صدرت قبل أسابيع، بالولاياتالمتحدةالأمريكية، رواية جديدة للروائي أنور مجيد، اختار لها عنوان "فرصة ثانية في طنجة"، لتحيل على عدة تأويلات، منها "الفرصة الأولى" التي هي فرصة لامين، يحكي قصة السي يوسف، الشخصية الرئيسية، في طنجة في المقهى ذاتها، كما عرضت لذلك الرواية الأولى: "السي يوسف"؛ كما قد تحيل على رغبة راوي "فرصة ثانية" نفسه في العودة إلى طنجة. هذا الراوي الذي كان يهيئ أطروحة دكتوراه، وترك دراسته ليأتي إلى مسقط رأسه، طنجة، ليكتب سيرة لامين نفسه. وتكاد الرواية تمثل سيرة عاطفية وفكرية أو ذهنية للامين، ورحلاته عبر العالم، جغرافيا، مثل جده الطنجي ابن بطوطة، ورحلاته الفكرية عبر النظريات والمعارف.. ويلاحظ أن الصوت الذي استرجعه الكاتب، صوت لامين الطالب بكلية فاس سابقا، وصوت الطالب بأمريكا لاحقا، أكثر غضبا، وثورة، وانخراطا في الفكر من صوت الشباب لامين. أيعود الأمر إلى نضج الشخصية وإيمانها العميق بدور الفكر بل بأهمية الثورة الفكرية في تقدم المجتمعات والتحرر من التقليدانة؟.. ولعل هذا الطابع يكاد يمنح هذه الرواية خصيصة رواية الأجيال كما السابقة.. وكما في كل كتاباته التخييلية السابقة يعنى أنور بالمشاعر أكثر من العناية بالوصف الواقعي، ويعنى بالفكر أكثر من الأحداث.. تجدر الإشارة إلى أن طبعة للرواية ستصدر باللغة الانجليزية بالمغرب، بعد أن توارى الجائحة التراب، مع ترجمة إلى اللغة العربية في بحر السنة القادمة. فرصة ثانية في طنجة في كثير من الأحيان، أذهب إلى لقاء الحياة في حالة شبه وعي، وأنسى التواريخ المهمة بسهولة، كما أنسى ما أتناوله في عشاء خاص، وأسماء الأشخاص، أو شكلهم وكيف يبدون. مندهش أنا دائما من الأصدقاء الذين يتذكرون أنواع السيارات ولوحات أرقامها بمجرد النظر إليها أثناء القيادة. أنسى كل ذلك ما لم يكن بيانا مزعجا يتعارض مع حكمة من الحكمة التقليدية، ولا تسألني أبدا عما قيل وما يرتديه الناس في اجتماع ما، ما لم يتعلق الأمر بقول أو جملة تتعارض مع الحكمة التقليدية المتعارف عليها وتقوضها. الوضع سيئ للغاية إلى درجة أنني في بعض الأحيان أكون أقرأ كتابا أو أشاهد فيلما ولا أذكر شيئا وليست لدي أي فكرة عن المؤلف أو المخرج أو العنوان ذاته. ليس من المؤلم بالنسبة لي أن أتساءل عما إذا كنت شرعت أعرف نوعا من الخرف. لا أريد أن أكون على قيد الوجود عندما قد يحصل ذلك حقا. لكن الحدث الحاسم الذي أدى إلى كتابة رواية "فرصة ثانية في طنجة" سيظل محفورا في ذاكرتي إلى الأبد. في يوم الأحد الموافق للسادس من شهر يناير 2019، انضم إليَّ صديقي وزميلي عبد العزيز (عزيز اختصارا) جدير في نزهة طويلة على طول ساحل طنجةز. كان هدفه مواصلة سلسلة من الحوارات التي بدأها معي منذ عام 2015، ونشر، أحيانا، أجزاء منها في مختلف الصحف والمجلات باللغة العربية؛ ويومها، علمت أنه يكتب سيرتي الذاتية. عزيز هو أحد أكثر الكتاب والقراء إنتاجا بين الذين أعرفهم؛ هو روائي، ومترجم، كتب عن حياة الروائي الأمريكي بول بولز (الذي أقام فترة طويلة في طنجة)، وعن النبي محمد، وشخصيات ثقافية وسياسية بارزة أخرى في المغرب وخارجه. (وقد نشر، قبل أيام، كتابه عن محمود أمين العالم، الكاتب والناقد الاشتراكي المصري الشهير).