الاحتقان يخيم من جديد على قطاع الصحة.. وأطباء القطاع العام يلتحقون بالإضراب الوطني    "البيجيدي": دعم استيراد الأبقار والأغنام كلف الميزانية العامة 13 مليار درهم دون أي أثر يذكر    مستشارو فيدرالية اليسار بالرباط ينبهون إلى التدبير الكارثي للنفايات الخضراء و الهامدة بالمدينة    "متفجرات مموهة" تثير استنفارًا أمنيا في بولندا    بدء الاقتراع في الانتخابات الرئاسية الأميركية    فن اللغا والسجية.. المهرجان الوطني للفيلم/ جوائز المهرجان/ عاشت السينما المغربية (فيديو)    "الأحرار" يثمنون قرار مجلس الأمن    غير بعيد على الناظور.. حادث سير مروع يخلف عشرة جرحى    الأرصاد الجوية تتوقع ارتفاع الحرارة خلال الأيام القادمة في المغرب    بينهم مغربيين.. الشروع في محاكمة المتورطين في قطع رأس أستاذ فرنسي    حقيقة انضمام نعية إلياس إلى الجزء الثالث من "بنات للا منانة        القفطان المغربي يتألق خلال فعاليات الأسبوع العربي الأول في اليونسكو    مندوبية التخطيط : ارتفاع معدل البطالة في المغرب    أولمبيك أسفي يوجه شكاية لمديرية التحكيم ضد كربوبي ويطالب بعدم تعيينها لمبارياته    لهذه الأسباب.. الوداد يتقدم بطلب رسمي لتغيير موعد مباراته ضد اتحاد طنجة        آس الإسبانية تثني على أداء الدولي المغربي آدم أزنو مع بايرن ميوني    إلياس بنصغير: قرار لعبي مع المغرب أثار الكثير من النقاش لكنني لست نادما عليه على الإطلاق    أداء إيجابي يستهل تداولات بورصة الدار البيضاء    الانتخابات الأمريكية.. نحو 83 مليون شخص أدلوا بأصواتهم مبكرا    صاعقة برق تقتل لاعبا وتصيب آخرين أثناء مباراة كرة قدم في البيرو    القضاء يرفض تعليق "اليانصيب الانتخابي" لإيلون ماسك    وزيرة التضامن الجديدة: برنامج عمل الوزارة لسنة 2025 يرتكز على تثمين المكتسبات وتسريع تنفيذ إجراءات البرنامج الحكومي    حملة لتحرير الملك العام من الاستغلال غير المرخص في أكادير    كيوسك الثلاثاء | المغرب يواصل صدارته لدول شمال إفريقيا في حقوق الملكية    المغرب ‬يحقق ‬فائض ‬المكتسبات ‬بالديناميةالإيجابية ‬للدبلوماسية    هلال: تقييم دور الأمم المتحدة في الصحراء المغربية اختصاص حصري للأمين العام ولمجلس الأمن    دقيقة صمت خلال المباريات الأوروبية على ضحايا فيضانات فالنسيا    استقرار أسعار النفط وسط غموض حول الانتخابات الأميركية    استنفار أمني واسع بعد العثور على 38 قذيفة في ورش بناء    احتجاجا على الموقف السلبي للحكومة..نقابيو "سامير" يعتصمون أمام الشركة للمطالبة بإنقاذ المصفاة    ترامب يعد الأمريكيين ب"قمم جديدة"    هاريس تستهدف "الناخبين اللاتينيين"    تصفيات "كان" 2025.. تحكيم مغربي المباراة نيجيريا ورواندا بقيادة سمير الكزاز    الهجوم على الملك والملكة ورئيس الحكومة: اليمين المتطرف يهدد الديمقراطية الإسبانية في منطقة الإعصار    على بعد ثلاثة أيام من المسيرة الخضراء ‮ .. ‬عندما أعلن بوعبيد ‬استعداد ‬الاتحاد ‬لإنشاء ‬جيش ‬التحرير ‬من ‬جديد‮!