«إيّاكم والكذبَ، فإنّ الكذبَ يَهدِي إلى الفُجور، وإنّ الفجورَ يَهدِي إلى النّار! وإنّ الرَّجُلَ لَيَكذِبُ ويَتحرّى الكذبَ حتّى يُكتَبَ عند اللّه كذّابًا. وعليكم بالصدق، فإنّ الصدق يَهدِي إلى البِرّ، وإنّ البِرّ يَهدِي إلى الجنّة! وإنّ الرَّجُل ليَصدُق ويَتحرّى الصدقَ حتّى يُكتبَ عند اللّه صدِّيقًا.» (حديث نبوي مُتّفق عليه، واللفظ لأبي داود) «لم يُكذَبْ قطُّ كما يُكذَبُ في أيّامنا، ولم يُكذَبْ بلا حياء وعلى نحوٍ منهجيٍّ ودائمٍ كما يُكذَبُ الآن.» (ألكسندر كُوارِي) «ما كان الصدقُ قطُّ في عِدَاد الفضائل السياسيّة، ولطالما ٱتُّخِذَ الكذبُ وسيلةً مُبرَّرةً تماما في الشؤون السياسيّة. ومن تَجشَّمَ عناءَ التّفكير بهذا الصدد، فلا يُمكنه إلا أنْ يَندهش من رُؤيةِ إلى أيِّ حدٍّ أَهمل فكرُنا السياسيّ والفلسفيّ التقليديّ أن يَهتمّ، من جهة، بطبيعة العمل و، من جهة أخرى، باستعدادنا، بواسطة الفكر والكلام، لتشويه كلِّ ما يَظهر بوُضوح كواقع حقيقيّ.» (حنّا أرندت) قد غدا ٱلنّاسُ، في مُعظمهم، يَكْذِبُون كما يَتنفّسون ويَكذِبُون إلى حدٍّ يُجيزُ القولَ بأنّه لم يَعُدْ ثمّةَ خُلُقٌ أجدرُ بالإنسان من "ٱلكذب" ٱفتراءً وتخرُّصًا. وإنّهم لا يَفعلون ذلك فقط لأنّ "ٱلكذبَ" ٱزدادت أهميّتُه كسلاحٍ ناجعٍ في مَعارِك "ٱلكَسْب" و"ٱلبقاء"، وإنّما يَفعلونه أيضا لأنّه صار جُزءًا لا يَتجزّأ من "ٱلفضيلة ٱلمدنيّة" المُتعلِّقة ب"تدبير شُؤون ٱلمَعاش"، حيث نجد أنّ من أشدِّ النّاس كذبًا أولئك الذين يَتعاطون "ٱلسياسة". ولهذا، إذا كان "ٱلكذبُ" في العادة يُمثِّل نوعًا من "ٱلسِّياسة/ٱلكِياسة" لدى عامّة النّاس (يَأتون "ٱلكذبَ" سياسةً)، فإنّه يُعدّ أساسَ المُمارَسة اليوميّة لدى مُحترفِي "ٱلسِّياسة" (يجعلون "ٱلسِّياسةَ" كذبًا). ومن حيث إنّ "ٱلكذبَ" خداعٌ وتغليطٌ بصدد "ٱلواقِع" (الذي يُنظَر إليه كموضوع للحقيقة)، فإنّ تعوُّدَه إلى حدِّ تبريره أخلاقيًّا وٱستغلاله عَمليًّا (خصوصا في مجال "ٱلتّدبير ٱلسياسيّ" للشُّؤون العُموميّة) يَبرُز كإحدى أشدِّ آفاتِ الإنسانيّة في الفترة المُعاصرة. ذلك بأنّ إخفاءَ "ٱلواقِع" أو تحريفَه بواسطة "ٱلكذب" قد صار مرغوبًا ومُبرَّرًا خصوصا في "ٱلعمل ٱلسياسيّ" (ورَديفه "ٱلعمل ٱلإعلاميّ")، على النّحو الذي جعله "فعلا إنجازيًّا" يَحظى بالأولويّة في خضّم ٱلنّزاع حول ٱستمالة "ٱلشّعب" وتسخيره بكل وسائلِ "ٱلتّمْنِيَة" و"ٱلتّلْهيَة". ومن المُلاحَظ، بهذا الصدد، أنّ بعض "أنصاف ٱلدُّهاة" كثيرًا ما يأخُذُهم الزّهْوُ حينما يُردِّدون القول