يأتي الخطاب الملكي لافتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأخيرة من الولاية التشريعية العاشرة في ظرفية وطنية استثنائية، تتسم بجسامة التحديات المتحكمة في السياسات المنتظر بلورتها في سياق مواجهة تداعيات جائحة "كوفيد-19-"، والتي مست إرهاصاتها الأولى الاقتصاد الوطني، مما حدا بالحكومة المغربية إلى اتخاذ مجموعة من التدابير من بينها؛ اللجوء إلى المديونية الخارجية، واعتماد قانون مالية تعدلي، فضلا عن نهج أسلوب التقشف في النفقات العمومية. في الوقت التي تؤكد فيه غالبية تحليلات الخبراء أن آثار أزمة "كوفيد -19- "مستمرة في الزمان والمكان على الأقل في السنوات الثلاثة القادمة. وتشاء الأقدار أن تتصادف هذه الأزمة الوبائية مع انخراط المملكة المغربية في نقاش عمومي تشاركي حول بلورة نموذج تنموي جديد، يسعى في أبلغ مراميه إلى القطع مع نموذج قديم أثبت محدوديته على مستوى ضمان توزيع عادل لإمكانات وفرص التنمية بين مختلف فئات المجتمع المغربي، وبين كل مجالاته الترابية. وفي ضوء هذه المتغيرات، طرح الخطاب الملكي لافتتاح السنة التشريعية الأخيرة من الولاية التشريعية العاشرة مجموعة من الأوراش الكبرى، التي نعتبر أنها تشكل المعالم الأساسية التي ينبغي أن تحكم البناء الإصلاحي المرتبط بالنموذج التنموي الجديد. وهكذا يمكن الحديث عن المعالم التالية: تحصين الخيار الديمقراطي: هناك إشارتان وردتا في مضمون الخطاب الملكي، أما الأولى فتتمثل في اعتبار هذه السنة التشريعية هي الأخيرة في الولاية التشريعية العاشرة، وفي هذا التزام ملكي صريح وقوي باحترام المنهجية الديمقراطية من خلال الحرص على ضمان تنظيم الانتخابات التشريعية في ميقاتها. أما الإشارة الثانية فهي التي تتمحور حول قيمة البرامج الانتخابية، والتعاقدات السياسية بين الناخبين والمنتخبين، لذلك، دعا جلالة الملك البرلمانيين إلى بدل "المزيد من الجهود..."، لاستكمال مهامهم في أحسن الظروف، واستحضار حصيلة عملهم، التي سيقدمونها للناخبين. وكلما كانت الحصيلة إيجابية كلما انعكس ذلك على منسوب ثقة المواطنين والمواطنات في العملية السياسية. وعليه، فالنموذج التنموي مطالب بالتركيز على الجوانب الديمقراطية في التنمية، باعتبارها المدخل الحقيقي لتحقيق نتائج تنموية أفضل، لا سيما على مستوى حفز التنمية الاقتصادية والمحافظة على الاستقرار الاجتماعي، والقابلية للتكيف مع مختلف المستجدات الطارئة سواء الإيجابية أو السلبية. وأيضا لأنها الأكثر مقدرة على خلق المؤسسات التي تعزز النتائج الاقتصادية الجيدة بفضل اقتسامها للسلطة وسيادة القانون. ومن جهة أخرى، فإن تمكين المواطنين وتوسيع خياراتهم، وإمكانية مشاركتهم الفعلية في القرارات التي تتعلق بحياتهم وتؤثر فيهم يتطلب تقوية أشكال المشاركة ومستوياتها عبر الانتخابات العامة، وعبر تفعيل دور الأحزاب السياسية، وضمان تعددها وتنافسها. الحكامة الجيدة: ينطلق الخطاب الملكي من مسلمة أساسية مفادها أن مختلف الإصلاحات تبقى دون فائدة، ما لم تلتزم بمبادئ الحكامة الجيدة، لأن فشل العديد من البرامج التنموية مرده إلى ضعف آليات الحكامة. ومما لا شك فيه أن الحكامة الجيدة تستند إلى معيارين أساسيين هما: التضمينية والمساءلة؛ المعيار الأول يشمل حكم القانون والمعاملة بالمساواة والمشاركة وتأمين فرص متساوية للاستفادة