‬    افتتاح النسخة الثانية من القافلة السينمائية تحت شعار ''السينما للجميع''    «حوريات» الجزائري كمال داود تقوده الى جائزة الغونكور    نجم الكرة التشيلية فيدال متهم بالاعتداء الجنسي    مجلس النواب يصادق على مشروع القانون المتعلق بالصناعة السينمائية وإعادة تنظيم المركز السينمائي المغربي    نوح خليفة يرصد في مؤلف جديد عراقة العلاقات بين المغرب والبحرين    التساقطات المطرية الأخيرة تبعث الأمل في موسم فلاحي جيد    دراسة: المغرب قد يجني 10 ملايير دولار من تنظيم "مونديال 2030"    دروس وعِبر للمستقبل.. الكراوي يقارب 250 سنة من السلام بين المغرب والبرتغال‬    أخنوش: فقدنا 161 ألف منصب شغل في الفلاحة وإذا جاءت الأمطار سيعود الناس لشغلهم    "المعلم" تتخطى مليار مشاهدة.. وسعد لمجرد يحتفل    رحيل أسطورة الموسيقى كوينسي جونز عن 91 عاماً    أطباء العيون مغاربة يبتكرون تقنية جراحية جديدة    الجينات سبب رئيسي لمرض النقرس (دراسة)        خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأحزاب اليمينية تقف أمام "عقدة النشأة وواقع الإنكار" في إسبانيا
نشر في هسبريس يوم 10 - 09 - 2020

من مفارقات تاريخ الدولة الإسبانية الحديثة، أنها ظلت خلال حكم الجنرال فرانكو (1939 1975) خارج تصنيف الأنظمة السياسية المتعارف عليها، كان تعريفها في المناهج الدراسية الرسمية للنظام الفرانكوي على أنها دولة، والجنرال فرانكو رئيسا لها تحت مسمى الزعيم (El Caudillo). الجنرال فرانكو الذي أقسم على وفائه للنظام الجمهوري، قاد سنة 1936 انقلابا على الجمهورية بدعم من اليمين المسيحي الملكي الكارلي (Los Carlistas)، وعائلة البوربون الملكية المقيمة في المنفى التي وعدها الجنرال بنيته بإعادة الملكية وعودة الملك خوان دي بوربون الذي أطاحت الجمهورية بأبيه الملك ألفونصو الثالث عشر ديموقراطيا سنة 1931.
لم يف زعيم الانقلاب الجنرال فرانكو بوعده وتقلد مباشرة بعد نهاية حرب أهلية دامت ما يقرب من أربع سنوات رئاسة المجلس الانتقالي الوطني، وبعدها رئاسة الدولة، وأقام نظاما سياسيا خارج كل التصنيفات، لا هو بجمهوري ولا هو بملكي. لم يقطع الجنرال بصريح العبارة مع الجمهورية كشكل للنظام، كما لم ينف نيته في ترتيب عودة الملكية في شخص ممثل لها من عائلة البوربون. وظلّ الجنرال فرانكو خلال 40 سنة من فترة حكمه هو الدولة، والدولة هي فرانكو.
لم تكن إسبانيا خلال حكم الديكتاتور فرانكو جمهورية ولا ملكية، وكان شعار الدولة أن تحيا إسبانيا الموحّدة، وأن يحيا زعيمها الخالد فرانكو. وأسّس الجنرال لنظام خاص ومتفرّد يمنع التعددية الحزبية، ودستور ممنوح وبرلمان مُعيّن، وحكومة على مقاس حكمه المطلق، نظام ظل يفتقد إلى شرعية تضمن له الاستمرارية بعد وفاة الزعيم. هذه الشرعية التي يعود مصدرها إلى تبرير انقلابه سنة 1936 على الجمهورية بإعادة الملكية وضمان الاستقرار ووحدة إسبانيا.
