نقصد بالإفلاس الحضاري تلك الحالة التي يكون عليها المجتمع حيث يفقد بوصلة السير الطبيعي نحو الرقي والتحضر والاندماج الحضاري، ولعلنا في هذا المقال نرصد جانبا مما نراها مظاهر ومؤشرات لهذا الإفلاس على مستوى التواصل، ومنها ما يلي: أن يتصدى لمعالجة وتحليل القضايا الكبرى المؤثرة في مصير الأجيال كقضية التعليم وأخواتها أناس لا علاقة لهم بالمجال لا من قريب ولا من بعيد، تراهم يخرجون في خرجات إعلامية بذريعة حرية التعبير والتفكير، ويقيمون الدنيا ويقعدونها، ويصنعون وعيا جمْعيا زائفا لا يُبنى على مبدأ، ولا يَنتظم في قاعدة، ولا يَصدُرُ عن خبرة أو علم، سوى الرغبة في تسجيل الحضور في صدى الرأي العام ليس إلا. عدم الحرص على تلقي المعلومات من مصدرها الموثوق، ما يجعل كثيرا من تلك الأفكار والمعلومات مقطوعة الصلة عن مولدها ومنبعها، سواء أكانت تلك المعلومات دينية أو غير ذلك، فتتكاثر بفعل الجشع الإعلامي والرغبة في السبق إلى النشر لحصد مزيد من الإعجاب والمشاركة والتعليق، وهكذا ينشغل الرأي العام بشيء غير موجود أصلا، فتضيع أوقات، وتهدر جهود دون طائل محقق. تصاعد وتيرة التنمر والتنقيص من كل شيء دون معرفة حقيقة الشيء المنتقص منه، لا لشيء سوى التلذذ بممارسة التنقيص. وهذا أخطر ما يكون عليه الفردُ في خاصة نفسه، فكيف إذا أصبح ذلك سلوكا مجتمعيا، إذ من شأنه فقدُ الثقة في أي شيء، وإسقاطُ مبدأ التفوق والنجاح، والإنجاز والإنصاف، ذلك أن المنتقص أو المتنمر لا يقيم لأي شيء وزنا رغم استحقاقه قيمته المتميزة، فينتج عندنا بخسُ الناس أشياءَهم المنهي عنه دِينا، إذ يقول الله في القرآن "ولا تبخسوا الناس أشياءهم" [الشعراء الآية 183] فيصبح الأستاذ المربي لا وزن له في نظر تلميذه، ولا الأب في نظر ابنه، ولا العالم في نظر الجاهل، ولا المُجد المجتهد في نظر غيره، وبذلك تضيع الحقائق وتسقط المعالي، وتطفو في الوعي الجمعي للمجتمع ظواهرُ الركون، والكسل، والاتكالية، والخمول، وضعف الإبداع والإنتاج. التنويه والإشادة بما لا يستحق تنويها ولا اهتماما. إذ تسلط الأضواء إعلاميا ومجتمعيا على قضايا وأحداث وأشخاص ليس لأن ذلك يبني مواطنا أو يُرسخ قيمة ويحمي حقا، بل لإشغال الرأي العام وإلهائه عن القضايا الكبرى التي تُحدد وجهته العاجلة والآجلة، وبذلك تضيع الأولويات، وتختل الموازين، وتختلط الأمور، وتستأثر التفاهات بالاهتمام، فيكثر النقاش والحديث عنها، ويحرص الجميع على إبداء رأيه، والحالُ أنها أصغر وأحقر من أن يُتحدث عنها مقارنة بواجب المرحلة والوقت، وهذا كما ينسحب على قضايا اجتماعية عدة، ينطبق للأسف على النقاش الديني في كثير من القضايا على حساب أمور هي أولى وأجدر بالاهتمام. الكيل بمكيالين وازدواجية التفاعل مع القضايا الاجتماعية. فتجد أشخاصا أو منظمات أو مؤسسات تَحملها الحميةُ والاندفاعُ لإبداء الرأي، وتسجيل المواقف بكل حزم وعزم، بيد أن نفس الأشخاص والمؤسسات لا تحرك ساكنا ولا تسجل موقفا حينما يتعلق الأمر بقضايا لا تمشي على سَنَنهم ومسلكهم، رغم وجود كل الدواعي نفسها للدفاع والحمية. وقد تكون هذه القضايا أكثر أهمية، وأولى أن يثار حولها النقاش، وتعقد لها حوارات وطنية، وهناك تنكشف اللعبة وتنجلي الحيلة لدى المتابع المنصف. تلك إذن مؤشرات تنبه وبشكل جلي إلى الحاجة الماسة لإعادة النظر في علاقتنا بالتواصل الاجتماعي في زمن وظرف نحتاج إلى مزيد من الانتباه ونشر الحقيقة، إذ يكفي ما يعيشه المجتمع من الضغط بسبب جائحة كورونا وما أحدثته من خوف وهلع في نفوس الصغار قبل الكبار.