من الخدمات التي توفرها الدولة. أما المعيار الثاني فيتضمن التمثيل والمشاركة والتنافسية (سياسيا واقتصاديا) والشفافية والمساءلة والمحاسبة. وهي كلها قيم واردة بشكل أو بآخر في أحكام دستور 29 يوليوز2011 خصوصا مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. ونظرا لأهميته المحورية في تعزيز شفافية تدبير المرافق العمومية، أشار إليه الخطاب الملكي. والجدير بالذكر في هذا السياق، أنه لا يكاد يخلو خطاب ملكي من الإشارة إلى هذا المبدأ، لما له من قدرة على محاسبة المسؤولين عن إدارتهم للموارد العامة، وخصوصا تطبيق مبدأ فصل الخاص عن العام، وحماية الصالح العام من تعسف واستغلال السياسيين. ويبقى من متطلبات الحكامة الجيدة في تصور الخطاب الملكي "القيام بمراجعة عميقة لمعايير ومساطر التعيين في المناصب العليا بما يحفز الكفاءات الوطنية على الانخراط في الوظيفة العمومية وجعلها أكثر جاذبية". اقتصاد قوي تشاركي بين القطاعين العام والخاص: لقد تلاشت التدابير الكلاسيكية التي كانت تعتمد في إنعاش الاقتصاد الوطني على ما تتضمنه مشاريع قوانين المالية، وهي تدابير مؤقتة في الزمان والمكان، ومحكومة بإكراهات كثيرة منها؛ التوازنات الماكرو-اقتصادية، وعجز الميزانية العامة، وثقل المديونية، وتزايد النفقات العمومية في مقابل محدودية الموارد العمومية.... ما يجعل التفكير في إنعاش الاقتصاد الوطني لا يحظى بكامل الأولوية، فهو حاضر ولكن في ضوء ما تمت الإشارة إليه. من هنا جاءت خطة جلالة الملك لإنعاش الاقتصاد الوطني ارتكازا على صندوق الاستثمار الاستراتيجي، تحت مسمى "صندوق محمد السادس للاستثمار" الذي تقع على عاتقه مسؤولية "الرفع من قدرات الاقتصاد الوطني، من خلال دعم القطاعات الإنتاجية، وتمويل ومواكبة المشاريع الكبرى"، في إطار "شراكات بين القطاعين العام والخاص". وتتجلى أهمية هذا الصندوق في جانبين أساسيين: أما الجانب الأول فيرتبط بفكرة الاستدامة، حيث دعا جلالة الملك إلى تخويله الشخصية المعنوية، ونحن نعلم طبيعة النتائج المترتبة عن الاعتراف بالشخصية المعنوية كالاستقلال الإداري والمالي وأهلية اكتساب الحقوق والقيام بالواجبات، ولا يمكن إضفاء طابع الشخصية المعنوية إلا بالنسبة للمؤسسات والأموال الممتدة في الزمان. في حين يتجلى الجانب الثاني في جعله آلية لتدخلات الدولة في مجال الاستثمار، فأزمة كورونا أبانت عن محدودية الليبرالية الجديدة التي تترك الاقتصاد بيد المنافسة الحرة المحكومة بقواعد اقتصاد السوق، بل طرحت السؤال من جديد حول أهمية الدولة الموجهة والمتدخلة بل والفاعلة حقيقة في تدبير النواتج الاستثمارية. وفي غضون ذلك يجب أن "تعطي مؤسسات الدولة والمقاولات العمومية، المثال في هذا المجال، وأن تكون رافعة للتنمية لا عائقا لها" ويتوقف هذا التحدي على القيام بمراجعة جوهرية ومتوازنة لهذا القطاع. وهنا تبرز أهمية الوكالة التي "ستشرف على مساهمات الدولة وتتبع أدائها" ولعل هذا ما تنطوي عليه فلسفة الشراكة بين القطاعين العام والخاص التي سيدبرها صندوق محمد السادس للاستثمار وفق مقاربة جديدة تروم إعادة هيكلة الصناعة والابتكار والقطاعات الواعدة والمقاولات الصغرى والمتوسطة والبنيات التحتية والسياحة، بالإضافة إلى الفلاحة والتنمية القروية. حيث يقدر حجم الاستثمارات المنتظرة في إطار هذا المشروع بما يقارب 