قد يبدو لكثير من "ٱلعرب" أَنَّهم لا يَجِدُون، بِما هم عَرَبٌ، أي مَحِيد أو بديل عن "ٱلتَّعْرِيب" ٱلذي يظهر أنه يَفْرِض نفسَه عليهم من دون أيّ إشكال. لكنَّ مسألةَ "ٱلتَّعريب" لا يُمكِنها، في ٱلواقع، أن تَمُرَّ دون أن تُثير إشكالات، بل إشكالات كُبرى تتعلق بواقع ٱلشعوب ٱلمُكوِّنة للأمة ٱلعربية كواقع مرتبط أصلا بالتعدُّد وٱلِاختلاف. وهذا ما يَجعلُ تناوُل "ٱلتَّعريب" موضوعًا للأخذ وٱلرَّد بين ٱلأنصار ٱلمُنافِحين عنه وٱلخصوم ٱلرافضين له وٱلمتشككين في جدواه. ولِذا أيضا، لا يزال "ٱلتَّعريب"، في مُعظم ٱلبلدان ٱلعربية، مُتعثِّرا وسطحيا إلى ٱلحد ٱلذي جعل بعض ذوي ٱلأطماع لا يتردَّدُون في ٱلتهجُّم عليه من دون تَبَيُّن كافٍ ولدى كل سانحة. لقد ٱرتبط "ٱلتَّعريب" في أذهان ٱلناس بجعل "ٱللسان ٱلعربي" لسانَ ٱلتعليم وٱلإدارة بَدَلًا من ٱلألسن ٱلتي بَوَّأَتْها ٱلسيطرةُ ٱلِاستيطانيةُ للأروبيين ٱلمكانةَ ٱلتي كان يَحْتَلُّها من قبلُ، بهذا ٱلقدر أو ذاك، ذلك ٱللسان. وعلى ٱلرغم من رُسُوخ هذا ٱلمعنى وسيادته، فإنه لا يُمثِّلُ -في ٱلواقع ٱلفعلي- سوى أحد أبعاد "ٱلتَّعريب"، لأن "ٱللسان ٱلعربي" -بما هو ٱللسان ٱلقومي للعرب- لا بُدَّ أن يكون ٱللسان ٱلمُستعمَل في ٱلتعليم وٱلإدارة. غير أنَّ هذيْن ٱلمجالَيْن (ٱلمدرسة وٱلإدارة) لا يُمكنُهما أن يُكَرِّسا من "ٱللسان ٱلعربي" سوى جانِبَيْه ٱلظاهرين: ٱلمدرسي وٱلرسمي. وتبقى ٱلحياة ٱلعامّة، رغم ذلك، خارج إطار "ٱلتعريب" ٱلذي يتحدَّد (أو ينبغي أن يتحدَّد) بالفعل كسَيْرورة ٱجتماعية وثقافية قائمة أساسا على "ٱلتَّفْصيح" و"ٱلتَّهْذيب" و"ٱلتَّنْشيط" لكل مناحي ٱلحياة ٱلعمومية (وليس فقط للتواصل ٱللغوي من خلال ٱستعمال "ٱلعربية" كما هو ٱلظن ٱلسائد). ولا أَدَلَّ على قُصور ٱلمعنى ٱلشائع للتعريب من أن عامَّة "ٱلعرب" كانت وما زالت لا تَعْرِف من ٱللُّغتَيْن ٱلمدرسية وٱلإدارية إلا ٱلِاسم، وهما ٱللغتان ٱللتان تَسري سُلطتُهما -بصفتهما لُغتيْن تَتَّسمان بمشروعية تَضمنُها "ٱلدولةُ"- على ٱلجميع ؛ لأنَّ "ٱلدولة" (كحقل مُؤَسَّسِي مُرْتَهن، بهذا ٱلقدر أو ذاك، لِنُخَب مسيطرة ٱجتماعيا وٱقتصاديا وثقافيا) ظلت