وفعلا استمر الجنرال خلال فترة حكمه يفاوض الملك المنفي خوان دي بوربون، وتعددت لقاءات هذا الأخير بالزعيم التي كان يتم أغلبها على متن يخت الجنرال، كما كان يجدد حينها الجنرال للملك اللاجئ في البرتغال وعده بعودة الملكية شرط أن يكون ذلك بعد وفاته وفي شخص ولي العهد آنذاك خوان كارلوس، ومن أجل ذلك تعهّد بتربية الأمير خوان كارلوس في إسبانيا تحت رعايته وإشرافه المُباشر، إلى حين تعيينه نائبا له يتولى رئاسة الدولة بعد وفاة الزعيم وأداء قسم الولاء للنظام أمام برلمان فرانكو مُستعيدا صفة الملك.
الانقلاب على الجمهورية كان بقيادة جنرالات اعتبروا أن أصل البلاء الذي عرفته إسبانيا حينها، من أزمة اقتصادية وبروز حركات انفصالية تُهدد وحدة إسبانيا، وفي مقدمتها كاطالونيا، كان سببه الديمقراطية في حد ذاتها وليس تحالف اليسار الحاكم حينها.
كل الأحزاب بيمينها ويسارها كانت خصما للانقلابيين وكانت في نظرهم تُهدد وحدة إسبانيا وأمنها واستقرارها، فقط كانت الكنيسة حليفة للانقلابيين بسبب ما تعرضت له من ملاحقات وتدمير بعض كنائسها وتأميم ممتلكاتها وملاحقة بعض رجالها من طرف ميليشيات اليسار الشيوعي والفوضويين.
وكان الانقلابيون يعتبرون كل الجمهوريين شيوعيين ويساريين ومُلحدين، واصطف حينها اليمين الإسباني بكل أطيافه مع فرانكو بعد انتصاره في الحرب الأهلية، واتخذت أغلب الأحزاب اليمينية موقف الحياد أثناء الحرب على خلاف اليسار الذي تعبأ بكل تياراته من شيوعيين وفوضويين واشتراكيين لمواجهة زحف جيش فرانكو، وكانت المواجهات عنيفة كما كان للمقاتلين اليساريين دور كبير في صمود أسطوري للعاصمة مدريد، واضطرار فرانكو إلى الاستنجاد بالطيران النازي والايطالي لقصف العاصمة وباقي المدن الاستراتيجية بوحشية أدت إلى موت مئات الآلاف من المدنيين.
اصطفت أغلب الأحزاب اليمينية بعد انتصار الجنرال فرانكو في الحرب الأهلية إلى جانب نظامه الجديد، وخاض الجنرال عملية تطهير واسعة ودقيقة داخل صفوف قيادات الجيش التي كانت تنافسه الزعامة، أو التي كان لها ميل للعودة المباشرة إلى الملكية وبعض الانفتاح على تعددية سياسية ولو شكلية. وسارع فرانكو إلى الاعتماد على حزب الكتائب ببناء مؤسسات جديدة على مقاس نظامه الجديد، نظام الحزب الواحد ومركز كل السلطات في يده كزعيم للنظام ورئيسا للدولة.
اعتمد الجنرال وبذكاء على فيالق من المرتزقة الأجانب قدِم بهم مما كانت الحماية الإسبانية تسميه بالأراضي الإفريقية، وهي فيالق من مجندين مغاربة تحت قيادة ضابط مغربي ينحدر من قبيلة بني انصار في جهة الريف بشمال المغرب يسمى محمد أمزيان، كان أول مغربي يلتحق بالكلية العسكرية لتكوين الضباط بمدينة طليطلة سنة 1913، التي كانت حكرا على الإسبان، وهو الاستثناء الذي خوّله إذْنا خاص حينها من الملك ألفونصو الثالث عشر أثناء زيارته إلى مدينة مليلية.