ولا أعرف، بصراحة، كيف أرد له نظير الاهتمام الكبير الذي يحيطني به بلطف. والغريب في الأمر، أني قد اعتدت على ذلك بعد فترة وأصبحت مسيراتنا والنزهات سيرا على الأقدام في طنجة (بلومرة في باريس خلال أيام) مسرحا لنقاشات وتأملات مسجلة في الثقافة، والسياسة، وحبنا الدائم والأبدي للمغرب. من خلال تجربته الطويلة في الإذاعة، حيث كان يجري حوارات مع كبار المفكرين والكتاب، ومعرفته الواسعة بالأدب العالمي، يمكن للمرء أن يقول إن عزيزا كان الشخص المثالي لاستكشاف تفكيري وسبره، وتشجيعي على متابعة المشاريع الثقافية المختلفة؛ وما ظل يلح عليه ولا يلين عنه، منذ البداية، هو أن أكتب رواية جديدة. كنت نشرت رواية واحدة بعنوان "السي يوسف" في عام 1992 (والتي، لدهشتي المطلقة، تم إدراجها من قبل جريدة "الجارديان" كواحدة من أفضل 10 روايات كتبت عن طنجة)، ولكني كنت توقفت عن كتابة رواية، واستسلمت بعد عدة محاولات لاحقة لكتابة المزيد من الروايات. منقسما كنت بين مشاغل حياتي العائلية والعمل الأكاديمي، إلى جانب المهام الإدارية المتزايدة التي أسندت إلي في جامعتي، وهكذا لم يعد بحوزتي ببساطة ما يكفي من الوقت لتكريسه لكتابة التخييل. وعندما كان أصدقائي وبعض طلاب الجامعات المغربية يسألونني، من حين لآخر، عما إذا كانت لي خطط لكتابة رواية جديدة، كنت أرد إن شاء الله، وأبتسم، ثم ما أنفك أعود إلى حياتي العادية. حتى جاء ذلك اليوم من شهر يناير... وعلى رصيف المارينا الجديد، رضخت أخيرا لإصرار عزيز ولنت له، وتوقفت فجأة، وصافحته.. وافقت على كتابة رواية بحجم "السي يوسف" وإنهائها في عام واحد. ولف بعض التشويش والضبابية والغموض بقية نزهتنا سيرا على الأقدام ومسيرتنا المسجلة يومها. وبينما كنت أجيب عن أسئلة عزيز، وأناقش معه العديد من القضايا، كان ذهني يكافح من أجل معرفة موضوع الرواية التي وعدت للتو بكتابتها، وحبكتها، وسبل الإمساك بهما. وفي ذلك الوقت بالذات، كانت قد مرت ست وعشرون عاما على نشر رواية "السي يوسف".. لم أبق الشخص ذاته، وعرفت أنني فقدت منذ زمن طويل الصوت غير المبالي للشاب الذي كنته يوم نشرها. ولم تكن تلك المرة الأولى التي اشتبهت فيها وارتبت في أن العمر، والاتفاقيات، والمسؤوليات المتزايدة قد قيدت تدريجيا حريتي في العمل وأثرت في أسلوبي. إلى جانب ذلك، لقد اعتقدت على الدوام (ومازلت إلى الآن) أن تعبئة المرء جهوده