رغم اقترابه من إكمال العقد الثامن من حياته، إلا أن پول دحان ما يزال يحفظ تضاريس فاس التي تعرف إليها أواسط الألفية الماضية، خاصة أن هذه المدينة التاريخية أحاطته بعناية كبيرة أثرت على معاملاته التي امتدت بين الترابين المغربي والبلجيكي. بين دراسة الحضارات القديمة والسيكولوجيا والسوسيولوجيا، تطورت شخصية دحان أكاديميا. وفي تنفيذ برامج ملتصقة بالتعايش والتسامح، استجمع خبرة واسعة، ليتأكد أخيرا بأن الناس لا يمكنهم المضي بأمان نحو الغد دون الاطمئنان لما تزودوا به بالأمس. حاضرة فاس شهدت سنة 1947 ازدياد پول دحان في مدينة فاس المغربية، ولازم الحيز الجديد من "العاصمة العلمية" للمملكة خلال هذه الفترة التي لا يتردد في اعتبارها "عهدا ذهبيا" بالنظر إلى كل مسار حياته بالوطن وخارجه. يقول دحان: "أمضيت تعليمي بين أقسام مدرسة كاثوليكية وأخرى يهودية بحاضرة فاس، ثم التحقت بثانوية المولى سليمان لاحقا. الحياة في هذا الفضاء قربتني من العوالم الثلاثة للإسلام والمسيحية واليهودية". ترتبط مدينة فاس في مخيال پول بأنشطة والده كتاجر معروف في المنطقة الواقعة وسط المملكة المغربية، زيادة على ما خبره في أوائل خمسينات القرن العشرين من ملامسته أولى التعابير السينمائية والثقافية. تحولات اليوم يستدعي پول دحان نوستالجيا الماضي ضمن تساؤلات تعتريه عن الحاضر والمستقبل، ويعلن في هذا الصدد أن "الحاضر يعرف انطواءات هوياتية تجعل الناس بعيدين عن النماذج المختلفة؛ إذ جرى تحول حقيقي من الانفتاح إلى الانغلاق". ويعلن "ابن فاس" أن افتتاح العيش من المغرب جاء بطباع رافقته في كل المراحل اللاحقة من الحياة، ثم يسترسل: "جبت العالم بتركيز على دول اسكندنافيا وغرب أوروبا، ولم أحسّ بأي من مظاهر التيه لأني بقيت عارفا أصلي". "أنا يهودي مغربي قولا وفعلا، وهذا المحدد كانت له أهمية بالغة في انتهائي من التعاطي مع الماضي كي أستثمر جهودي في الأشواط التي تليه. حين غادرت المملكة لم أبحث عن تغيير جلدي خارجها، حريصا على التطور صائنا أسسي"، يزيد دحان. اختيار أرض بلجيكا استقر پول دحان فوق الأراضي البلجيكية سنة 1973، مختارا التواجد بين أفراد هذه البيئة الاجتماعية لما رصده من انفتاح على التعدد، معتبرا أن "البلجيكيين أفضل من الفرنسيين بسبب غياب تعالي الأشخاص ذوي الأصول غير المغاربية". ويفسر المنتمي إلى صفوف الجالية الفكرة بالقول: "عرفت بلدانا عديدة مرحبة بالوافدين عليها، أبرزها مملكة الدنمارك، وفيها ما تعلمناه بالمغرب عن وجوب احترام الآخرين. حتى أثرياء فاس أذكر أنهم كانوا لا يبرزون الثروات مراعاة لنفسيات الفقراء". دخل دحان التجربة البلجيكية من بوابة الإقبال على التكوين العالي في تخصص "علوم المصريات"، مستغرقا سنوات في البحث ضمن بدايات الحضارات الإنسانية القديمة التي أثرت في التحضر الغربي، ثم لازم الاشتغال نفسه في التدقيق ضمن التحولات اللاحقة. مساهمات ميدانية بين "المصريات" والعلوم النفسانية والاجتماعية، بتركيز على الأنثروبولوجيا، اتسعت مدارك پول دحان في مملكة بلجيكا قبل الإقبال على مساهمات عملية ميدانية، ليقرر ربط اشتغالاته اللاحقة بالفضاءات الاجتماعية التي تعتريها مشاكل نفسية واضحة. انخرط السوسيولوجي عينه في برامج عمل مع أطفال "مغاربة بلجيكا"، خاصة الشريحة الكبرى