الضابط محمد أمزيان الذي تسلق سلم الترقي بسرعة في حروب الجيش الإسباني في إفريقيا، وبالخصوص في الحرب ضد الريفيين بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي، كان من المقربين للجنرال فرانكو وذراعه الأيمن الذي اعتمد عليه في الحرب الأهلية وخرج منها برتبة جنرال، وبعدها ماريسكال والرئيس العسكري لجزر الكناري وجهة غاليسيا حيث توجد كنيسة القديس سانتياغو دي كومبوستيلا التي تعتبر من الأماكن المسيحية الأكثر قداسة في العالم بعد كنيسة المهد وكنيسة الفاتيكان في روما.
اعتماد فرانكو على فيلق المغاربة المسلمين، وتصويره للحرب الأهلية أنها حرب المؤمنين ضد الكفار والملحدين كان له كبير الأثر على تشكل اليمين الإسباني بعد وفاة الدكتاتور وعودة ولادته من رحم نظام فرانكو الفاشي، مقابل اليمين الأوروبي الذي شارك في الحرب العالمية الثانية ضد النازية والفاشية، وكان له دور رائد في بناء الديمقراطيات الغربية.
اليمين الإسباني اليوم بين الحربائية والإنكار
"اليمين الإسباني الحالي خرج من رحم ديكتاتورية فرانكو ومن نظامه"، يقول المؤرخ الإسباني خسوس خيل بيشارون في مقال رأي صدر في جريدة "الباييس" بتاريخ 31 غشت 2020.
حين شعرت نخب النظام باقتراب نهاية فرانكو في السنوات الأخيرة من حياته، أسرعت إلى ترتيب مستقبل بلا زعيم، وأسرعت المجموعات المذهبية والمرتبطة بمصالح ومراكز القرار الاقتصادي، التي كانت تُعرف حينها بالعائلات السياسية، إلى التحول السريع، وتشكلت ثلاث مجموعات ولوبيات سياسية واقتصادية انبثق عنها لاحقا ما يعرف اليوم باليمين الإسباني.
المجموعة الأولى كانت تعرف في أوساط عموم الشعب الإسباني بالبونكر (Bunker) وتعني القبو، وهي المجموعة التي كانت تدافع على استمرارية نظام فرانكو دون أدنى تغيير، والحفاظ على دستور النظام، أو ما كان يسمى بالقوانين الأساسية.
المجموعة الثانية كانت تدعو إلى الانفتاح وليبرالية الاقتصاد وتحديثه وتغيير النظام الاجتماعي، لكن مع الحفاظ على النظام السياسي دون أدنى تغيير، نموذج شبيه بالنظام الصيني حاليا.
المجموعة الثالثة كانت تدعو إلى إطلاق مشروع انتقال ديمقراطي تحت إشراف مؤسسات الدولة القائمة، مجموعة إصلاحية تدعو إلى تغيير النظام عبر إصلاحات سياسية عميقة، وترفض في المقابل القطيعة مع النظام أو الدعوة إلى إسقاطه، التي كان يدعو إليها اليسار المتطرف.
لم تكن المهمة سهلة، وعرفت تجاذبات قوية ومحفوفة بمخاطر عودة الجيش إلى حلبة السياسة، واستطاع الإصلاحيون رسم خطة طريق وتنسيق خطوات إنجازها مع المعارضة الديمقراطية من الاشتراكيين والشيوعيين منذ وفاة الجنرال فرانكو سنة 1975 والتوافق على دستور 1978، إلى غاية سنة 1981 بعد المحاولة الفاشلة للانقلاب، التي كانت بمثابة الإعلان عن نجاح مهمة إنجاز الانتقال نهائيا إلى نظام ديمقراطي دستوري أساسه الملكية البرلمانية.
شكّل الاصلاحيون حينها نواة يمين ديمقراطي وسطي ليبيرالي بقيادة وجوه وزعامات إصلاحية من داخل نظام فرانكو، وكان لأدولفو سواريس، أول رئيس حكومة اختاره الملك خوان كارلوس لتدبير المرحلة الانتقالية، دور كبير في توحيد أغلب العائلات السياسية التي خرجت من رحم النظام في حزب وحدة وسط اليمين (UCD) الذي فاز في أول انتخابات ديمقراطية سنة 1977، وقاد المرحلة الأولى من الديمقراطية.
