منذ بضع سنوات، أخذ بعض ٱلمغاربة من ٱلمثقفين وٱلصِّحافيين -على غرار كثير من أمثالهم ٱلمشارقة- يستسلمون في أحاديثهم وكتاباتهم لاستعمال ٱللغة "ٱلعامّيّة" (لغة عامة ٱلناس كلغة تفتقد "ٱلتنميط ٱلمعياري" و"ٱلتثبيت ٱلكتابي" وتخضع، من ثم، ل"ٱلابتذال ٱلفردي وٱليومي" ٱلذي يجعلها تتسم تداوليا وٱجتماعيا ب"ٱلتدنّي")، وهم في معظمهم من ٱلذين وَجَدوا أنفسهم قد صاروا عاجزين -بهذا ٱلقدر أو ذاك- عن ٱلاستعمال ٱلقويم للسان ٱلعربي بالكيفية نفسها ٱلتي يفرضها عليهم ٱستعمال أحد ٱلألسن ٱلمُهيمنة عالميا ("ٱلإنجليزية" أو "ٱلفرنسية" أو "ٱلإسبانية"). ولقد كان نُظراؤهم قبل ذلك مُضطرين -بفعل شروط موضوعية مرتبطة بمقتضيات مجالات ٱلتعليم وٱلثقافة وٱلإعلام- إلى ٱكتساب وحفظ ٱلاستعمال ٱلقويم لِلِّسان ٱلعربي، بالخصوص من جراء ٱلتحدّي ٱلمرتبط بأحد ٱلألسن ٱلأجنبية. وشيئا فشيئا صِرْنا نرى كيف أن بعض ٱلصِّحافيين وٱلكُتّاب قد أخذوا يَستخفُّون بقواعد ٱلنحو وٱلبلاغة ٱلعربيَّيْن إلى حدّ مُضاهاة "لَحْن ٱلعامّة". فلا غَرو، إذن، أن ينتهى ٱلأمر بكثير منهم إلى أن يستعيدوا -شِفاهيا وكتابيا- كثيرا من ٱلتعابير ٱلعامّيّة، حتى قام ٱلتنافس بينهم في ذلك فلم يعودوا يكتفون باستعمال لفظٍ أو عبارة من "ٱلعاميّة" لغرض توضيحي أو ٱستدلالي ما، بل صاروا يَتبارَوْن في ٱنتقاء ألفاظ منها ووضعها عناوين لمقالاتهم. تُرى، ما معنى أن يتكلم ٱلمرء "ٱلعامّية"؟ وما حقيقة ٱلدعوة إلى ٱستبدال "ٱلعاميّة" مكان "ٱلفصحى"؟ إنه لمن ٱلعجيب، ٱبتداء، أنْ نجد أنّ "ٱلعامّيّة" (« langage familier/populaire/argotique ») تُسمّى لدى ٱلمغاربة ["دَارِجة"]، وهي تسمية تُؤكد -في آن واحد- ٱعوجاجا في ٱللسان وقِلَّة فقه في علم ٱلعربية. ذلك بأن "ٱلدَّرْج/ٱلدُّرُوج/ٱلدَّرَجان/ٱلدَّرِيج" أسماءٌ تدل، في ٱللسان ٱلعربي، على ثلاثة معان: أولها، "ٱلمَشْي ٱلضعيف وٱلمُعوجّ" (وهو سيرُ أو دبيبُ ٱلضَّبّ وٱلصبِيّ وٱلشيخ، ٱلقريب من ٱلعِوَج كسَيْر "ٱلدَّرَّاج" ٱلذي هو "ٱلقُنفُذ"، أو كطائر "ٱلدُّرّاج"، أو كما يمشي من يَصعَد في سُلَّمٍ ذي "دَرَج" أو "دَرجات")، وثانيها "ٱلموت/ٱلانقراض" (وهو مُضِيٌّ فيه ٱعوجاج وٱرتداد مُضاعَف: إذ بالموت يَرجع ٱلمرء دَرَجَهُ ٱلحقيقي لَفًّا وطَيًّا، وبه ينحني رأسُه وسائر جسمه كذلك!)