الجدل الذي نشأ عقب خطاب الانفصالية الإسلامية يوفر فرصة رسم ملامح معركة النفوذ والمصالح الجارية بالبحر الأبيض المتوسط منذ فترة ليست بالقصيرة. في الغالب تصور هذه المعركة في بلدان الضفة الشرقية والجنوبية للمتوسط تحديدا كأنها صراعا حضاريا لاهوتيا يستهدف الإسلام والمسلمين. الحق أن التكرار والنشر المستميت لهذه الصورة تجعل المرء يراها كحقيقة ثابتة. جرى توجيه مدفعية النقد تجاه الرئيس الفرنسي ماكرون بحجة تبني رسومات الكاريكاتير وذلك بعد جريمة قتل المدرس الفرنسي. يمكن بسهولة شديدة الاقتناع بهذه الحجة ما لم يتم الانتباه إلى التسلسل الزمني للوقائع. فلئن كانت جريمة قتل المدرس الفرنسي وقعت من دون أدنى تدبير رسمي مسبق، إذ صدفة رغبة بيداغوجية في تعليم كنه وجوهر حرية الرأي والتعبير أفضت إلى ارتكاب المحظور من طرف مراهق، فإن المسارعة الرسمية إلى التنديد بها جاءت فقط بعد أسبوعين عن تلاوة خطاب الانفصالية الإسلامية. فضمن هذا الإطار، كانت هذه الجريمة المروعة دليلا ساطعا على صوابية التشخيصات الواردة بالخطاب حيث تضّمن، أيضا، الإشارة إلى المراهقين. من جهة أخرى، يمكن أن نعتبر حكم سيطرة الهاجس الانتخابي على ماكرون بأنه متسرع إلى حد ما إن لم نقل غير صحيح تماما. طبعا لا داعي للتذكير أن من حق جميع الرؤساء السعي إلى إعادة انتخابهم. ماكرون لا يشذ عن القاعدة. لكن الاقتصار على فكرة الهاجس الانتخابي من شأنه أن يحجب رؤية المشهد كاملا: الحقيقة أن ماكرون يبلور مشروعا سياسيا طموحا يسعى من خلاله إلى ضمان تموقع جديد ومتميز لفرنسا في خريطة جيوستراتيجية متغيرة مطبوعة بالانسحاب الأمريكي المتنامي عن منطقة البحر الأبيض المتوسط. يُنتقد الرئيس الفرنسي أيضا أنه يتصرف على أساس كما لو كان مثقفا أو متفلسفا. الحال أن هذه الفكرة لا تخلو من وجاهة. لكن ما علاقة هذه الفكرة بالمشروع السياسي الطموح القائم على رغبة ضمان وبحث تموقع جديد؟ إن انطباع التباعد وغياب الرابط يتبدد في اللحظة التي نفهم فيها "الانفصالية الإسلامية" في إطار مفهوم الفيلسوف الفرنسي بول ريكور حول "الهوية السردية". الواقع أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يسعى إلى استعمال مفهوم "الهوية السردية"، كما نظّر لها وتحدث عنها ريكور، باعتبارها هوية تقوم على تأويل مستمر ومتواصل للتراث والتقاليد التاريخية التي يعمل أي نظام سياسي في إطارها وعلى هذي أفكارها ومحطاتها التاريخية البارزة. الهدف منها هو تعبئة المجتمع الفرنسي وتعزيز تماسكه بكل أطيافه، في أفق مواجهة تحديات المستقبل، خصوصا على مستوى الابتكار والبحث العلمي والتحول الرقمي والتحولات الجيوستراتيجية التي تجد فرنسا نفسها في كل هذه المستويات متراجعة مقارنة مع بلدان أخرى رائدة. بالإضافة إلى ذلك، هناك الصراع بين القيم "الإسلامية" والقيم "العلمانية"؛ حيث تقر الأولى تعطيل التعبئة لاتكاليتها وإيمانها بإرادة السماء وتدبيرها دون تدخل الفرد، فيما الثانية تشجع فهم المجتمع باعتباره عقدا بين مواطنين وليس مؤمنين قائم على حقوق وواجبات من إنتاجهم، يمنح الإخلال به أو بتوازناته شرعية النضال