لا ترى معنى لِلتَّعريب إلا أَنْ يكون "ٱللِّسان ٱلعربي" -في صيغته ٱلصُّورِيَّةِ/ٱلشكْلِية- ٱللغة ٱلمُعلَنة رسميةً للبلد. لهذا، ولِكَيْ تَضْمن هذا ٱلأمر كان لا بُدَّ أَنْ تَجعله، خصوصًا في ٱلمستوى قَبْلَ ٱلجامعي، لُغةَ ٱلتَّعليم وَتَخْريج ٱلأُطُر. فلا عَجَبَ، إذن، أنْ يبقى "ٱللِّسان ٱلعربي" رَمْزًا قوميًّا أَكثر ممَّا هو أداةٌ ٱجتماعية للإنتاج ٱلثقافي وٱلبِناء ٱلحضاري. وٱلسبب ٱلذي لا يَخفى على أحد هو أَنَّ ٱلشعوب ٱلعربية، في سوادها ٱلأعظم، لا تعرف من ٱللغة سوى أنها وسيلةٌ مُبتذَلةٌ لِقضاء أغراض ٱلمَعاش ٱليومي ٱلخَاضِعِ للمدى ٱلزمني ٱلقريب وٱلمُنْقَطِع عن ٱلقَصْدية ٱلِانعكاسية في واقع يتميَّز أساسا بكونه غير خاضع لِآليَّات ٱلتدبير ٱلراشد ٱلتي من شأنها ضمان ٱلوصول ٱلمتكافئ إلى ٱللغة ٱلمشروعة ٱلتي قد لا يُمثِّلها، في حقيقة ٱلأمر، "ٱللسان ٱلعربي" (في ٱلعالم ٱلعربي تُعدّ ٱللغة ٱلمشروعة هي لُغة ٱلمستوطن ٱلسابق: ٱلإنجليزية وٱلفرنسية بالنسبة لمُستعمِلي ٱلعربية، وٱلعربية نفسها بالنسبة لمُستعمِلي غيرها كالأمازيغية مثلا). ومن ثَمّ، فإِنّ "ٱلتعريب" ٱلذي كان يَقِف في ٱلماضي ضد ٱلموجات ٱلشُّعُوبية ٱلطَّاعِنة في هُوِيّة "ٱلعرب" وٱلرَّامِية إلى إِقْصائهم من مَسارات ٱلحضارة ٱلبشرية، قد ضاع -أولًا- في زَحْمة "ٱلثورات" ٱلقومية لتحرير ٱلوطن وإنشاء ٱلدولة ٱلقُطرية ٱلمستقلة، ثُمّ طُمِس طَمْسًا -بَعْدَ ذلك- في طُوبَيَات ٱلِاشتراكية ٱلقومية أو ٱللِّيبرالية ٱلمُتَرسمِلة ٱللَّتيْن لم تَكُونا تَعْرِفان سوى تحقيق ٱلتنمية و"ٱلعدالة ٱلِاجتماعية" حتى لَوْ تَمّ ذلك بأَكْوام من ٱلموادّ ٱلبشرية ٱلتي لا تَنْطِق إلا أنْ يُؤْذَن لها، وإِذا نطقتْ فلا تَملِك أنْ تُخالِف أمرًا لِزُعماء صَدَّقوا على أنفسهم ٱلظن بأنهم مُلْهَمون ومُلْهِمون! وهكذا، ضيَّع "ٱلعرب" أنسب فُرصة في ٱلقيام ب"تعريب ٱجتماعي" شامِلٍ وناجع لا يُفرِّق بين ٱلمدرسة وٱلحياة ٱلعامّة، ولا بين ٱلمجال ٱلرسمي وٱلفضاء ٱلعُموميّ، تعريبٌ يَبْدأ بتعليم ٱلناس أنَّهم شعوب صاحبة تاريخ حضاري عريق ورسالة سامية في موْكِب ٱلإنسانية، وليس بإلهائهم ب"عُرُوبة" تَهْوِي هُوِيةً