، وثالثها "ٱللفّ/ٱلطيّ" (بمعنى "ٱلإدراج" و"ٱلإدخال"). فصفةُ "ٱلدَّارِج" (ومؤنثُها "دَارِجة") تدل، إذن، على «ٱلسائر بضعف وعلى عِوَج» أو «ٱلميت/ٱلمنقرض» (يُقال: "قبيلة دَارِجة"، أي "إذا ٱنقرضت ولم يبق لها عَقِب") أو «ٱلمَلْفوف/ٱلمَطْوِيّ» (يُسمّى ٱلتراب ٱلذي تَلُفُّه ٱلرياح وتُغشِّيه "دَارِجا"، وتُسمَّى ٱلخِرْقة ٱلملفوفة "دُرْجَةً"). ولذا، فإن تسمية "لغة ٱلعامّة" كما يفعل ٱلمغاربة ب"ٱلدَّارجة" تسمية تَنْضَح وصمًا وقدحًا بخلاف ما يظنه كثيرون! ولعل تلك ٱلتسمية جاءت ترجمةً للعبارة ٱلأجنبية (« langage courant/current use »)، حيث تَوهَّم ٱلمترجمُ ٱلعربي -كما هي عادته- أن صفة («courant/current ») ٱلتي معناها ٱلحقيقي "جارٍ/سائر" تقبل أن يُؤدَّى معناها ٱلمجازي ("ٱلعادي"، "ٱلعامّ"، "ٱلمألوف"، "ٱلحاضر") بصفة "دَارِج/دَارِجة"! ويتعزز هذا ٱلخطأ بآخر من خلال ٱلتعبير ٱلشائع: ["دَرَج على ٱلشيء"] بمعنى "ٱعتاده" (بل، بفعل ذلك، صار يُعَدّى هذا ٱلفعل بأداة لا يُعدى بها في ٱلأصل: ["تعوَّد/ٱعتاد عليه"]!)، في حين أن فعل "دَرَج" أو "دَرِج" إذا تَعَدّى ب"على" لا يُفيد سوى "سار عليه صُعُدا"، أي "مشى على دَرَجه أو درجاته"! ومثل هذين ٱلخطأين كثير على ألسنة وأقلام مُستعمِلي ٱللسان ٱلعربي ٱلمعاصرين. ومن هنا، يظهر أن "لغة ٱلعامّة" (ٱلتي تُسمّى بتغليب ٱلصفة ٱلنَّسَبيّة "عامّيّة") ليست، في مقابل لغة ٱلخاصّة، سوى جملة من ٱلاستعمالات ٱلمُعوجّة ٱلتي تجري وتسير على ألسن عامة ٱلناس، من حيث إنها تفتقد "ٱلضبط" و"ٱلتهذيب" ٱللَّذين تخضع لهما ٱللغة في ٱستعمالها من قِبَل "ٱلخاصّة" (ٱلشعراء وٱلأدباء وٱللغويين وٱلمفكرين). لكن، حينما تصير "ٱلخاصة" نفسها واقعةً في ٱللحن على ذلك ٱلنحو، كيف تتميز في لغتها عن "ٱلعامة"؟ إن ٱستعمال ٱلمغاربة -بمن فيهم ٱلمثقفين وٱلمتعلمين- لصفة "دارجة" في تسمية "لغة ٱلعامّة" (من حيث كونها "جاريةً" و"سائرةً") إنما هو تأكيد لفكرة أن ٱللغة تُؤخَذ في جريانها وسَيْرها على ٱلألسن أو سَريانها بين ٱلناس، وهو تأكيد لا يلتفت إلى أن ٱلاستناد إلى مجرد ٱلاستعمال (كسيْر عادي) لا يَكفُل لِلُّغة أن تكون جديرة بالاعتماد وفقط بصفتها تلك، لأن هذا "ٱلسير ٱلعادي" لا يَنْفكّ -في ٱلغالب- عن قليل أو كثير من ٱلاعوجاج وٱلابتذال وٱلتفلُّت. ولذا، إذا كان لا بد من حفظ تسمية "ٱلعامّيّة" ب"ٱلدارجة"، فإن أبرز ما يبدو منها -على أساس هذه ٱلتسمية- إنما هو جوانبها ٱلسَّلْبية كلغة يَغلِب عليها ٱلابتذال وتخضع لانجرافات ٱلاستعمال ٱلعفوي وٱلتلقائي كما يتعاطاه ٱلأفراد من حيث إنهم