والصراع. على أن الجميع يتذكر الأخبار التي كانت تخرج دوريا حول علاقة التوتر بين العلمانية الفرنسية مع جملة من المظاهر الإسلامية. ناهيك عن الجرائم الإرهابية، يمكن الإشارة هنا إلى "البوركيني" وحجاب الصغار بالإضافة إلى ظواهر أخرى أشار إليها ماكرون من قبيل التسرب من المدرسة الجمهورية. إن هذه السلوكات والتصرفات يُجمَعُ على اعتبارها تقريبا متعارضة ومخالفة لمبادئ الجمهورية الفرنسية. فمن هنا الحديث عن "هيكلة الإسلام"، بوصفه حجر الزاوية الذي على أساسه سيتم تعزيز "الهوية السردية" الفرنسية. إن الانفصالية الإسلامية، بهذا المعنى، هي مشروع سياسي وفكري يتوخى تجنيب فرنسا شبح دولة داخل الدولة، مع تعبئة المجتمع الفرنسي حول قيم جمهوريته وتقاليدها التاريخية لاستعادة ما يمكن أن يعتبر "أمجادا" ثقافية وعلمية وسياسية. لكن الصدام الذي حصل بين فرنسا ماكرون والمجتمعات الإسلامية-العربية، بعضها بالأحرى، يرجع إلى أن مقتضيات وإجراءات "الانفصالية الإسلامية" تمر عبر تقويض ذلك "المتخيل الإسلامي" الذي يصور دينا إسلاميا مشتركا أبديا وخالدا يُفهم كنموذج العمل التاريخي المثالي المخالف للنموذج الغربي العلماني الإمبريالي، بحسب تعبير محمد أركون. فلئن كانت مشاريع "الإسلام السياسي" تتدخل وتخترق خرائط الدول وتراكم القوة الاجتماعية، سواء في امتدادتها الوهابية أو السلفية أو الإخوان المسلمين كما جاء في خطاب ماكرون، فإنها أصبحت مع الخطوة الفرنسية مهددة في "متخيلها الاجتماعي" الذي يوفر لها تغطية وشرعية العمل السياسي بل والتدخل العسكري. لكن أليس من حق الإسلام السياسي أن يسعى إلى العمل السياسي ومراكمة القوة؟ إن المشكلة الأساسية ليست في الشرعية. ذلك تحصيل حاصل بل ولا يملك أي كان الحق في تقريره. المشكلة الرئيسية تكمن بالدرجة الأولى في طبيعة المعركة كيفما يقدمها الإسلام السياسي. إن "المتخيل الاجتماعي" للإسلام السياسي يحوّل النزاع الاجتماعي كما هو موجود في كل دول العالم، من صراع ونزاع على النفوذ والموارد والتموقع والقيم إلى صراع لاهوتي ديني يستهدف المسلمين والإسلام. أمام هكذا معركة تصير إمكانية الفعل والتدخل مسلوبة من الشعوب لصالح قادة "الإسلام السياسي". بكلمات أخرى، على المدى البعيد الإسلام السياسي معززا بمخيال اجتماعي منتشر هو من سيتحكم في دول المنطقة وشعوبها بشكل كامل؛ بالنظر إلى إخراج الناس من تاريخهم الحقيقي الذين هم وحدهم بقدورهم ترجيح كفته لمصلحتهم ومصلحة بلادهم. خلاصة القول، وبالإضافة إلى ما سبق، يطرح "الإسلام السياسي" صعوبة التساهل مع قيمه بالعمل السياسي لأنها تؤثر سلبا على غالبية الناس الذين يؤمنون بالإسلام ويمارسون طقوسه كدين وليس كإيديولوجيا، منهم بدرجة أساسية أولئك الموجودون بالدول الغربية، علاوة على الزج بمعتقدات أكثر من مليار شخص في اللعب السياسي العلماني بالضرورة واستغلالها لمآرب ومصالح حصرية، ناهيك أن الجرائم الإرهابية هي بشكل أو بآخر نتيجة وتتويج متطرف لإيديولوجيا المتخيل الاجتماعي للإسلام السياسي وليست نتائج جانبية ومعزولة كما تُصور غالبا بالضفة الشرقية والجنوبية للبحر الأبيض المتوسط .