لعب الملك خوان كارلوس دورا محوريا في الحفاظ على توازنات الصراع بين المجموعات الثلاث وطمأنة الجيش باستمرارية النظام، كما كان لكاريزما رئيس الحكومة أدولفو سواريس القادم من حزب كتائب النظام (Los Falanges) دور كبير في قيادة اليمين وتلميع ماضيه الفرانكاوي الذي ظل يلاحقه ويُرخي بظلال من الشك على نواياه الديمقراطية.
كما استمرت الأجنحة المعارضة للإصلاحات تمارس ضغطا قويا يلتقي في تأثيره بدعاة القطيعة مع النظام الفرانكاوي من اليسار المتطرف، خصوصا أن اليمين الجديد الخارج من رحم نظام فرانكو لم يستطع تلميع صورته، وظل تاريخه الفرانكاوي يلاحقه ويشوِّش على صورته أمام الرأي العام الأوروبي وأحزاب اليمين الأوروبية التي استمرت تتعامل معه بحذر.
صراع الأجنحة داخل حزب وحدة الوسط الديمقراطي أدى إلى انهياره واندثاره بعد انتخابات 1982 التي فاز فيها الاشتراكيون، وبرزت مجموعة من الأحزاب اليمينية الصغيرة، كان أبرزها الحزب الديمقراطي الاجتماعي (CDC) الذي أسسه رئيس الحكومة السابق أدولفو سواريس، واستمر حزب التحالف الشعبي (Alianza Popular) بقيادة مانويل فراغا-أحد حمائم النظام السابق الذي تقلد العديد من الوزارات في عهد الجنرال فرانكو-محافظا على مقاعده في البرلمان واستطاع أن يجمع فلولا من حزب وحدة الوسط الديمقراطي بعد انهياره، ومن اليمين الفرانكاوي الذي اقتنع بضرورة القطع مع الإرث الفرانكاوي ولو ظاهريا.
اقتنع مانويل فراغا سنة 1993 بعد عجز حزبه تجاوز سقف 25 في المائة من أصوات الناخبين الإسبان بضرورة إعادة تأسيس الحزب والذهاب به إلى المزيد من الوسطية، وتلميع اليمين الجديد/القديم بقطيعة فعلية مع الإرث الفرانكاوي الذي ظل يلاحقه ويشوش على صورته كحزب يميني ليبرالي ديمقراطي محافظ على غرار باقي أحزاب اليمين الأوروبي، هذا التحول الذي عرفه حزب التحالف الشعبي انطلق مع نهاية 1989 بإعادة تأسيس حزب التحالف الشعبي بالتحاق مجموعة من الأحزاب الصغيرة الليبرالية والمسيحية الديمقراطية وعدد كبير من قيادات حزب وحدة الوسط الديمقراطي وميلاد ما يعرف اليوم بالحزب الشعبي (Partido Popular).
انطلقت هذه المرحلة من تاريخ اليمين الإسباني ببروز زعامات شابة استلمت مشعل القيادة في الحزب الشعبي، وانتخاب خوصي ماريا أثنار رئيسا جديدا للحزب بسلطات رئاسية واسعة وكاريزما أتاحت له إعادة ترتيب البيت الداخلي للحزب ودمج العائلات السياسية من يمين محافظ وليبراليين، وتوحيد خطاب الحزب ظاهريا كخطاب وسطي ليبيرالي ديمقراطي يوازي خطاب أحزاب اليمين في دول الاتحاد الأوروبي.