يتصورون أنفسهم متكلمين أحرارا أو مُتحرِّرين من القيود الخاصة والمُخصِّصة للاستعمال. ومن ثم، فإن أول ما يَجدُر لَفْت ٱلانتباه إليه هو أن "ٱلعامية" تُمثِّل ٱلمحيط ٱللغوي ٱلذي يَسبح فيه متكلمو مجتمع ما، وأنها ليست في ٱلواقع ٱلفعلي "عاميّة" واحدة ومُحتَتِنة، بل هي "عامّيّات" متعاقبات ومتجاورات ومتنافرات، بفعل شتى عوامل ٱلتغيُّر وٱلتعدُّد ٱلتي تجعل ٱستعمال ٱللغة يَتحدَّد أساسا ك«لانهائية من ٱلتغايُر». وعليه، فلا لسان من ٱلألسن ٱلمعيارية في ٱلعالم كله يُمكنه أن يقوم في صورة نسق مُنقطع أو مفصول كليّا عن محيطه ٱللغوي ٱلعامّي. ولذا، فإن ٱلذين يَدْعُون أو يبتهجون لاستعمال هذه "ٱلعامية" أو تلك لا يفعلون شيئا سوى أنهم يُؤكدون مدى جهلهم أو تجاهُلهم لواقع ٱللغة ٱلبشرية بما هي قدرة على ٱلكلام مشروطة بكل عوامل ٱلوجود ٱلاجتماعي وٱلتاريخي للإنسان في تعدُّدها وتغيُّرها. وبالتالي، فكل جماعة لغوية تُعدّ في ٱلواقع جملة من ٱلإمكانات وٱلاختيارات ٱلقائمة على ٱلتنازُع ماديا ورمزيا بشأن ٱلنوع ٱلمشروع من ٱلاستعمال. ومن هنا، تأتي أهمية مفهوم "ٱلرأسمال ٱللغوي" (كما بناه "پيير بورديو" على ٱمتداد تحليلات طويلة وشديدة ٱلخصوصية) في صلته ٱلوُثقى وٱلدائمة ب«سوق معينة» لها مُنتجِوها وأرباحها، كما لها إنتاجاتها بأثمنة مُحدَّدة لمستهلكين خاصِّين ضمن مجموع أنماط ٱلتبادل ٱلتي يُميَّز فيها بين من يملك ٱلكثير وبين من لا يملك إلا ٱلقليل (أو لا شيء) مما له قيمة تداولية، بشكل يجعل ٱلمتكلمين وٱلمتخاطبين، على مستوى مجال اجتماعي معين، ينقسمون بالضرورة إلى "مسيطرين" و"مسيطر عليهم". وهكذا، نجد أنه حتى لو أمكن ٱستعمال عاميّة واحدة في مجال ٱجتماعي أو ثقافي معين، فلن يخلو ٱلأمر من أن يكون ٱستعمالا خاصا بنمط مشروع من أشكال ٱلتكلُّم على نحو يجعل فئات ٱلمتكلمين ٱلمعنيّين تنقسم بالضرورة (هي ضرورة ٱجتماعية و، من ثم، تاريخية وثقافية) إلى مُسيطرين ومسيطر عليهم. وإنه لمن ٱلتوهم المحض أن يظن ٱلمرء أن عامة ٱلناس بلغتها ٱلعامّيّة تُمثل كتلةً ٱجتماعية وثقافية يَشيع بالتساوي بين كل أفرادها ٱلحق في ٱلكلام ووسائل ٱلكلام ٱلنافذ وٱلمشروع. وهذا ٱلظن هو وحده ٱلذي يُمكنُه أن يُظهِر ٱلدعوة ٱلمبتهجة إلى ٱستعمال ٱلعامّية كما لو كانت نوعا من ٱلنضال ٱلفعلي في سبيل إقرار ٱلحق في ٱلاستعمال ٱلمتساوي وٱلمتكافئ للخيرات ٱللغوية. غير أن ذلك ٱلظن، وٱلتوهم ٱلذي يُصاحِبُه ويَسنُده، ليس بشيء