الشّائع بأنَّ «ٱلسِّياسة فنُّ ٱلمُمكِن»، كأنّ الواحدَ منهم بمجرد النُّطق بهذه العبارة يكون قد أمسك بلطيفةٍ من الحقائق أو بديعةٍ من الفضائل. والحال أنّ ذلك القول ليس سوى أثَرٍ لِلرّأي الذي ٱستقرّ لدى كثيرين والذي يُفيد أنّ "ٱلسياسةَ" تُعدّ، على غرار "ٱلعِلْم"، مُمارَسةً لا أخلاق فيها: إذْ من الشّائع أنّه كما أنّ "ٱلعِلْمَ" بحثٌ يُلاحِقُ "ٱلمُمكِنَات" لاستجلائها وٱستخراجها، فإنّ "ٱلسياسةَ" بذلُ قُصارى الجُهد في تنزيل تلك "ٱلمُمكِنات" حتّى لو تعلَّق الأمرُ بالفعل قولا كاذبًا أو فِكْرًا باطلا أو عملا فاسدًا ؛ كأنّ المبدأ الذي يجب العمل به في المُمارستين العلميّة والسياسيّة كلتيهما هو «كل ما أمكن تصوُّره بالعقل وبَدت فائدتُه الإجرائيّة، وَجب إعماله وإنْ خالف أجلى المبادئ الخُلقيّة وأرسخ المُعتقدات الإيمانيّة» و، من ثَمّ، فإنّ فحوى ذلك القول الشّائع هي أنّ «ٱلسِّياسة فنُّ ٱلكذب»! لكنّ ما يجب تبيُّنه هو أنّ "ٱلسياسةَ" تتحدَّد، بالأساس، ك"فضيلة مَدنيّة" ؛ ممّا يَجعلُها مُرتبطةً لا فقط ب«ٱلقُدرة على تدبير الشّأن العامّ بالمدينة/ٱلمُجتمع»، وإنّما أيضا ب«كيفيّة ٱلسُّلُوك وٱلمُعامَلة بين ٱلنّاس» (وهي كيفيّةٌ قائمةٌ على ما لا يُحصى من "ٱلمُعتقدات ٱلمُضمَرة" التي لولاها لما أمكن النُّهوض إلى العمل). ومن المعروف أنّ «ٱلكيفيّةَ ٱلعَمليّة في ٱلسُّلُوك» هي التي تُسمّى "ٱلخُلُق" أو "ٱلأخلاق". وبالتّالي، لا تكون ٱلسياسةُ "فضيلةً مَدنيّةً" إلا بالقدر الذي تَتحدَّد في أصلها ك"فضيلة خُلُقيّة" تُوجب أنْ يكون "ٱلعملُ ٱلسياسيُّ" - إذا أردنا حِفْظَ التّعريف الشّائع- «فنّ ٱلمُمكن بحثًا عن ٱلأحسن/ٱلأصلح وعملا به». فكيف يَصِحّ، إذًا، أنْ تكونَ "ٱلسياسةُ" كذبًا؟ بل كيف صارت "ٱلسياسةُ" غيرَ مُمكنةٍ إلا ككذبٍ يُتعمَّدُ تَعمُّدًا ويُرتَّب ترتيبًا؟ لعلّ ما يَنبغي الوُقوف عنده، هُنا، أنّ المُشكلةَ الأساسيّةَ تتعلّق بأنّ "ٱلكذبَ" - بما هو ضدّ "ٱلصِّدْق"- عملٌ بشريٌّ يَتّخذ "ٱلواقعَ" موضوعا له سواء أكان "ٱلمُخبَر عنه" مُتعلِّقًا ب"ٱلواقع ٱلخارجيّ" (ٱلظاهر) أمْ ب"ٱلواقع ٱلدّاخليّ" ("ٱلباطن" أو "ٱلضمير") ؛ إذْ أنّ الإنسانَ حينما يَكذِبُ إنّما يَعمل، بواسطة الفكر والخطاب، على التّصرُّف في مُعطيَات "ٱلواقع" الثّابتة خارجه أو المُدرَكة داخل نفسه إمّا بتزييفها وتحريفها وإمّا بإخفائها وتلبيسها. ولذالك، فإنّ "ٱلكذبَ" لا يَتحدّدُ ك«إخفاء للحقيقة» إلا بما هو «تصرُّفٌ قصديٌّ في "ٱلواقِع"»، أيْ أنّه ضربٌ من "ٱلفِعْل" الذي يَأتيه المرءُ عن قصد والذي يُثبِتُ ما يَملِكه الإنسان من "ٱلقُدرة ٱلذاتيّة" تُجاه "ٱلواقِع ٱلموضوعيّ" الذي لا يَعُود، بالتالي، مُجرَّدَ موضوع ل"ٱلتّمثيل/ٱلتّمثُّل"، بل يَصير مَسرحًا لتنازُع "ٱلإرادات" ليس فقط بفعل تناقُض المَصالح وٱختلاف الأغراض، وإنّما أيضا بسبب تفاوُت ٱلأوضاع وتبايُن الشُّروط المُحدِّدة ٱجتماعيًّا وموضوعيًّا لعمل الإنسان في هذا العالَم. إنّ "ٱلكذبَ" يُعَدّ، في "ٱلإسلام/ٱلدِّين"، أُولَى شُعَب "ٱلنِّفاق" («[...]، وٱللّهُ يَشهد إنّ المُنافِقين لكاذبون.» [المُنافقون: 01]). ذلك بأنّ «إتيانَ ٱلكذب في ٱلحديث» مَدْعاةٌ للدُّخول في غيره من شُعَبِ "ٱلنِّفاق" من "إخلاف ٱلوعد" و"خيانة ٱلأمانة" و"فُجورٍ في ٱلخِصام". ولذا، فإنّ "ٱلنِّفاقَ" ليس سوى "كَذبٍ مُضاعَفٍ"، بل إنّه أشدّ أنواع "ٱلكذب" خفاءً وأذًى على النّحو الذي يَكُون به "ٱلنِّفاق" ٱحترافًا للكذب، ممّا يجعل "ٱلكذب" بحق "أُمَّ ٱلرّذائل"! ذلك بأنّه لا خُلُق يَستقيمُ مع وُجود "ٱلكذب" الذي ما دخل في شيء من عمل الإنسان إلا أفسده بخلاف "ٱلصِّدْق" تماما الذي هو شرط صلاح كل فعلٍ (فإخلاص النيّة عينُ الصدق). وعلى الرغم من أنّ "ٱلكذبَ" يبدو كما لو كان سُلوكًا بسيطًا وجليًّا (يُقال إنّ ثمّةَ كذبًا أبيض!)، فإنّ تأمُّل واقع المُمارَسة الإنسانيّة يكشف أنّ "ٱلكذبَ" أنواعٌ عدّة ومَراتبُ مُتباينةٌ بالشكل الذي يُؤكِّد أنّ الأمر يَتعلّق بواقع شديدِ التّعقُّد. ومن اللافِت للنّظر، بهذا الخصوص، أنّ "ٱللِّسانَ ٱلعربيّ" يَحتوي ألفاظا كثيرةً ("ٱفتراء"، "ٱختلاق"، "بُهتان"، "إفكٌ"، "تخرُّص"، "إرجافٌ"، "زُورٌ") تَدُلّ على "ٱلكذب"، ممّا قد يُمكِّن من الإمساكِ بدقائقه ويُساعدُ على تمييز أنواعه ومَراتبه. ف"ٱلكذبُ"، عموما، «إخبارٌ عن ٱلشيء بخلاف ما هو عليه في ٱلواقع»، أيْ أنّ "فِعْلَ ٱلكذب" يَتناول "ٱلواقع" ويَعمل على التّصرُّف فيه بإخفاءِ حقيقته التي يُفترَض أنّها معروفةٌ أو مُدرَكةٌ سَلفًا من قِبَل ٱلكاذِب. وبما أنّ المعرفة بالواقع لا تكون دائما مُتحقِّقة أو تامّة، فإنّ "فعل ٱلكذب" قد يكون بأنْ يُظهِرَ الكاذبُ معرفته بواقع مجهول له فيُخبرُ عنه على الرغم من ذلك. ولهذا فإنّ «ٱلقَطْع بالكذب توجُّهًا وتعمُّدًا» يُسمّى "ٱلِافتراء" («إنّما يَفتري الكذبَ الذين لا يُؤمنون بآيات ٱللّه.» [النّحل: 105] ؛ «ولكنّ الذين كفروا يَفترُون على ٱللّه الكذبَ.» [المائدة: 103])، في حينٍ أنّ «ٱلكذب بتقدير ٱلواقع ٱختراعًا وتخريقًا» يُسمّى "ٱلِاختلاق" بصفته ميلا إلى تخيُّلِ أو توهُّم أشياء لا حقيقة