عَصَبيّة ونَخْوَةً شِعْرية فتَرْتَكِس أمام من يَصنع من محض أوهامه تاريخا ويَبْنِي دولة وأُمّة بفضل ٱلنَعَرات ٱلقومانيّة لأُناس أُشربوا حبّا بماض من أساطير ٱلأولين. لقد وَهِمَ "ٱلعرب" طويلا وكثيرا! ولمّا يَقِفُوا بعدُ على أصل ٱلبلاء ٱلذي ما ٱنْفَكُّوا يَصْطَلُون بشدائده: لم ينهزموا في معارك ٱلتاريخ ٱلحديث لأنهم كانوا أقل رُجُولة أو لأنهم يجهلون لسان ٱلأجداد، بل لأنهم ظلوا لا يُفَرِّقُون بين ٱلحُلْم كرمز لإرادة حيّة وفاعِلة وبين ٱلحُلْم كدُوَّامة من ٱلِانْتِشاء ٱلدائم بخُرافات ٱلعجائز وأفانين ٱلحُكاة. ولذا، فإنّ "ٱلتعريب" لم يُنظَر إليه إلّا بكونه عملا على ٱسْترداد حقّ ٱللسان ٱلسَّلِيب وجَعْله ينبَعِث على ألسنة ٱلشعراء وٱلخطباء لِيَهِيم ٱلناس في أودية ٱلعَنْتريّات. ولقد كان من كل ذلك فنّ جمّ! إِنّ "ٱلتعريب" ليس إجراءات لُغوية تَخُصّ ٱلتعليم وٱلإدارة وتَحْفَظ رُموز ٱلعبادة في ٱلمساجد وأيام ٱلأعياد. وإلا، فَقَدْ كُفِيتُمْ شرّ ٱلقتال -يا مَعْشر ٱلعرب- بَعْدَ أنْ ٱعْتُرف بلسانكم في أكبر ٱلمَحافل ٱلعالميّة وصار لسانا يُدْرَس ويُدَرَّس في كثير من ٱلجامعات داخليا وخارجيا! من أجل ذلك، فإنّ تعريبا مُنحصرا في ٱلحُدود ٱلتي رُسِمَت له في أثناء مُدافَعة ٱلسيطرة ٱلِاستيطانيّة لم يَسْتَجِب لحاجات ٱلتنمية وٱلتقدُّم، ولن يُفْلِح في ٱلوُقوف أمام آليّات ٱلتَّعْجيم ٱلتي تَعْمَل من داخل ٱلمجتمعات على ٱمتداد ٱلعالَم ٱلعربي. ولهذا كُلّه، من ٱلمُؤسِف جِدًّا أنْ يُضْطَرّ ٱلمرء، بَعْد خمسين عاما من قيام ٱلدُّوَيْلات ٱلقُطرية بهذه ٱلمنطقة، على ٱلِاعتراف بأنّ خُطَط "ٱلتعريب" كانت بصريح ٱلعبارة "أعجميّة"، وذلك لسبب جوهري: لم تُؤسَّس وَفْق إمكانات ٱلواقع ٱلعربي ٱلحقيقيّ ٱلذي يتحدَّد ضرورةً كواقع قائم على ٱلتعدُّد ٱجتماعيا ولغويا وثقافيا، وهو ٱلأمر ٱلذي كان ولا يزال يُوجِب إقامة آليات حقيقية لتدبير ديموقراطي وعقلاني. لقد كان "ٱلتعريب" ولا يزال ضرورةً، ليس لأن "ٱلعرب" وُوجِهُوا -تحت نِير ٱلسيطرة ٱلِاستيطانية- بألسُن أجنبية لا تَمُتّ بصلة إلى لسانهم ٱلقوميّ، وإنّما لأن "ٱللسان ٱلعربي" -ٱلذي يُراد له أن يكون وسيلة ٱلتبادُل