من ٱلناحيتين ٱلسوسيولوجية وٱلأنثربولوجية. إذ أن ٱللغة موضوع للتنازُع وٱلتفاوُت و، بالتالي، ٱلتمايُز مَثَلها كمَثل كل ٱلخيرات ٱلمادية وٱلرمزية في كل ٱلمجتمعات ٱلبشرية. وفيما وراء ذلك، يبقى أن ٱلطريق ٱلمؤدي إلى ٱلإنصاف في توزيع ٱلحق في ٱلكلام ٱلمشروع إنما يَمُرّ عبر سيرورة طويلة ومُضنية من تَعرُّف ٱلمنطق ٱلعملي ٱلذي يَحكُم أشكال ٱلتبادل ٱلرمزي وٱلثقافي (ٱلتي يُعدّ "ٱلتبادل ٱللغوي" أحدها، من دون أن يكون ٱلأهم دائما) في إطار نوع من ٱلاقتصاد ٱلاجتماعي ٱلشديد ٱلتعقُّد، بحيث لا إمكان لامتلاك ٱلحق في ٱلكلام ٱلمشروع (بالتمكن من وسائله ٱلمناسبة) إلا بإقامة ممارسة علمية وعملية تُتيح تحصيل ونشر وسائل مقاومة ٱلعنف ٱلرمزي ٱلمرتبط بذلك ٱلقَبُول ٱلمتواطئ لأشياء تُعدّ ٱعتباطية في ٱلأصل، وهو ٱلقَبول ٱلذي يَحصُل بفعل ميل كل شيء في حياة ٱلناس إلى جعل ٱلأمور تَفرِض نفسها ٱجتماعيا وثقافيا كما لو كانت طبيعية وبديهية. ومثل ذلك ٱلفتح وٱلانفتاح لا يمكن أن يتأتى بمجرد ٱلخضوع لِلُّغة ٱلعامّيّة كما يدعو إليها ٱلغوغائيون ٱلمبتهجون. فما يجعل ذلك ٱلانفتاح ممكنا إنما هو -بخلاف ٱلظن ٱلشائع تماما- ٱلانقطاع ٱلمنهجي وٱلمعرفي عن ٱلاستعمال ٱلعامّي، وهو ٱلانقطاع ٱلذي لا يكتمل في الحقيقة إلا بانقطاع آخر عن لغة "ٱلخاصّة" نفسها كلغة مدرسية (بل "مَدْرَسانيّة") تَمِيل إلى تعزيز جملة من ٱلانحرفات وٱلتضليلات ٱلتي تَحجُب ٱلمنطق ٱلنقيض ٱلمتعلق بالحس ٱلعملي في تناقضه وٱلتباسه وتواطُئِه. وفي ٱلمدى ٱلذي تُعدّ "ٱلعامية" سيرورةً ٱجتماعية وثقافية قائمة على ٱلاعوجاج وٱلابتذال في ٱستعمال ٱللغة (بفعل ٱلتوزيع ٱلمتفاوت لكل ٱلخيرات، وليس فقط ٱلخيرات ٱلثقافية وٱللغوية)، فإنها تتحدد ك"تَعْمِيَة" (تَعْدِيَة صفة "ٱلعامّيّ" إلى ٱللغة وٱلثقافة) بنحو يجعلها تتضادّ مع "ٱلتفصيح" و"ٱلتهذيب" ٱللذين هما مناط ٱستعمال "ٱلخاصّة" لِلُّغة وٱلثقافة في إطار سيرورة لطلب وبناء "ٱلكُلّي" لغويا وثقافيا، طلب وبناء يتحققان هما أيضا تنازُعيا وتناسُبيا وَفْق ٱلشروط ٱلمُحدِّدة لكل مجال من مجالات ٱلعالم ٱلاجتماعي. إن ٱلاستعادة ٱلشعبانية وٱلغوغائية ل«ما هو عامّي أو شعبي» لا تنفصل عن صيرورة كاملة تَطبَع ٱلفترة ٱلمعاصرة (ٱلفن، ٱلأدب، ٱلغناء) وتقود إلى أن يُنظَر إلى "ٱلعامّي/ٱلشعبي" كما لو كان يُمثِّل "ٱلأصيل/ٱلأصلي" على ٱلمستوى ٱللغوي وٱلثقافي، بحيث يصير سهلا ٱلميل إلى ٱمتداحه وٱلاحتفال به بعيدا