واستطاع الحزب الشعبي حينها بزعامة أثنار بعد تعديل خطابه من يميني محافظ إلى ليبرالي وسطي أن يستغل تدهور الوضع الاقتصادي في إسبانيا، ارتفاع معدل البطالة غير المسبوق، وضعف حكومة فيلبي غونصاليص الاشتراكية، وفضائح الفساد التي كانت تلاحقها، والضربات القوية لمنظمة "إيطا" الانفصالية، أن يفوز في انتخابات 1996 بأغلبية نسبية، وأن يُدشن عودة اليمين إلى الحكم.
استطاع خوصي ماريا أثنار أن يحافظ على الحزب الشعبي موحّدا بتياراته المحافظة واللبيرالية والديمقراطية المسيحية خلال الولايتين التشريعيتين اللتين ترأس فيهما الحكومة، وكانت الثانية بأغلبية مطلقة (2000 2004)، وبعد غياب ولايتين، عاد الحزب الشعبي للفوز في الانتخابات وتدشين مرحلة جديدة من تاريخ اليمين الإسباني.
هذه المرحلة تميزت في بدايتها بالاستقرار بعد حصول ماريانو راخوي في الولاية الأولى سنة 2011 على الأغلبية المطلقة، لكنها انتهت سنة 2018 متأثرة بالوضع السياسي العام، وآثار الأزمة المالية وبروز ملف الانفصال في كاطالونيا وتطوره إلى مواجهة مفتوحة بين الحكومة الكطلانية التي تزعمت المطالبة بالانفصال بدعم اجتماعي غير مسبوق وحكومة راخوي المركزية.
كما انتهت هذه المرحلة ببروز أحزاب يمينية على يسار الحزب الشعبي ونموها السريع (سيودادانوس منذ 2006)، وأخرى على يمين الحزب الشعبي (فوكس منذ 2013) الذي سجل نموا سريعا ومفاجئا بقيادات خرجت أغلبها من رحِم الحزب الشعبي، لم تعد تُخفي أو تخجل من ماضيها الفرانكاوي، وتعتبر الدولة الحالية امتدادا للشرعية التي أسسها الجنرال فرانكو سنة 1936 بالانقلاب على الجمهورية، ولم تعد أغلب قيادات هذا الحزب تخجل من علاقاتها بعائلة وأحفاد الجنرال والمؤسسة التي تحمل اسمه، والمطالبة بعودة اليمين الإسباني إلى أصول نشأته.
وفي هذه المرحلة كان كذلك لملفات الفساد المالي والرشوة التي تورط فيها العديد من قيادات الصف الأول في الحزب الشعبي وحكومة راخوي اليمينية دور في بروز أحزاب يمينية على يمين ويسار الحزب الشعبي وتهديد هيمنته وتمثيليته لليمين الإسباني التي أتاحت له الفوز المتتالي بالانتخابات السابقة، كما أن ملف الانفصال في كاطالونيا ساهم في عودة خطاب يميني متطرف استعمله حزب "فوكس" لكسب المزيد من أصوات اليمين الغاضبة في باقي جهات إسبانيا، خطاب بحمولات نوستالجية تعود إلى عهد طرد الموريسكيين "المارقين" وتوحيد إسبانيا، وأخرى تُذكر بانتصار الجنرال فرانكو على الجمهورية وتوحيد إسبانيا التي كانت حسب الإحالة المُغرضة مهددة بالتفكك مع اليسار الشيوعي "الكافر" في حكومة الجمهورية، خطاب يدعو إلى التشدد والصرامة في التعامل مع الانفصاليين وملاحقتهم والرمي بهم في السجون، واتهام الحكومة اليسارية الائتلافية بالخيانة والتآمر ضد وحدة إسبانيا، خطاب لم يعهده المشهد السياسي الإسباني منذ عودة الديمقراطية، ساهم في المقابل في تطرف وتأجيج خطاب الحركة الانفصالية والأحزاب القومية من يسار ويمين في كاطالونيا وجهة الباسك.