لها (أيْ "باطلة") كأنّ ٱلكاذب في هذه الحالة "يَخترِعُ" أو "يُنْشِئُ" أو "يَصطنع" موضوعا (يُوصَف، لهذا السبب، بأنّه "باطل") فيَعرِضه من خلال الكلام كما لو كان مُتحقِّقًا بالفعل. و"ٱلكذب" في هذا المستوى ليس مجرد تصرُّف في "تمثيل ٱلواقع"، بل هو تصرُّفٌ فيه بٱشتقاقه خياليًّا وتقطيعه فكريًّا ولُغويًّا بما يُحقِّق أغراض الكاذِب. ولأنّ مُمارَسةَ "ٱلكذب" ك"ٱفتراء" تتجاوَزُ "ٱلواقع" نحو "ٱلباطل"، فإنّ وَقْعَها على السّامِع يكون شديدًا على النّحو الذي يُدْهشه ويُحيِّره، ممّا يجعل هذا النّوع من "ٱلكذب" يُسمى "ٱلبُهتان". وحينما يَتعلّق الأمر ب«صَرْف ٱلشيء عن وَجْهه الذي يَحِقُّ له أنْ يكون عليه إلى وجهٍ يَجعلُه أفحش وأشنع» (صرفه من "ٱلحقِّ" إلى "ٱلباطل" أو من "ٱلصدق" إلى "ٱلكذب" أو من "ٱلحُسن" إلى "ٱلقُبح")، فإنّ هذا "ٱلكذب" يُسمّى "ٱلإِفْك". و«كل قول أُخبِر به عن ظنٍّ وتخمينٍ»، فإنّه يُسمّى "ٱلتّخرُّص" سواء أكان المَقُول مُطابِقا للمُخبَر عنه أمْ لم يَكُنْ. ويُسمّى «"ٱلكذب" ٱلمُحدِث للاضطراب ٱلشّديد أو المُثير للفتنة» ب"ٱلإرجاف" (يُقال «ٱلأراجيف مَلاقيح ٱلفِتَن!»). وأمّا "ٱلكذب" «حينما يُسوَّى ويُحسَّن كشهادة»، فيُسمّى "ٱلزُّور". وبِناءً على ذالك، يَظهر أنّ "ٱلكذبَ" درجاتٌ أدناها «ٱلإخبار عن ٱلواقع بخلاف ما هو عليه»، وأعلاها "ٱلِافتراء" الذي يُمثِّل - بما هو "ٱختلاقٌ" و"تخريقٌ"- أساسَ كُلٍّ من "ٱلإفْك" (صَرْف الواقع إلى نقيضه تقبيحا له) و"ٱلزُّور" (تزيين ٱلكذب حتّى يبدو كالشّهادة بالحقِّ). لكنّ "ٱلكذب"، باختلاف درجاته ومَراتبه، يبقى نُزوعا قَصديًّا نحو التّصرُّف في "ٱلواقع" بتحريفه وتلبيسه طلبا لأغراض شتّى تتراوح بين الخداع والتغليط وإيذاء الغير حرصا على حفظ هذه المنفعة أو تلك التي لا يَرى الكاذِب أنّ تحقيقَها يُمكن أن يتمّ من دون التّصرُّف فيما يبدو "حقيقةَ ٱلواقع". و"ٱلكذبُ"، بما هو كذلك، لا يَخفى أنّه "رذيلةٌ كُبرى" لا يَستحسنها إلا من فسدت طباعُه أو ٱشتدّت مَطامعُه، بل إنّ حكمَه الشرعيّ والأخلاقيّ لا يَقلّ عن تحريمه والتّغليظ فيه. ف"ٱلكذب"، في الأساس، إنّما هو خُلُقُ وعملُ الذين لا يُؤمنون باللّه («إنّما يَفتري الكذب الذين لا يُؤمنون بآيات اللّه.» [النّحل: 105] ؛ «ولكنّ الذين كفروا يَفترُون على ٱللّه الكذب.» [المائدة: 103]). وأكثر من هذا، ف«إنّ الذين يفترون على ٱللّه الكذب لا يُفلحون.» ([النّحل: 116])، وبالتّالي ف«لا خيرَ في ٱلكذب» (موطأ مالك، سنن الترمذي)، أيْ أنّه مُحبِط للعمل أو أنّ عمل الكاذب في خُسر. ولذا، أتى النّهي عنه صريحًا: «إيّاكُم وٱلكذبَ وٱلفُجورَ!» (مُسلم: بِرّ، 103-105)، بل فُرِّق بينه وبين الإيمان: «يُطبَع المُؤمن على الخِلال كلها إلا الخيانة والكذب» (أحمد 5 و252) و«سُئل رسول ٱللّه: أيَكُون المؤمن كذّابا؟ قال: "لا!"» (الموطأ، كلام 19). فلا عجب، إذًا، أنْ يكون «ٱلكذب عملَ ٱلنّار» (أحمد، 2 و176) وأنْ يُعدّ من "ٱلهَرْج" و"صِنْوَ ٱلقتل" (أحمد، 4 و406). وعلى الرغم من أنّ "ٱلكذب" - من النّاحية المبدئيّة وبشكل عامٍّ- حرامٌ شرعًا ومذموم خُلقًا إلى حدِّ أنّه «ما كان خُلُقٌ أبغضُ إلى رسول ٱللّه، صلّى ٱللّه عليه وسلم، من ٱلكذب» (الترمذي: بِرّ ؛ أبو داود: أدب) وأنّ «من قال لصبيٍّ تعال هاكَ، ثُمّ لم يُعطه فهي كذبة.» (أحمد، 2 و452)، فإنّ هناك ٱستثناءً يُبيح "ٱلكذب" إصلاحا بين المُتخاصمين أو مُخادَعةً للعدُوِّ في الحرب أو تطييبًا من ٱلزّوج لزوجه («ليس الكذّاب الذي يُصلِح بين النّاس، فيَنْمِي خيرا أو يقول خيرا»، متفق عليه) ؛ «ليس بالكاذب من أصلح بين النّاس» أو «لا أعدُّه كاذبا الرجل يُصلح بين النّاس» (أبو داود: أدب ؛ الترمذي: بِرّ) ؛ «كل الكذب يُكتَب على ٱبن آدم لا مَحالة إلا أن يَكذِب الرجل في الحرب خُدعةً أو يكون بين رجل شحناء فيُصلح بينهما أو يُحدِّث ٱمرأته يُرضيها.» (أحمد: 6، 459، 461). ولأنّ ما أُبيحَ ٱستثناءً يُعدّ ضرورةً تُقَدّر بقدرها، فإنّه لا مجال هنا مُطلقًا لأنْ يُسوَّغ "ٱلكذب" عموما كذريعةٍ لجَلْب مصلحةٍ راجحة أو لدفع مَضرّة أكيدة. ذلك بأنّ القاعدة هي أنّ إتيانَ "ٱلكذب" طلبًا للكَسْب أمر غيرُ مُباحٍ («[...]، ومن ٱدّعى دَعْوًى كاذبةً ليَتكثّر بها، لم يَزِدْهُ ٱللّهُ إلا قِلّةً. [...]» [مُسلم، إيمان: 176])، وكذلك ذُمَّ ٱستعمال "ٱلكذب" من قِبَل "ٱلإمام" أو "ٱلحاكِم" ( «ثلاثة لا يُكلِّمُهم ٱللّهُ، عز وجل، يوم القيامة: الشيخ الزّاني والعائِل المَزْهُوّ وٱلإمام ٱلكذّاب» [النّسائي: زكاة، 77 ؛ أحمد: 2 و433] ؛ «ثلاثة لا يُكلِّمُهم ٱللّهُ يوم القيامة ولا يُزكِّيهم [ولا يَنظر إليهم] ولهم عذاب أليم: شيخٌ زانٍ وملِكٌ كذّابٌ وعائل مُستكْبِرٌ.» [مُسلم: إيمان، 172]). ولهذا، فإنّ تَوسيلَ "ٱلكذب" وإعطاءَه صفةَ "ٱلفضيلة ٱلسياسيّة" لا يُعدّ فقط تدهيرًا أو تَدْنِيَةً للأخلاق بٱسْمِ مكيافيليّةٍ مُتوقِّحةٍ أو داروينيّةٍ مُتألِّهةٍ لا تتردّد في أن تَجعل "ٱلأمر ٱلواقع" حاكِمًا للمُمارَسة العمليّة وحَكَمًا في كل مُفاضَلةٍ قِيمِيّةٍ، وإنّما هو أيضا - وبالأساس- إبطالٌ للعقل في ٱقتضائه للحقِّ وٱلعدل