ٱليومي وعِماد ٱلوُجود ٱلثقافي وٱلحضاري للأمّة ٱلعربية بين أُمَم ٱلعالَم- لم يَعْرِف أهلُه كيف يُواجِهون ٱلتحدِّيات ٱلتي وَضَعَهم أمامها، منذ أواخِر ٱلقرن ٱلهجريّ ٱلأول (أواخر ٱلسابع وبداية ٱلثامن بعد ميلاد ٱلمسيح)، ظهور مجال تداوُلي قائم في أصله على ٱلتعدُّد وٱلِاختلاف في صورةِ قبائل وعشائر وفئات مُتمايزة ومتنازعة على كل ٱلمستويات، وهو المجال الذي صار مُوجَّها نحو ٱلتوحيد بفعل ٱنتشار ٱلإسلام ٱلذي أَدْخَل إليه شُعوبا مختلفة زادت ووسَّعت عوامل ٱلتعدُّد وٱلِاختلاف فيه. وإنّ هذا ٱلِانقِلاب ٱلكبير في سَيْرُورة ٱلأمّة ٱلعربية هو ٱلذي شَكَّل ضرورة "ٱلتعريب". وإنّه لَمِن عجائب ٱلأقْدار أن يكُون ٱلردّ ٱلعربي، بذلك ٱلخصوص، قد تَمثَّل منذ ٱلقديم في شكليْن مُتباعديْنِ: وُقوفُ ٱلعلماء وٱلمُخْتصِّين مَوْقفا "مدرسانيّا" لا هَمَّ له سوى إنقاذ ٱللسان "ٱلفصيح" من ٱلضّيَاع، وذلك بالعمل على تَدْوين ٱلنصوص وتقعيد ٱلنحو وحفظ ٱلبَيان ؛ ووُقوف ٱلأمراء وٱلحُكّام موقفا "إراداني" يَضْمَن رسميّة "ٱللسان ٱلعربي" ويُنَاوِش بين ٱلقُوَى ٱلشُّعُوبيّة وٱلعُرُوبيّة في ٱلمجالين ٱلمدرسي وٱلعموميّ من دون أي عمل على بناء وترسيخ ٱلتدبير ٱلمدني وٱلسياسي لِأشكال ٱلتعدُّد وٱلاختلاف ٱلسارية ٱجتماعيا ولغويا وثقافيا. وَمُنذُئذٍ تَرسَّخ ٱلمَوقِف ٱلعربي ٱلمُزدَوِج من مسألة "ٱلتعريب"، وٱسْتقَرَّت معه عادةُ ٱلردّ ٱلِانفعالي على ٱلزحف "ٱلأعجمي". ومن هنا، كانت هذه ٱلمُفارقة ٱلمُحيِّرة: على ٱلرغم من ٱلتَّفانِي في توسيع وتَقْوية ٱلتعليم ٱلمدرسي لِلِّسان ٱلعربي تحت رعاية "ٱلدولة" ومُرَاقبتها، فإِنّ جُموع ٱلشعب تبقى على حالها في ٱستعمال لهجاتها ٱلعامِّيَّة وإِنتاج وُجُودها ٱلثقافي وٱلِاجتماعي ٱلخاص، على هامش ٱلزُّمَر ٱلتي تَتَعاطى ٱلعِلم وٱلأدب، وٱلفئات ٱلتي تتنافس ٱلحُكْم وٱلرِّياسة في إطار ٱلتنازُع على ٱلمَوارد ذات ٱلقيمة ماديا و/أو رمزيا. وهكذا، يبدو أنّ أيَّ تَناوُل جادٍّ لمسالة "ٱلتعريب" مُضطَرٌّ لأن يقف عند واقِع مُعقَّد ومُتَشعِّب: تاريخٌ طويلٌ من ٱلتعايُش بين "لسان عربي" (لا يعرفه، في أحسن ٱلأحوال، إلا ٱلأُدباء وٱلعلماء