كان للفساد الذي ينخر الحزب الشعبي والأحكام التي صدرت في حق العديد من قياداته الجهوية والوطنية دور كبير إلى جانب ملف الانفصال في كاطالونيا في عودة اليسار إلى حكومة إسبانيا، وتراجع كبير للحزب الشعبي في الانتخابات التشريعية الأخيرة، ونمو سريع لحزب "فوكس" اليميني المتطرف وحصوله على 51 مقعدا في البرلمان الوطني، بعد أن تحول إلى مفتاح تشكيل أغلب الحكومات الجهوية بقيادة الحزب الشعبي، وفي مقدمتها حكومة الأندلس وبعدها مدريد وغيرها...
هذه النتائج بدأت تُهدد استمرار هيمنة الحزب الشعبي على فضاء اليمين الإسباني، وساهمت في تراجع خطابه المعتدل مقابل خطاب متطرف تأثر بالمنافسة مع حزب "فوكس" على قيادة اليمين، ولم يساهم المؤتمر الأخير للحزب الشعبي سنة 2018 (المؤتمر التاسع عشر) في حسم التوتر الداخلي بين القيادة الجديدة للحزب بزعامة الشاب بابلو كاسادو والقيادات التاريخية وبارونات الحزب على مستوى الجهات التي ترى في تصعيد خطاب الحزب وتطرفه تهديدا لاستمراره كقوة سياسية تتمتع بتجربة الحكم، وبالرزانة والاعتدال الضروريين للمنافسة مع اليسار بقيادة الحزب الاشتراكي العمالي.
نونييث فايخو (Nuñez Faijo)، زعيم الحزب في جهة غاليسا رئيس حكومتها للمرة الرابعة بالأغلبية المطلقة، لم يخف تذمره من تطرف خطاب الحزب وابتعاده عن الوسط، ومن بعض الوجوه البارزة التي وضعها زعيم الحزب بابلو كاسادو في الواجهة.
أزمة اليمين الإسباني وتداعياتها على المشهد السياسي
من مفارقات تاريخ اليمين الإسباني أنه كان حليفا لانقلاب عسكري فاشي على الديمقراطية، انخرط لاحقا في نظام الجنرال فرانكو، وفي دواليب الدولة التي أسسها الجنرال على مقاسه، ليعود من جديد إلى المشهد السياسي الإسباني بعد عودة الديمقراطية في حلة جديدة استغرق إنجازها عقدين من الزمن من 1975 إلى 1996 انتهت بفوزه على الاشتراكيين سنة 1996 بقيادة خوصي ماريا أثنار وعودته إلى دواليب الحكم.
استطاع الحزب الشعبي أن يخفي معالم النظام الذي خرج من رحمه، لكنه لم يستطع القطع معها لتعود إلى البروز بشكل منظم وعصري من داخل الحزب الشعبي، وبعدها بتأسيس حزب "فوكس" بقيادات من أجيال جديدة لم تعش عهد الدكتاتورية لكنها تشبعت بتأطير إيديولوجي داخل شبيبة الحزب الشعبي.
يواجه الحزب الشعبي اليوم تحديا تتنازع فيه قيادات ومختبرات الحزب بين خيار العودة إلى الوسطية والاعتدال ومد جسور العلاقة والتفاهم مع الحكومة الاشتراكية على الملفات الأساسية المتعلقة بمصلحة الدولة، أو خيار الصراع والمنافسة مع حزب "فوكس" حول خطاب متشدد ومتطرف ضد الحكومة في كل الملفات بهدف استرجاع ناخبيه من اليمين وتقليم أظافر حزب "فوكس" وإعادته إلى رحم الحزب باعتباره مكونا من مكونات نشأته إلى جانب باقي المجموعات والعائلات السياسية التي تعايشت سابقا في حضنه.