عن كل تَبيُّن نقدي. لكن "ٱلعامّي/ٱلشعبي" كنتاج ٱجتماعي وثقافي لا يَحدُث وفق معايير ٱلمعقولية ٱلمتعارفة، ولا يملك أن يكون نتاجا واحدا ومُتَّسقا، مما يجعله بالتالي أبعد عن أن يكون تعبيرا أشد أصالة وٱبتكارا من غيره (غيره ٱلذي يُوصف، عادةً، بأنه مُصطنَع ومُتكلَّف). وإذا كان من ٱلمقرر أن ٱلكلام ٱلبشري قائم على مبدإ "ٱقتصاد ٱلجهد"، وهو ٱلمبدأ ٱلذي يقود إلى تفضيل "ٱلخِفّة" على ٱللسان في كل ما يُلفَظ به، فمن ٱلمؤكد أن مبدأ "ٱلتخفُّف/ٱلتخفيف" سرعان ما يَؤُول في واقع ٱلاستعمال إلى "ٱلاستخفاف"، حيث لا يتكلم ٱلناس فقط باعتماد "ٱلسَّماع"، بل إنهم يظنون أن "ٱلسَّماع" يُقبَل من أي ناطق. ومن ثم، نجد أن ٱللغة تُستعمَل أساسا وَفْق مبدإ "ٱلمُحاكاة" ٱلذي يجعل ٱلمتكلمين يُحاكي بعضهم بعضا بفعل "ٱلعادة" ٱلتي تَستحكم فتتحول إلى مُحاكاة أشبه بالاشتغال "ٱلطَّبْعي/ٱلطبيعي" (مُحاكاة آلية). غير أن ضرورة "ٱلتميُّز" تقتضي ٱلخروج من "ٱلمُحاكاة" وطلب "ٱلتفرُّد". ومن هنا، نجد أن بعض ٱلمتكلمين ممن يريدون "ٱلتميُّز" لا يفتأون يطلبون "ٱلتجديد" و"ٱلابتكار" من خلال ٱستحداث تعابير غير مسبوقة (وغير مسموعة)، وهو ٱلتوجُّه ٱلذي يقود إما إلى "ٱلانزياح" ٱنحرافا عمّا هو سائد أو معتمد (مثال ["درج عليه"] و["ٱعتاد/تعوّد عليه"] و["لغة دارجة"])، وإما إلى "ٱلإغراب" بالاستكثار من ٱستعمال "ٱلغريب" من الألفاظ والتعابير. ولذا، فإن من يستعمل ٱللغة في حديثه أو كتابته بنوع من ٱلاستسهال وٱلاستخفاف لا يستطيع أن يقف في وجه ٱلانحراف وٱلتحريف "ٱلعامّي"، بل إنه ليَحفَظ وضع "ٱلتدنّي" و"ٱلابتذال" فيُسهِم بذلك في تعميق واقع ٱلسيطرة على نحو يزيد من مُعاناة ٱلمستضعفين على كل ٱلمستويات. لذلك، فإن ٱلفرق بين من يُدافع عن "ٱلعربية ٱلفُصحى" على غرار "ٱلشَّعْبانية ٱلمُحافظة" (مثال "نينّي" ويومية "ٱلمساء") وبين من يدعو إلى "ٱلعامّيّة" على شاكلة "ٱلشَّعْبانية ٱلمُتحرِّرة" (مثال "بنشمسي" وأسبوعية "نيشان") ليس سوى فرق شكلي وسطحي: ٱلأول يَعرِض نفسه مُدافعا عن "هوية مُهدَّدة"، وٱلآخر يُقدِّم نفسه مُناضلا في سبيل "حق مُضيَّع" ؛ وهما معا يتناولان ما يُنافحان عنه بمنطق تشييئي وتسليعي يُريدان به أن يكون لكل منهما حصريا أو بالامتياز حق ٱلتصرف فيه بما يخدم أغراضه ٱلخاصة على مستوى ٱلنجاح ٱلمادي و/أو ٱلرمزي. فلا "ٱلعربية ٱلفصحى" ترقى عند ٱلأول إلى مستوى "ٱلحق ٱلمَدَنِي" في ٱللغة ٱلمشروعة، ولا "ٱلعامّيّة" تستوي لدى ٱلآخر ك"مُكوِّن تاريخي" ل"هوية متعددة". وهذان ٱلخصمان كلاهما ليسا خصمين إلا لأن ٱلأول صاحب حِصّة كُبرى من سوق "ٱلعربية ٱلفصحى" تُعدّ -لأسباب موضوعية لا يُراد ٱلاعتراف بها- مُمتنِعة على ٱلآخر ٱلذي لم يكن يجد بين يديه وسيلةً أخرى لانتزاع حصته من تلك ٱلسوق سوى "ٱلفرنسية" ٱلتي تبقى محدودة في زبائنها وٱلتي صارت مُضطرّة للتراجع أمام نوع من "ٱلعربية" يَتحدَّد ك"عربية فصيحة" (فصيحة بدرجة أو درجتين، أي مُتفاصحة بصعوبةٍ وكَأْد، بحيث لا تستطيع أن تُثبِت فصاحتَها إلا بالتذكير ٱلدائم بامتيازها عن "ٱللغة ٱلدنيا"!)، وهي عربية تتعارض -على ٱلأقل ظاهريا- مع "ٱلعربية ٱلعامّيّة" ٱلتي لا تملك أن تَعرِض نفسها بتلك ٱلصفة (كلغة فصيحة) ؛ غير أنها كانت ولا تزال تُمثِّل لسانا وسيطا يَجمَع أطراف ألسن شتى، بل إنها في ٱلواقع ٱلفعلي تُعَدّ لسان من فَقَد إمكان ٱلتمتُّع باللغة ٱلمشروعة (سواء أكانت فرنسية أم عربية)، مما يجعله لسان ٱلأكثرية (لسان عامة ٱلناس ٱلذين لا يخفى أنهم يُمثِّلون سوقا أكبر من سوق "ٱلعربية ٱلفصحى" نفسها و، من ثم، تتجلى أهمية ٱلرهان بالنسبة لِدُعاة "ٱلتَّعمية"!). ومن ٱلبَيِّن أن "ٱللغة" -سواء أكانت فُصحى أم عامية- لا تتجلى بأحد ذينك ٱلوجهين إلا بالنسبة إلى من أمكنه أن يَخرُج (أو يُخرَج)، بهذا ٱلقدر أو ذاك، من ٱستعمالها ٱلعامّي فيتمكن بذلك من ٱلانخراط ضمن زُمرة "ٱلمسيطرين" ٱلذين يصعب عليهم أن يقتسموا حظهم من ٱللغة ٱلمشروعة مع ٱلمَحرومين من دون ضمان جَنْي أرباح خاصة يمتنع أن تكون كذلك إلا من حيث إنها تأتي على حساب من يُقدَّمون كضحايا يجب أن يُدافَع عنهم (وعن قضيتهم النبيلة)! لكنّ ما يَغفُل عنه أصحاب "قضية ٱلشعب" هو أن ٱلقيام ٱلفعلي بمُهمّة ٱلدفاع تلك يتطلب بالأساس ٱلخروج من مقتضيات "ٱلشَّعْبانية" (كانتظارات وتوهُّمات) ومن أُطُر "ٱلنخبوية" (كآليات وتحريفات)، وهو ٱلخروج ٱلذي ينبغي أن يتحقق كانقلاب مُضاعَف يَنقُل ٱلتفكير ٱلعامّي من حَمْأة "ٱلإغراض" إلى مستوى ٱلتفكير ٱلنقدي، ويتحول بالتفكير ٱلعالِم من وقاحة "ٱلإعراض" ٱلمستقيل إلى نوع من ٱلالتزام ٱلذي يَنهض بمُقاومة آثار ٱلسيطرة من دون ٱلخضوع للاستعجال ٱلمُتسايِس أو ٱلإذعان للاستسهال ٱلمُتفاحِش. وفقط في هذه ٱلسياق، يمكن أن يكون ٱلدفاع عن ٱلحق في ٱللغة ٱلمشروعة دفاعا عن قضية تَخُصّ ٱلمحرومين فيما وراء ثنائية "عامّة/خاصّة" أو "شعب/نُخبة"، لأنه يكون حينئذ دفاعا عن حقوق ٱلمُواطن كفاعل ٱجتماعي مُعرَّض -بفعل ٱلضرورة ٱلاجتماعية وٱلتاريخية- لآثار ٱلسيطرة وما يُلازمها من عنف رمزي على كل ٱلمستويات (ٱقتصاديا وثقافيا ولغويا وسياسيا). من أجل ذلك، فإن ما يَجهله دُعاة "ٱلتَّعمية" بين ظَهْرانَيْنا إنما هو كون كل لسان من ٱلألسن ٱلقائمة في ٱلمجتمعات ٱلمعاصرة تُحيط به مجموعة من "ٱللُّغَيّات ٱلعامية"، ٱلتي هي لُغيّات قد تكون مرتبطة به وقريبة منه (كما هو حال ٱلعاميات "ٱلعربية"، بل ٱلعاميات ٱلأمازيغية أيضا في ٱلمدى ٱلذي تنتمي إلى نفس ٱلمجموعة ٱللغوية، أي مجموعة ٱلألسن "ٱلأفريقية-ٱلأسيوية")، وقد تكون منفصلة عنه ومُغايِرة له (كما هو ٱلحال بالنسبة إلى "ٱلفرنسية ٱلمعيارية" في علاقتها بعاميّات جهوية أو فئوية، وحال "ٱلإسبانية" بالنسبة إلى لُغيّاتها ٱلعاميّة وٱلجهوية أو ٱللغة "ٱلباسكية"، وٱلحال نفسه يصدق أيضا على "ٱلإنجليزية" و"ٱلألمانية"). وكون "ٱلعربية ٱلفصحى" تُوجد في محيط من ٱللُّغيّات ٱلعامية ٱلتي تشترك معها في كثير من ٱلمُكوِّنات ٱلصوتية وٱلمعجمية وٱلتركيبية، يجعلها "لسانا ذا عاميّات"، بحيث لا يُخاف عليه منها بقدر ما يُخاف عليه من ألسن مُنافِسة أهمها "ٱلفرنسية" و"ٱلإنجليزية" و"ٱلإسبانية" ٱلتي تتحدّد تاريخيا وثقافيا كألسن ذات توجُّه توسُّعي وهيمني. وهكذا، فإن ٱلدعوة إلى ٱلتخلِّي عن "ٱلعربية ٱلفصحى" وٱعتماد "عاميّة" من عاميّاتها ليست فقط عملا على تكريس نوع من ٱلسيطرة ٱللغوية وٱلثقافية ٱلتي لن تكون إلا خاصة بجهة معينة وبفئات ٱجتماعية مُحدَّدة، وإنما هي في ٱلعمق إقرار بفشل ٱلمؤسسة ٱلمدرسية، وهو ٱلفشل ٱلذي يَؤُول إلى فشل لنظام ٱلمؤسسات ٱلخاص بالمجتمع كله. وبذلك، فإن ٱلدعوة إلى "ٱلتَّعمية" تُعبِّر عن تبرير لاستقالة "ٱلدولة" من إحدى مَهامّها ووظائفها ٱلكبرى: ٱلعمل على إيجاد نظام مُؤسَّسي يَكفُل تكافُؤ ٱلفرص بالنسبة لكل ٱلمواطنين من أجل بُلوغ ٱلنمط ٱلمشروع لغويا وثقافيا. ولذا، فإن هذه ٱلدعوة تُعدّ دعوة مُوغِلة في ٱلتَّسييب وٱلتضليل ومُضيِّعة، من ثم، للحقوق ومُثَبِّتة لإحدى دعائم ٱلسيطرة ٱلاجتماعية بكل تجلياتها: زيادة حرمان ٱلمستضعفين بتركهم في حدود وسائلهم ٱلمحدودة ماديا ورمزيا، وذلك باسم نوع من ٱلتضليل ٱلشَّعْباني وٱلغوغائي ٱلذي يستفحل ويتواقح في إطار ٱلارتكاس ٱلعام للمجتمع وٱلثقافة وٱلاقتصاد في عصر تتعولم "ٱلأزمة" وتَبِعاتُها أكثر مما تتعولم "ٱلنهضة" ونوابضُها! [email protected]