و، من ثَمّ، تشريعٌ للهوى في نُزوعه نحو ٱلباطل والظُّلْم، على النّحو الذي يُقيم "ٱلعمل ٱلسياسيّ" كتدبيرٍ دُنيويٍّ ومُتدنٍّ، تدبير بقدرما يبدو مُتحرِّرا من النّاحية الخُلقيّة يكون مُتسلِّطًا من النّاحية المدنيّة كدين مُتنكِّر في صورة "إلزام إنجازيّ". إنّ ٱلِاستثناء الذي أُبيح به "ٱلكذب" ضرورةً هو نفسه الذي صار فضيلةً (مدنيّة) لا يَتردّد كثيرون في تبريرها وتوسيعها بالنّظر إلى أنّ «ٱلكذب - كما يقول "نيتشه"- حيثما ٱكتسى صفةَ القيمة المقبولة، فإنّه يصير مُباحًا». وبما أنّ "ٱلسياسة" تُعدّ ٱستمرارًا للحرب بوسائل أُخرى (كما تقرّر تبعًا ل"كلاوسفتز")، فإنّ "ٱلكذب" يَثبُت بصفته أهمّ الوسائل التي يُمكِن أن تُستكثَر بها المصالح وأنْ تُتقّى "ٱلحرب" نفسُها بواسطتها، خصوصا أنّ مفهوم "ٱلحرب" قد ٱتّسع ليَشمل كل "ٱلشُّؤون ٱلعامّة" باعتبارها مجالا تُخاض فيه النِّزاعات سياسيًّا ودبلوماسيًّا وإعلاميًّا بين الدُّول والأحزاب والمنظمات والشركات التي تتنافس وتتدافع حول شتّى الموارد والمصالح ذات الأهميّة الحيويّة والاستراتيجيّة. ومن ثَمّ، فبقدر ما صار مُمتنعًا أن يُتعاطى "ٱلعمل ٱلتّدبيريّ" كإنجاز حقيقيٍّ في حلِّ "مُشكلات/مُعضلات ٱلواقع"، فقد أصبح "ٱلكذب" وسيلةً ناجعةً ومشروعةً للتّصرف في "مُمكنات ٱلواقع" كلانهائيّة من ٱلِاحتمالات التي يُتفنّن خِطابيًّا وإعلاميًّا في تقديرها وٱلتّلاعُب بها تظاهُرًا بحفظ "ٱلمصالح ٱلعامّة" وتنافُسًا في دفع "ٱلمَضارِّ ٱللامّة". لا غرو، إذًا، أنّه قد صار يبدو أن النّاس لم يبق بين أيديهم من "إمكانات "ٱلتّدبير" إلا "ٱلكذب". واللافت، بهذا الخصوص، أنّه قد أتَى في السُّنة ما يَكفي من الأحاديث لتأكيد أنّ فُشُوَّ "ٱلكذب" من أشراط الساعة («خير النّاس قَرْنِي، ثُمّ الذين يَلُونهم، ثُمّ الذين يَلُونهم، ثُمّ يفشو ٱلكذب حتّى يَحلِفَ الرجل ولا يُستحلف، ويَشهد الشاهد ولا يُستشهد! [...]» (الترمذي: فتن ؛ ابن ماجه: أحكام ؛ أحمد: 1، 18) ؛ «لا تظهر الساعة حتّى تظهر الفِتَن ويَكثُر الكذب» (أحمد، 2 و519) ؛ «إنّ بين يدي الساعة كذابّين، فاحذروهم!» (مسلم: إمارة، 10 ؛ فتن، 83 ؛ ابن ماجه: فتن، 9). ف"ٱلكذب"، إذًا، ليس مجرد فساد مُلازِم لظهور ٱلفِتَن، بل إنّ فُشوَّه ليُعدّ من ٱلفِتَن المُؤْذِنة بقُرب السّاعة. وفي المدى الذي يُنظَر إلى "ٱلسِّياسة" بصفتها "مجالَ ٱلتّدبير" في ٱنفصاله عن "مجال ٱلتّعبُّد ٱلديني"، فإنّ المرء لا يَعُودُ قادرًا على وُلُوج أبواب "ٱلسِّياسة" إلا ب"ٱلكذب" حرصا على مزيد من التملُّك والتَسلُّط، بحيث