من ذوي الأصول الريفية، رافضا أن يتم توجيههم خلال مرحلة التمدرس إلى تكوينات تعدّهم للقيام ب"أعمال عضلية"، مبرزا أن ذكاءهم لا يمكن الحكم عليه باستعجال. "عملي أكد أننا ملاحقون بالماضي دوما؛ لذلك تعاني الأجيال الجديدة المنحدرة من الهجرة مشاكل هوياتية، ومن خلال التحليل السيكولوجي ترافعت عن تأثر الحاضر بالتراث الثقافي، كما ساهمت قدر المستطاع في منح الأعطاب الاجتماعية زمنا أطول لتشخيصها بدقة"، يقول پول. لمسات ثقافية أنشأ پول دحان مركز الثقافة اليهودية المغربي في بلجيكا، وجاءت الفكرة بعدما رصد أن الجالية المستقرة في هذا البلد تشكو خصاصا في المرجعية التاريخية الواضحة، خاصة أن الغالبية من أسر هاجرت بحثا عن الرزق دون أن تجد وقت كافيا لتداول تاريخ البلد الأم بين أفرادها. بهذا الخصوص، يقول دحان: "حاولت من خلال عملي مع الشباب ملء الفراغ الثقافي. عند التعامل مع ذوي الأصل المغربي من منطقة الريف، مثلا، أبرز تاريخ هذا الفضاء مع ربطه بموروث البلاد كلها، مبتغيا تحقق المعرفة الحقة قبل إبراز الفخر؛ إذ لا يمكن بناء الاعتزاز بالانتماء على أساس الجهل". من خلال المركز ذاته، يحرص پول دحان، منذ سنوات عديدة، على تنظيم معارض تعرف بالمملكة المغربية في مناطق عدة من العالم، محققا ذلك عبر مصنوعات قديمة تسرد مراحل تاريخية مختلفة، ومبينا إبداعات تدل على التقدم في الماضي في مجالات البناء واللباس والتأثيث والطبخ وغيرها. تحضيرات الغد يرفض پول أن ينصب تركيز الأفراد على رهانات شخصية بحتة، قائلا إن الشغل الشاغل لكل جيل يجب أن يلازم تحضير مستقبل أفضل للجيل الذي يليه، ولن يتحقق هذا المسعى إلا عبر الإيمان باستحالة الخلود في هذه الحياة، وأن كل يوم يمضي يقرّب النهايات الفردية مثلما يعلن بدايات جماعية متوالية. كما يذكر دحان أن "التفكير بعيد المدى ينبغي أن يحضر على الدوام، وصورته الوحيدة تتصل بالاشتغال على نشر التوعية بين الأجيال القادمة. من تأثروا لغويا وفكريا وعقيديا في بلجيكا، بسبب استيلابهم في فضاء العيش، يجب إعطاؤهم أدوات للتطور جيدا". ويستحضر الفاعل الأكاديمي والثقافي عينه مسارات المغاربة الذين برزوا في ميادين عديدة خارج الوطن الأم، ليشدد على أن الروح القتالية والسير باجتهاد يمكن أن يخدما الفرد، لكن النجاح الباهر لا تتم معانقته، في معظم الحالات، إلا إذا بني على وعي موسوعي وميل إلى الكتمان. الثراء الصادق يضمن پول دحان إقدام عدد غير هين من ذوي الأصول المغربية في الوصول إلى مراتب اجتماعية مرموقة دون الوقوع في فخ الانسلاخ عن الهوية الأساسية، وحرص هذه النخب البارزة على ملازمة "تمغرابيت" حتى عند الإصغاء إلى الموسيقى أو اختيار الأطباق الغذائية. أما بخصوص المستهلين مسارات الهجرة مؤخرا، خصوصا ضمن الحيز الترابي البلجيكي، فإن من خبر الاستقرار بهذه البلاد نصف قرن يرى الظرفية صعبة ومعقدة خلال هذه الآونة، لذلك يجب على ذوي الأصل الأجنبي أن يقوموا بمضاعفة الجهود أكثر من تلك التي بذلها السابقون. "صحيح أن العيش بكرامة ورفاهية يقتضي الحصول على عائدات مالية محترمة تغطي كل الاحتياجات، لكن المراهنة على جمع المال يجب أن تبقى مسألة ثانوية لدى الشاقين طريق الهجرة.. التميز الدراسي والمهني هو المفضي إلى تحسين الوضعية، وليس العكس"، يختم پول دحان.