وٱلحُكَّام) ومجموعة من ٱللهجات ٱلعاميّة وٱلجِهَوِيَّة ٱلتي تُشكِّل لُغةَ ٱلتَّداوُل ٱليوميّ في أهمِّ مجالات ٱلحياة، وهي لهجات ما فَتِئَ بَعْضُها يَستوِي على شكل نِظام لُغوي مُتميِّز -إلى هذا ٱلحدِّ أو ذاك- عن "ٱللسان ٱلعربي". ويُضاف إلى هذا كُلِّه ما يَفِدُ على مجال ٱلتَّداوُل ٱلعامّ من ٱلألسُن ٱلأجنبية ٱلتي تتقَوَّى بمدى تَوَسُّع وتَجذُّر ٱلغزو وٱلسيطرة ٱلمرتبطين بالغزو أو بالِاستيطان ٱلأجنبي. لا يَصِحُّ، إذن، أن يُتَصوَّر "ٱلتعريب" أو يُنفَّذَ بعيدًا عن ذلك ٱلواقعِ مُعتبَرًا في كُلِّ جوانبه. وبالتالي، فإنه لا يُمْكِنُ ولا يَسُوغُ أنْ يُقْضَى على ٱللَّهجات "ٱلعاميّة"، كما لا يُمْكِنُ ولا يُعقَل ٱلِانغلاق تُجَاه ٱلألسُن "ٱلعالَميّة". وفي هذا ٱلخِضَمِّ ٱلمَائِر من ٱلحَركات وٱلتَّنافُسات وٱلتَّدفُّقات ٱللُّغويّة يُفرَض أنْ يَشُقَّ "ٱلتعريب" سبيلَه بصفته حَرَكِيّةً ٱجتماعيّةً وثقافية شَامِلةً تَقُوم باستنفار مُختلِف قُوَى ٱلأمة "ٱلعربية" من خلال مجموع ما تَستخدمه من نُظُم لُغوية تَتَّصِل من قريبٍ أو بعيد باللِّسان ٱلعربيّ ٱلفصيح وٱلمعياري، وذلك لإنتاج ٱلوُجود ٱلتاريخي وٱلحضاريّ للإنسان "ٱلعربي" في سِياق ٱلمسيرةِ ٱلإنسانية ٱلعامة. ومن ثَمّ، فإِنّ "ٱلتعريب" يتجلَّى كتَفْعِيل حَرَكِيّ وتدبير عَمَليّ يَنْصَبّان على إِمكانات لُغوية وثقافية كامنة في ٱلجسم ٱلِاجتماعي وٱلتاريخي للأمة "ٱلعربية"، على ٱختلاف شُعوبها وتنوُّع مُكوِّناتها، من أجل ٱلِانبعاث في سبيل ٱلرُّقي وٱلتقدُّم. و"ٱلتعريب"، بهذا ٱلمعنى، سيرورةٌ ٱجتماعية وثقافية قائمة على "ٱلتفصيح" و"ٱلتهذيب" و"ٱلتنشيط" كعوامل مُقوِّمة للبناء ٱلمدني وٱلعُمراني بعيدا عن "ٱلتعجيم" و"ٱلتفحيش" و"ٱلتَّثْبيط" كآثار مرتبطة بالتبعية وٱلدُّونية والتخلُّف. ولِأن "ٱلتعريب" لا معنى له إلا ك"ٱستنهاض" و"ٱنبعاث"، فإن ٱلِانخراط فيه لا يكون إلا طوعا على أساس ما يُمثِّله من إمكانات في حال ٱلتفاعُل ٱلمدني، وإغراءات في واقع ٱلتبادُل ٱلحضاري. وحيثما وُجِد هذا "ٱلتعريب"، فإن ٱلناس "يَتعرَّبُون" و"يَستَعْرِبُون" من دون حاجة إلى أي إكراه، وذلك بفعل ٱلضرورة ٱلطبيعية ٱلمُلازِمة