أصبح «اللايقين» من العبارات الأكثر تداولا هذه الأيام، والحال أنّها عبارة لم تكن تثير أيّ مشاكل في الماضي، عدا كونها تحيل على موقف سلب المعرفة؛ لكنّها الآن تحوّلت لتسم عوالمنا المعاصرة، ليظهر واضحا أنّها غذت نمط وجودنا الراهن، نظرا إلى ما نعيشه من تيه وضياع. والبيّن من المستجدات الكثيرة التي طالت عمراننا أنّنا، فعلا، غدونا ننظر إلى الأشياء على أنّها غير محدّدة كفاية، بل مموّهة ومجهولة لنا قياسا إلى مساحات الشك الشاسعة التي طالت كلّ شيء تقريبا. إنّه نوع من عدم اليقين في كلّ شيء، فقط حالة النقص والحاجة ما يتسيّد العالم والحياة، فبقايا الماضي لم تعد مقنعة، وقيمنا الإنسانية سرعان ما تحوّلت إلى ما يشبه ميوعة سائلة. لقد غيّرت الجائحة ما تبقى من آمال معلّقة على هذه العولمة الاقتصادية، كما سلّط الوباء الضوء على عدم اليقين من السياسة، العلم، الطب، المعرفة والقوى والحياة برمّتها. فجأة أصبح كلّ شيء تقريبًا- من القرارات اليومية الدقيقة إلى السياسات العامّة للدول- محفوفًا بعدم اليقين. والظاهر أنّ هذا الوضع ليس واقعا جديدا، بل سيرورة انتهت إلى ما نراه الآن من سيولة الخوف وطغيان الشرّ، بل وانتصار البلاهة وعودة الجهل المقدّس لتقديم الدروس عمّا يلزم للمزيد من التحطيم والهدم. إنّ حالة التفكّك هاته ليست وليدة الصدفة، وإنّما نتيجة تسيّد طغيان الاستهلاك وانتشار اللامبالاة بالأنظمة الإيكولوجية للطبيعة التي طالها التغيير السلبي نتيجة التدمير المستمر للرأسمالية المتوحشّة. والآن يظهر أنّه من المستحيل البحث في مكان آخر للهروب، هذا ما كشف عنه الوباء... إنّ عدم اليقين هو النصيب العادل الذي عمّمته الجائحة الحالية. في هذا الإطار، يقترح الفيلسوف «دوريان أستور» التفكير حول حالة اللايقين العامة التي بدأت ترخي بثقلها على القلوب والعقول؛ فالوضع الراهن يشي بأنّ التأمل العميق قد أصبح لا غنى عنه لمواجهة اللايقين المعاصر. إنّ شغف اللايقين ليس بأي حال من الأحوال مسألة عقل خالص، ذلك أن مسألة اليقين وعدم اليقين هما فوق كل شيء مسألة غريزة وعاطفة وجدانية؛ إنّها متعلّقة في المقام الأول بالمعتقدات والقناعات قبل أن تكون مرتبطة باستنباط الاستدلال والاستنتاجات والحجج. عدم اليقين يجب أن تكون له علاقة بالخوف، بينما اليقين هو التغلب على الخوف والجهل والبلاهة. لقد نسي الناس، حسب اعتقاد «بليز باسكال»، أنّ ما يجعل الترفيه ضروريًا كونه ينسينا ويحوّلنا من الاضطرار إلى التفكير في حياتنا الخاصة؛ وذلك كي لا نضطر إلى التفكير في موتنا ونهايتنا. لكن، لمّا منعت الجائحة كثيرا من الناس مغادرة بيوتهم، صارت العودة إلى الذات أمرًا أصعب من أن يحتمل، وبخاصّة لأولئك الذين لم يتعودوا نمط حياة التفكير والتأمل الذاتي. نتيجة لذلك، تسلل إلى الجميع الشعور بعدم الاستقرار وهشاشة الحياة، وعاش أغلب الناس ضيق الإقامة، فخافوا من اللايقين الذي نجم عن قلق الوجود وضجر الملل. تجعلنا هذه الأزمة نعيش حقيقة ما سبق أن وصفه «باسكال» بالوضع الهشّ للإنسان، أي ذلك الوضع البشري القاصر الناجم عن العزلة والضعف. فالخوف من اللايقين ومن الغرف المنعزلة يفرضه ضعف تحمّل البشر لأنفسهم ووهنهم وهشاشة وجودهم. لذلك ليس بالأمر الغريب أن يعيش الناس حياتهم لحظة بلحظة، حيث ينتقلون من تحفيز إلى آخر بحثا عن المعنى في مجرى اليومي. ولعل ما يتغافل عنه هؤلاء أن جوهر حياتهم يكمن في الدينامية التي تحدثها الجدلية بين سعيهم وراء المعنى وعبثية الأشياء. في ظلّ هذه الجدلية، تستمر الحياة دون أن تضمن السعادة لأحد، لذلك يبقى القلق ملازمًا لها حتى وإن تجاهله الإنسان نتيجة الانغماس والبحث الدؤوب عن المسرّات.