يشير المؤرخ الإسباني خوليو خيل بيشارون في كتابه "التاريخ السياسي لليمين الإسباني 1937 2004" إلى أن التطورات التي عرفها المشهد السياسي الإسباني في العقدين المنصرمين من هذا القرن، تؤكد أن اليمين الإسباني يختلف من حيث النشأة والتطور عن اليمين الأوروبي، وأنه حتى الآن لم يستطع التخلص من تبعات تحالفه مع الفاشية في بداية القرن الماضي. لكنه كذلك ما زال يحافظ على مكونات وبذور يمين ديمقراطي معتدل ووسطي لم ترق أن تكون حاسمة في تركيبة الحزب حتى الآن، لكنها استطاعت أحيانا أن تكون مؤثرة في احتواء التيارات المتطرفة تحت خطاب معتدل استطاع أن يستقطب الناخبين من وسط اليمين ووسط اليسار، وهي الوسيلة الوحيدة للفوز في الانتخابات.
من جانبه، يؤكد المؤرخ خوصي مانويل كوينكا توربيو في كتابه "تاريخ اليمين الإسباني وعقدة المحافظين" أن من محاسن الحزب الشعبي أنه استطاع خلال المرحلتين الأولى والثانية من الديمقراطية أن يلجم اليمين المتطرف وأن يجد له مساحة من التمثيلية داخل الحزب وفي المؤسسات المنتخبة ودواليب الدولة سهّلت استقرار الديمقراطية في إسبانيا.
هل سينجح الحزب الشعبي الإسباني في القطع مع ماضيه الفرانكاوي؟ هل يستطيع أمام صعود اليمين المتطرف الحفاظ على الوسطية التي فتحت لليمين سابقا باب العودة إلى الحكم سنة 1996؟
أزمة اليمين الإسباني من أزمة النظام الجديد، ولا شك أن تداعيات أخرى ستكون وراء تحولات عميقة في النظام الإسباني الحالي، منها الفضائح الاخلاقية والمالية للملك الأب، وعودة النقاش حول مستقبل الملكية والدعوة إلى استفتاء شعبي على استمرارها، وتداعيات ملف الانفصال الكطلاني التي تهدد جديا الاستقرار السياسي والاقتصادي في إسبانيا، وأخيرا تداعيات جائحة "كوفيد-19" وتدبيرها من طرف النخب الإسبانية حكومة ومعارضة. ولن نستطيع الجواب على الأسئلة السابقة دون ربطها بهذه المستجدات وتداعياتها، وعلاقتها بتوافقات غير مكتملة للانتقال الديمقراطي، وبعض الثغرات التي رافقت التوافقات التي أنجزت دستور 1978.
سبق للفيلسوف الإسباني ميغيل دي أونامونو أن ربط أزمة إسبانيا بأزمة يمينها، يمين ظل منذ نشأته يفتقد إلى هوية إيديولوجية واضحة على غرار اليمين الفرنسي أو البريطاني، يمين كان منذ نشأته خليطا من النبلاء وبقايا الاقطاع ورجال الكنيسة، يمين تميز بالحربائية واللعب على كل الحبال، بما فيها الحركات الانفصالية التي تزعمها في جهة الباسك اليمين القومي الباسكي، أو التي دعمها اليمين القومي الكطلاني في كاطالونيا أثناء نشأتها، ويتزعمها الآن إلى جانب الحزب الجمهوري الكطلاني، هو اليمين نفسه الذي استمر يرفع راية الوحدة الوطنية والصرامة في مواجهة أعداء إسبانيا الموحدة من الانفصاليين واليساريين والجمهوريين.
يشترك اليمين الاسباني مع نظام فرانكو في كونه لم يكن أبدا ملكيا ولا جمهوريا، بقدر ما كان حربائيا منذ نشأته الأولى في نهاية القرن 19. وبروز حزب "فوكس" وخروجه من رحم الحزب الشعبي، يؤكد من جديد استمرار أزمة اليمين الإسباني، وأن مخاضه الحالي من موقع المعارضة يعرقل ولادة جديدة ليمين إسباني يوازي نماذج اليمين الديمقراطي المحافظ في أغلب دول الاتحاد الأوروبي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.