للسيرورة ٱلِاجتماعية وٱلتاريخية، وليس تَبَعا لآليّات ٱلترهيب وعوائد ٱلتسلُّط. ومن هنا، فإن ما يُروِّجه بعض ٱلمُتنطِّعين عن "ٱلتعريب" كحركة قَوْمَانيّة وطُغيانيّة تقوم، في ظنِّهم، على ٱلمركزية ٱلوُجودية ل"ٱلعرب" و"ٱلعربية" وتهدف، في زعمهم، إلى محو وٱستئصال أصناف ٱلتعدُّد ٱللغوي وٱلثقافي، ليس سوى أُسطورة أعجب ما فيها أن تسطيرها مفضوح بما لا يُحوِجُ إلى أي تكذيب من لدن ٱلوقائع بالعالم ٱلعربي ٱلقائم تاريخيا وٱجتماعيا وثقافيا ولُغويا على ٱلتنوُّع وٱلِاختلاف إلى أقصى ٱلمناحي، من حيث وجود ما لا يُحصَى من ٱلطوائف وٱلجماعات وٱلأعراق وٱللغات ٱلمتعايشة وٱلمتنافسة إلى حدّ ٱلتفرُّق ٱلبعيد وٱلتمزُّق ٱلمُبِيد. وإنَّكَ، إذا تأملت جيدا، لا تَستطيعُ أنْ تَقُوم بصَهْر أُمّةٍ كاملة في لسان لا يَكاد يَنْفَكُّ عن وسطه ٱلمدرسيّ وٱلدِّيوانيّ ٱلمحدُود، ما لمْ تُفجِّرْ حَرَكِيَّةً تُقرِّب وتُدْمِجُ -بشكل تَكامُلِيٍّ وتَزامُنِيٍّ- بين كُلِّ مُكوِّنات وطاقات هذه ٱلأُمّة، حتّى تَصِيرَ فاعِلًا ومفعولًا في آنٍ واحد لجِمَاع ٱلإنتاج ٱلِاجتماعي وٱلتاريخي ٱلذي تَكُون ٱللغة أَدَاتَه ٱلبَانِيَة ووسِيلَةَ ٱشتغاله ٱلمُحرِّكة. ومن المؤكد أنّ "ٱللِّسان ٱلعربي"، بِصورته ٱلحاليّة، لا يَملِك ٱلقابِلِيّةَ ٱلمطلُوبةَ لِلِاكتساب وٱلِاستعمال في مجموعة بشريّة تُقَارِب أربعَمِئَةِ مِلْيُون نَسَمة. فلا بُدَّ، إذن، لإِنجاح عَمل "ٱلتَّعريب" ذاك من إنجاز خُطَّة تَثقيفية وتعليمية تَستنِد إلى مُعْطيَات حقيقية تَخُصُّ ٱلواقع ٱلبشريّ ٱلعامّ للناس ٱلمُستهدَفِين وتَعتمِد برامجَ تِقْنيّةً مُدقَّقةً ومنهجيّةً مُستجدّة وحَيَّة في ٱلتعليم ٱللُّغوي، وتَقُوم على أُطُر كُوِّنَت بشكل عَمَليّ مُختلِف عن رَتابة وجُمُود ٱلتَّلْقين ٱلمدرسي. وقبل هذا كُلِّه، لا بُدَّ من قيام إرادة ٱجتماعية وقوميّة تَبتعِدُ عن ٱلتَّصوُّر ٱلمدرسانيّ والإراداني لِ"ٱلتَّعريب"، وتَتَجاوَز مَسْعَى ٱلتَّبْسيطات ٱلتَّسايُسيّة وٱلغوغائية ٱلتي تَختزِل ٱلمشكلة في إرضاء نُزُوعات فئوية أو ظرفية بواسطة ما يُسمّى "حَمَلات مَحْو ٱلأُمِّيَّة"، وهو ٱلمسعى عَيْنُه ٱلذي يُوشِك أنْ يُنْهِي نصف قرن