إنّه لا يستطيع أن يُثبِت نفسَه كسياسيٍّ إلا باحتراف "ٱلكذب" والتّمرُّس به. وحتّى حينما يُقدِّم نفسه بصفةِ من يَترشّح - فقط- لخدمة "ٱلمصلحة ٱلعامّة"، فإنّه لا يكاد يُخفي في نفسه كونه لا يَتقدّم ل"تولِّي ٱلأمر ٱلعامّ" إلا لأنّ هذه الصفة تُمثِّل، بالأحرى، مَدخلا لتحقيق "مَصالحه ٱلخاصة" التي ليس أهونَها أنّه يَطمع في "أنْ يُشار إليه" أو "أن يُقال عنه". ذلك بأنّه ما كان ليَطمع في مُمارَسة "ٱلسياسة" طالِبًا التّرشُّح وساعيًا إلى ٱلنّجاح لو لم يَكُن الأمر يَتعلّق بطريق يُؤدِّي - بشكل مُباشر أو غير مباشر- إلى خدمة "مصالحه ٱلخاصة" (التي ليست كلها ماديّة) من خلال التّظاهُر بخدمة "ٱلمصلحة ٱلعامّة". وأنّى للسياسيّ أن يُفلِح في إخفاء كذبه المزدوج (على نفسه وعلى النّاس) إذا كان إنّما يعمل - من خلال ٱلِاستثمار الموضوعيّ- على زيادة حُظوظه الذاتيّة، وليس على ٱلتّخلُّص منها تَعبُّدًا وتَزكِّيًا! ولأنّ إقامةَ ٱلسِّياسة على "ٱلكذب" يُنْظَر إليها كتحرير ل"عمل ٱلتّدبير" من قُيود ٱلأخلاق، فإنّ التّوسُّع في تعاطِي "ٱلكذب" يُراد به توسيعُ "ٱلواقع" في ضيقه وٱمتناعه عن إشباع حاجات النّاس. ومن هنا، فإنّ "ٱلكذب" - خصوصا كيَمينٍ كاذِبة- يبدو مَنْفقةً لكُلِّ السِّلَع ومَجلَبةً لكل الخيرات. غير أنّ تشريعَ "ٱلكذب" كخُلق سياسيٍّ لا يُثبِت أنّه "فضيلة مدنيّة" إلا بجعل "ٱلتّدبير" تسويقا يَبتغي تسويةَ "ٱلباطل" بديلا عن "ٱلواقع" وغطاءً له، وهو الأمر الذي يَؤُول إلى التّنصُّل من القيام بأعباء "ٱلتّدبير" (كترشيد لحُظوظ الكسب صدقًا وعدلًا) و، من ثَمّ، تسييب "ٱلعمل ٱلسياسيّ" كذبًا وزُورًا على النّحو الذي يجعله، في الواقع، مَمْحَقةً لكل كسب من خلال إشاعة أكل أموال النّاس بالباطل. ولذا، فكون "ٱلكذب" صار مُلازِمًا للسياسة هو الذي نقل المُمارَسة السّياسية من "ٱلتّنازُع ٱلعمليّ" إلى "ٱلتّكاذُب الخطابيّ/ٱلإعلاميّ"، إذْ أصبح عمل الساسة قائما في صورة تكذيب مُتبادل ومُتواصل، ممّا يُؤكِّد أنّهم لم يعودوا يجدون سبيلا إلى "ٱلإنجاز" سوى بإثبات كذب خُصومهم، كأنّ نسبة "ٱلكذب" إلى هؤلاء كافية لإثبات تحقُّق أولئك بالصدق! وأكثر من ذلك، فإنّ "ٱلسياسيَّ" وهو يَظُنّ أنّه بواسطة كذبه إنّما يُخفي عن "ٱلجُمهور" (أو "ٱلعَوَامّ") ما يَنبغي ألا يعرفوه (لأنّهم إذا عرفوه، فلن يكون في صالِحهم، بل سيضرّهم أو سيُؤذِيهم أكثر مما لو كُذِب عليهم فقط!)