لينتج إبداعه ومعرفته لذاته لينغمر بالكامل في العالم لهو أكثر مكافأة من السعي للعيش من خلال الأعمال المنشورة أو الفن الذي يعرض على الناس. قد لا تترك المتع غير الموثقة والمنشورة أي آثار أدبية، لكنها مازالت تؤدي إلى صداقات تعزز الحياة وتثري اللقاءات الإنسانية، وهذا الأمر جيد بما يكفي ليجعل رحلتنا التي لا يمكن التنبؤ بها على هذه الأرض صفقة مقبولة. ولما عدت إلى فندقي، وتوادعنا، أنا وعزيز، لم أكن أعرف بعد ما الذي يجب فعله بعد ذلك. فقط عندما كنت أستحم، ضربتني بل هبطت علي الفكرة الرئيسية لروايتي الجديدة فجأة مثل صاعقة برق، مثل ردم. كانت الضربة من الشدة والقوة أنني اضطررت معها إلى الاتكاء على الحائط لتجنب السقوط، وتبدد معها الضباب الكثيف والحالك الذي كان يلف ذهني، ما سمح للشخصية التي ستكون في قلب قصتي الجديدة وستحتله بالسير بثقة في ضوء النهار الساطع. مَنْ غير لامين -الراوي الشاب في رواية "السي يوسف"- يقدر أن يربطني بالصوت الذي كنت فقدته منذ فترة طويلة؟ في هذه اللحظة السريالية، كان بإمكاني أن أكون في عالم أو في مملكة ميتافيزيقية، رجلا متحررا من حاجات الجسد، ولا يحسِب له حساب.. رجل أصبح تحت رحمة قوى أخرى. وإذا كان هذا الوحي حدثا طبيعيا في عالم الفن، فأنا أحسب نفسي إذن إنسانا محظوظا للغاية لأنني لمستني شرارة منه. وعندما تعافيت وارتديت ملابسي، حملت حقيبتي وذهبت إلى مقهى السمارة التي مثلت الفضاء النموذجي لمقهى عشاب في رواية "السي يوسف". كان محمد، النادل الرئيسي، فرحا ويشعر بالحبور عندما أخرجت حاسوبي المحمول وبدأت في الكتابة. والآن بعد أن عدت إلى الطابق الأول الخالي من الزبناء بالمقهى، تابع التحدث معي، وهو ينظر من فوق كتفي، محاولاً فك رموز الكلمات الإنجليزية التي كنت أكتبها وأحيانا أحذفها لإعادة كتابة كلمات أخرى. وبعد فترة معينة، انسحب غاضبا من الطرق الغريبة التي يعامله بها هذا الطنجاوي الذي ذهب إلى أمريكا وعاد وهو يشبه نوعا من الصحافيين، وليس الزبون، الذي اعتاد التردد على المقهى في المساء.. الزبون الذي كنته قبل عقود. تركت النادل يقوم بعمله بينما كتبت الفقرة الأولى. ومنذ ذلك الوقت، سمحت لنفسي فقط أن أسترشد برحلة لامين، سعيدا بأن أكون كاتبه الناسخ غير المرئي، الذي يُمْلى عليه ما يكتب بينما واصلت حياتي العادية، مقسما وقتي بين الولاياتالمتحدة والمغرب، كما كنت أقوم بذلك طيلة عدد من السنوات. لم تكن لدي أي فكرة عن السبب الذي من أجله كتبت الرواية وما سيكون مآلها والمصير حين أنتهي من كتابتها. ولم أكن أعرف أيضا ما سيكون العنوان النهائي (وكنت جربت عدة عناوين طيلة مدة كتابتها). وكل ما كنت أعرفه هو أنني منحت نفسي موعدا نهائيا صارما للانتهاء من كتابتها. ويمكن لعدد من الندل و"الباريستاس" في بلدان مختلفة أن يشهدوا