القاضي لها كامل الحرية في الترشح لأجهزة الجمعية دون حاجة إلى نصاب معين، الشيء الذي ترجم على أرض الواقع من خلال الانتخابات التي نظمها نادي قضاة المغرب عبر مكاتبه الجهوية والتي أفرزت عن حضور بارز للمرأة القاضية جعلها تحظى برئاسة مكتبين جهويين بكل من تطوان ومكناس، وتحصل على تمثيلية بأجهزة الجمعية تعادل نسبة حضورها بجهاز القضاء رغم عدم اعتماد أسلوب الحصص أو الكوطا. ويبقى تاريخ 20/08/2011 تاريخا يحمل دلالات كبيرة بالنظر إلى الحدث الذي عرفه هذا اليوم بالاعلان عن تأسيس جمعية نادي قضاة المغرب رغم المنع غير المبرر الذي تعرض له جمعها التأسيسي، إذ أن أسئلة كثيرة كانت تثار بخصوص مدى نجاح هذه الخطوة بالنظر إلى كثير من المعطيات أهمها التاريخ المحدد الذي وبالرغم من رمزيته ودلالاته الوطنية والروحية المتمثلة في مصادفته لذكرى ثورة الملك والشعب، وذكرى الخطاب الملكي ليوم 20/08/2009 المتعلق بإصلاح القضاء، وتزامنه مع شهر رمضان الكريم إلا أنه صادف فترة العطلة القضائية، والاستعدادات لاستقبال عيد الفطر المبارك والدخول المدرسي، وهو ما دفع البعض للاعتقاد بأن التاريخ المحدد غير مناسب وقد لا يلقى استجابة واسعة من طرف قضاة المملكة، فضلا عن طرح إشكال أعمق يتمثل في طبيعة جمهور مواقع التواصل الاجتماعي وما إذا كانت بالفعل تستطيع الخروج إلى العلن ونقل النضال من صفحات الفيس بوك والعالم الافتراضي إلى أرض الواقع، وما كان يزكي طرح مثل هذا السؤال هو أن عددا كبيرا من مرتادي صفحة نادي قضاة المغرب كانوا يستعملون أسماء مستعارة، وهو ما قد يدفع للاعتقاد بأن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد مغامرة غير محمودة النتائج، خاصة إذا تم استحضار حاجز الصمت المفروض منذ مدة طويلة على القضاة تحت غطاء ما يسمى بواجب التحفظ. وحمل صباح 20/08/2011 أكبر مفاجأة للقضاة وللمتتبعين للحدث إذ أن القضاة تفاجئوا بخبر منعهم من ولوج المقر المحدد للجمع العام، كما أن المتتبعين للحدث الفريد تفاجئوا أيضا لمستوى الحضور الكثيف من طرف قضاة المملكة والمهتمين والمتعاطفين مع الخطوة الجريئة لنادي قضاة المغرب، وتفاجئوا بشكل أكبر بإصرار القضاة على عقد جمعهم التأسيسي في الهواء الطلق وتحت أشعة شمس فصل الصيف الحارقة، وفي إحدى أيام شهر رمضان الكريم، لتشكل كل هذه الأجواء حدثا بارزا من الصعب أن يتكرر، وهو الحدث الذي تم تغطيته ونقله صوتا وصورة إلى كل من لم تسعفه ظروفه في الحضور عبر الصفحة التواصلية لنادي قضاة المغرب. لقد شكلت الصفحة أيضا قناة لتغطية أحداث هامة في مسار الجمعية المهنية الفتية أبرزها لحظة انتخابات الأجهزة المركزية والجهوية لنادي قضاة المغرب والأنشطة التي تقوم بها فروعه، والبيانات الصادرة عن المكتب التنفيذي أو المكاتب الجهوية، والقرارات المتخذة بهذا الصدد، وهو ما أسهم في خلق تعبئة بين صفوف القضاة في إنجاح الخطوات الجريئة التي قام ويقوم بها نادي قضاة المغرب، وتعزيز ثقافة الحوار بين مكونات السلطة القضائية. وإلى جانب الأخبار والمعلومات والتعليقات المنشورة عبر صفحة نادي قضاة المغرب، لعبت الصورة والقصة والشعر والنثر دورا كبيرا في تعرية الواقع الذي يعيشه قضاة المملكة في زمن الإصلاح، وفي ظل دستور ارتقى بالقضاء إلى مستوى سلطة موازية لباقي السلط، إذ أن نشر بعض الصور المفجعة لبعض مراكز القضاة المقيمين وتسليط الضوء على هشاشة البنيات التحتية في بعض المحاكم (مركز القاضي المقيم بزاوية أحنصال على سبيل المثال)، وتداول قصص وحكايات قاضيات وقضاة مستقاة من واقعهم المعاش بسبب عدم الملاءمة بين المهام الموكولة لهم والالتزامات الواقعة على عاتقهم من جهة، والإمكانيات والوسائل المتاحة لهم (استقلالية القضاء في زمن الفقراء، القاضي المسكين، حقوقنا وحقوقهم علينا، رجل فوق القانون..)، ونظم قصائد شعرية ونصوص نترية تجسد لمعاناة شريحة واسعة منهم (أيها الشعب القاضي يريد- طفح الكيل- شعور مهين أن تكون قاضيا- رسالة إلى قاض مبتدئ)، كل ذلك أسهم في إغناء الصفحة وإعطائها أبعادا متعددة، تتجاوز البعد الإخباري أو التواصلي إلى أبعاد إبداعية خلاقة تؤكد من جهة أن الإبداع يولد من رحم المعاناة، وتكشف من جهة أخرى عن الجانب الآخر في حياة القضاة وهو الجانب الإبداعي . وفي الأخير لا مناص من الاعتراف بأنه وبتتبع ما ينشر بصفحة نادي قضاة المغرب من مواد على مدار اليوم وإن كانت لا تعبر عن الرأي الرسمي للجمعية المهنية لنادي قضاة المغرب إلا أنها تسعف في جس نبض قضاة المملكة، ومعرفة تطلعات شريحة واسعة منهم، ويبقى حدث الاحتفال بالذكرى الأولى لتأسيس هذه الصفحة مناسبة لتقييم التجربة، ووضع التصورات للمرحلة القادمة التي ستكون لا محالة حاسمة بالنظر إلى حجم الاستحقاقات التي تنتظر جمعية نادي قضاة المغرب بوجه خاص، والقضاء المغربي بشكل عام، مع بدء الاستعداد لإصدار القوانين التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية التي نتمنى أن تكون في مستوى تطلعات الشعب المغربي.