، لا يفعلُ شيئا آخر سوى مُضاعَفة «ٱلخفاء ٱلمُلازِم للواقع» و، بالتالي، زيادة نُزُوله الثّقيل على عامّة النّاس ممّن يَعيشون عادةً "ٱلواقعَ" في تخفِّيه الطبيعيّ. ف"ٱلسياسيّ ٱلكذّاب"، بعمله على تكريس الواقع المُتخفّي، لا يزيد إلا من مُعاناةِ الإنسان العاديّ الذي يُفرَض عليه أن يَستسيغ أنواعَ الإحباط والبُؤس بجُرعات مُنتظمة من "ٱلكذب ٱلمُهذَّب"، جُرعات هي نفسها لا تكفي إلا مع طبقات من "ٱلجهل ٱلمَرْعيّ" بواسطة فُنون مُبرمجة من "ٱلتّسلية" و"ٱلتّلهيَة" التي تُشدّ إليها الأنظار والرِّحال في آن واحد بفعل نوع من ٱلتّواطُؤ الموضوعيّ بين "كذّابين مُحترفين" و"سّمَّاعين للكذب"! وهكذا، يَتبيَّنُ أنّ تدهيرَ "ٱلسِّياسة" بقطعها تماما عن "ٱلأخلاق" يُعدّ توجُّهًا يُناقِض رُوح "ٱلإسلام" بما هو "ٱلدِّين" الذي أكمله ٱللّه لعباده رحمة وهدى («وتمّت كلمةُ ربِّك صدقًا وعدلًا، لا مُبدِّل لكلماته.»، [الأنعام: 115]) والذي أتى فيه الأمرُ ب"تحرِّي ٱلصدق" تخلُّقًا وتقوى («يا أيُّها الذين آمنوا! ٱتّقُوا ٱللّه وكُونوا مع ٱلصادقين.»، [التوبة: 119]). ومن ٱلبيِّن أنّ ٱلتّوسيل ٱلسياسيّ للكذب بتعقيله تدبيريًّا وتفعيله إجرائيًّا لا سبيل إلى ٱلِانفكاكِ عنه إلا بالِاستقامة على جادّةِ ٱلصِّدق كما يُمكن (ويجب) أن تَكفُلَها شُروط إقامة "ٱلدِّين" تعبُّدًا تخليقيًّا وتزَكِّيًا تحقُّقيًّا في إطار "دولةٍ راشدةٍ" بُذل ما يكفي من "ٱلجُهد ٱلعُمرانيّ" لجعلها تَشتغل قانونيًّا ومُؤسسيًّا على أساس أنّ "ٱلأكرميّةَ" لا تكون إلا بالتّقوى عملا صالحًا ومُعامَلةً بالحُسنى، من حيث إنّ ٱلبُرهانَ فيها ليس مُغالَبةً جدَليّةً تكذيبًا وتكاذُبًا، وإنّما هو قيامٌ عمليٌّ مَنوطٌ بتحرِّي ٱلصدق تَواصيًا بالحقِّ ومُقيّدٌ بالكينونة مع الصادِقين تَواصيًا بالصبر ؛ لأنّ ٱلأمرَ كلَّه لا يَنحصر في إصابةِ حظ من هذه ٱلدُّنيا كذبًا وزُورًا، بل هو موصولٌ بيومٍ هُنالِك حيث لا يَنفعُ إلا ٱلصدقُ («قال ٱللّهُ: هذا يومُ يَنفعُ الصادقين صدقُهم، لهم جنّاتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا، رضيَ ٱللّهُ عنهم ورَضُوا عنه ؛ ذلك الفوز العظيم.» [المائدة: 119] ؛ «إنك ميّتٌ وإنّهم ميِّتون! ثُمّ إنّكم يوم القيامة عند ربِّكم تَختصمون. فمن أظلم مِمَّنْ كَذَب على ٱللّه وكَذَّب بالصدق إذْ جاءه؟! أليس في جهنمّ مَثْوًى للكافرين؟! وٱلذي جاء بالصدق وصدَّق به، أولئك هُمُ ٱلمُتّقُون. لهم ما يَشاؤون عند ربِّهم ؛ ذلك جزاءُ ٱلمُحسنِين.»، [ٱلزُّمَر: 30-34] ؛ «وما ظنُّ الذين يفترون على ٱللّه الكذب يوم القيامة؟ إنّ ٱللّه لَذُو فضلٍ على ٱلنّاس، ولكنّ أكثرَهم لا يشكرون!»، [يونس: 60]). [email protected]