من ٱلتَّخبُّط دون جدوى. إنّ إخراجَ "ٱلتَّعْريب" من مَآزِقه يَقتَضِي إعادة ٱلنَّظر فيه بِتَصوُّره، بالأساس، كتدبير راشد وٱستراتيجي لواقِع مُتعَدِّد ومُتبايِن في لُغاته ولَهَجاته بسبب تعدُّد ٱلأسباب ٱلفاعلة فيه تاريخيا وٱجتماعيا وثقافيا. وإلّا، إذا كان ٱلمقصود ب"ٱلتعريب" هو فقط جعل "ٱللِّسان ٱلعربي" لِسانًا يُدرَّس في ٱلمدارس وتُحرَّر به ٱلوثائق وتُلقَى به ٱلخُطَب وتُنْشَد ٱلأناشيد، فهذا أَمْرٌ مُتَحقِّقٌ بِلا مُنازِع. لكِنَّ "ٱللِّسان ٱلعربي" يبقى، رغْمَ ذلك كله، بعيدا عن ٱلحياة ٱلعامّة ومُنهزِمًا أمام زحف ٱلألسُن ٱلأجنبيّة، لأنَّ "ٱلتَّعْريب" -ٱلذي طَالَما دُوِّخْت به رُؤُوسُنا- ظَلَّ أعجميًّا مُنْطلَقُه حِفْظ "ٱللِّسان ٱلعربيّ" في ٱلأَعالي، ومُنْتَهاهُ تَرْكُ ٱلأمر كما كان مُنذ زمن بعيد: طُوفانٌ مُحيطٌ ومُكْتسِحٌ من "ٱلبَلْبَلة ٱللُّغوية" ٱلتي ليست، في ٱلحقيقة، سوى تَجَلٍّ لسوء تدبير أنواع ٱلتفاوُت ٱلراسخة في ٱلبنيات ٱلمادية وٱلرمزية ٱلمتعلقة بكل ٱلمجتمعات، وليس فقط ٱلخاصة بالمجتمعات ٱلعربية ٱلتي لا تتميز إلا بفشلها في تأسيس سيرورة للتدبير ٱلراشد لأنواع ٱلتفاوُت تلك! وبناء على ذلك، يَتبيَّن ٱلسُّخف ٱلكبير في كثير من ٱلمحاولات ٱلتي لا تفعل شيئا سوى ٱلإصرار -في معظم ٱلأحيان من دون وعي لعدم تحقُّق أصحابها بمعرفة كافية بشروط ٱلضرورة ٱلاجتماعية- على تغذية نوع من "ٱلفِكْرى" أو "ٱلطُّوبى" ٱلتي تَنظُر إلى مشكلات ٱلتعدُّد وٱلاختلاف كما لو كانت مشكلات خاصة ب"صراع هُوِيّات" أو "تمايُز أقوام" وٱلنزوع، من ثم، إلى تشييد توهُّمات تُراوِح بين ٱضطرابات ٱلقلق ٱلهُوِيَّاني وتَعصبُّات ٱلِانطواء ٱلقَوْمَاني، وهي ٱلِاضطرابات وٱلتعصبُّات ٱلتي تَزيد تلك ٱلمشكلات تعقُّدا، فتُعمِّقُ بذلك مُعاناة ٱلمستضعفين ٱلواقعين ضرورةً تحت وطأة قانون ٱلسيطرة ٱلِاجتماعية ٱلتي لا سبيل للانفكاك عن شيء من إكراهاتها إلا بمُناهَضتها علميا وعمليا على أساس ٱلتمكُّن من معرفة ٱلنوابض ٱلمُقوِّمة لِما تتَّسِم به من حتمية تَنْزِل على عامة ٱلناس كما لو كانت أقدارًا عمياء لا تَعرِف رحمةً ولا رأفة ولا تُرَدّ لها مشيئة. [email protected]