38 مليار درهم على المدى المتوسط، وهو ما سيمكن من خلق قيمة مضافة لتمثل نقطتين إضافيتين سنويا من الناتج الداخلي الخام، وإحداث عدد هام من مناصب الشغل خلال السنوات القادمة. ومما لا ريب فيه أنها قطاعات استثمارية واعدة لاقتصاد وطني منتج وخلاق للثروات. ومن هذا المنطلق، وجب أن تتركز مخرجات النموذج التنموي الجديد في مجال الاستثمار على كل هذه القطاعات بما يضمن مساهمتها الفاعلة في العملية التنموية، وفي تحقيق الأمن الاقتصادي للدولة، الذي يعتبر لازمة أساسية للأمن الغذائي، ومن المؤكد، أن هذا الأخير بات موضوع تساؤل عريض من طرف المنتظم الدولي مفاده مدى مقدرة الدول على ضمان قوت مواطنيها اليومي. إرساء أسس رصينة لحماية اجتماعية حقيقية: تكون الاعتقاد الراسخ إثر جائحة "كورونا-فيروس" حول هشاشة السياسات العمومية المعتمدة في المجال الاجتماعي، حيث وجدت الدولة ذاتها مطالبة بالتدخل المباشر للتخفيف من تداعيات الجائحة على الأسر المتضررة من فرض حالة الطوارئ الصحية. فقد "أبانت هذه الأزمة عن مجموعة من الاختلالات ومظاهر العجز..." وعلى هذا الأساس يعتبر الخطاب الملكي أن تحقيق التنمية الاقتصادية مرتبط بالنهوض بالمجال الاجتماعي، فالعلاقة بينهما علاقة تلازمية، وهو مناط تحسين ظروف عيش المواطنين والمواطنات. غير أن هذا الرهان لا يمكن أن يتحقق في نظر جلالته إلا من خلال مشروع وطني كبير وغير مسبوق يرتكز على أربعة مكونات أساسية: أولا: "تعميم التغطية الصحية الإجبارية في أجل أقصاه 2022 لصالح 22 مليون مستفيد إضافي، من التأمين الأساسي على المرض، سواء ما يتعلق بمصاريف التطبيب والدواء، أو الاستشفاء والعلاج". ثانيا: "تعميم التعويضات العائلية، لتشمل ما يقارب سبعة ملايين طفل في سن الدراسة، تستفيد منها ثلاثة ملايين أسرة". ثالثا: "توسيع الانخراط في نظام التقاعد، لحوالي خمسة ملايين من المغاربة، الذين يمارسون عملا، ولا يستفيدون من معاش". رابعا: "تعميم الاستفادة من التأمين على التعويض على فقدان الشغل، بالنسبة للمغاربة الذين يتوفرون على عمل قار". إن التأمل في هذه الرافعات الأربعة للحماية الاجتماعية، يقود إلى استخلاص أنها لبنات حقيقية "لمشروع مجتمعي" سيساهم في ضمان الأمن المجتمعي لفائدة الأفراد والأسر التي تعيش في ظروف اجتماعية تتميز بغياب الحماية الاجتماعية في أبعادها المختلفة. ومن الواضح، أن الحماية الاجتماعية هي القادرة على زيادة المشاركة الفاعلة والفعالة للمواطنين، ومواكبة الفئات الاجتماعية في وضعية هشة بما يضمن حقها في الحياة بعيدا عن أية تهديدات أو أمراض معدية، وتوسيع خياراتها في الإمكانيات والفرص. وعموما، يمكن القول إن الخطاب الملكي لافتتاح السنة التشريعية الحالية يشكل لحظة مفصلية في زمن الإصلاح بالمغرب، فهو عبارة عن مشروع إصلاحي حقيقي، يجيب عن سؤال إشكالي مضمونه؛ ماذا علينا فعله لتجاوز محدودية النموذج التنموي الحالي. ولن نغالي في تقدير التأثير الذي سيحدثه في تصورات الإصلاح التي تشتغل عليها لجنة النموذج التنموي. فهو يمثل حافزا أساسيا للتحول الذي يسعى إليه المغاربة في مختلف المجالات. لقد لفتت المقاربة الملكية الواردة في صلب الخطاب الملكي إلى تصميم الإصلاح على نحو أكثر دقة وإحكاما مما كان متاحا في النموذج التنموي السابق. *دكتور في القانون العام / إطار بوزارة الداخلية