على ذلك!. ولم أكن لأستطيع كتابة هذه الرواية (التي اتضح أنها أطول قليلا من السابقة)، كما هو الحال بالنسبة "للسي يوسف"، لو لم أكن واقعا تحت السحر الجارف والعارم لمدينتي؛ مسقط الرأس. قد يفترض المرء أن قضاء ما يقرب من أربعة عقود في أمريكا كان سيجعلني محصنا إلى حد ما ضد إغراء طنجة الذي لا يرحم، وغوايتها التي لا تبقي ولا تذر. كنت أتمنى فقط. لهذا السبب، في نهاية الأمر، عنونت روايتي "فرصة ثانية في طنجة". يقضي كل الطنجيين في الشتات حياتهم وهم يحاولون إعادة ربط الشمل بالمدينة التي أنجبتهم أو تبنتهم؛ بل إن أولئك الذين لم يغادروا المدينة أبدا لا يمكنهم أن يحصلوا منها على ما يكفي، فهم يرثون دائما طنجة التي كانت، كما لو أن المدينة لا يمكن تجربتها والسكن فيها من دون طعم الحنين إلى الماضي، أو فردوس يظل بعيد المنال إلى الأبد، أو هي مجرد ذكرى مؤرقة. إن قوى طنجة الساحرة، لكن والمدمرة أيضا، أصبحت الآن جزءا من أسطورة. وعلى كل حال، فقد التزمت بوعدي لعزيز وأصدقائي وقراء "السي يوسف"، والأهم من ذلك كله لذاكرتي الخاصة. ويسعدني أني تمكنت من نشر هذه الرواية من خلال مجلة "تنجيس"، المجلة المطبوعة التي شاركت في تأسيسها مع خالد گوراد بعد الأحداث المأساوية للحادي عشر من شتنبر، لتعكس التقاليد الليبرالية المغربية وتبرزها. ولسوء الحظ، تبين أن نشر المجلة كل ثلاثة أشهر أمر غير قابل للاستمرار من الناحية المالية. وعلى الرغم من نفاد كل أعداد المجلة في نهاية المطاف، تمكنت -بمساعدة نيل جاندرو، المصمم والمنتج الواسع الحيلة إلى حد كبير، الذي يقف وراء كل ما قمت به خلال الاثني عشر عاما الماضية- من إبقاء "تنجيس" على قيد الحياة وحصول القراء عليها بالمجان. ونأمل الآن تجاوز عتبة جديدة مع نشر هذا الكتاب؛ هذا المنشور الجديد. كما هو الحال مع مجلتنا، فإن هدفي هنا أيضا هو أن الكتابة تنبع من الإلهام وعدم العناية بالأعراف والتوافقات الأدبية، أو الفئات المعبأة مسبقا، أو ضغوط السوق. وفي الواقع، إن أحد أسباب كتابتي لهذه الرواية هو معالجة القضايا التاريخية، والدينية، والثقافية التي طالما مثلت شغلي الشاغل بأسلوب إبداعي بل وتجريبي. ولإطلاق هذا المشروع في شكل كتاب، اخترت أن أبدأ من قصة رجل مغربي ورحلته إلى الولاياتالمتحدة، ورحلته عبر الثقافات (حكاية مكاسب وخسائر المهاجر الدائم في أرض الحلم الأمريكي)، لكن هدفي على المدى الطويل هو التفكير في المواضيع التي، في رأيي، لا يتم تناولها بشكل مرض في وسائل الإعلام الرئيسية الموجهة للجمهور الواسع. لم أسع إلى الحصول على موافقات أو استحسان ما قبل عملية النشر (من أي جهة كانت)، وواثق أنا من أنك إذا قرأت الرواية وأعجبتك، فستجد طريقة ما لتشارك أفكارك حولها في أي منتدى تختاره. شكرا لك، ابق آمنا، وعش بشكل مرض واعتن بصحتك.