إن الخطاب الديني اليوم منفصل تماما عن الواقع، ومنفصل كذلك عن زمانه ومكانه ومحيطه، ينبغي تجديده وعصرنته وعقلنته وترشيده، فديننا الإسلامي ما فتئ منذ نزوله يدعو الناس كافة إلى القراءة (اقرأ) وإلى التفكر والتدبر والتبصر والتعقل.. فكل مثقف أو مفكر أو كاتب أو عالم أو شيخ أو داعية ينتهج الخطابات العنصرية والمثالية والخرافية والطائفية، والحزبية والأيديولوجية والتكفيرية فهو في الحقيقة يساهم- بقصد أو دون قصد- في عرقلة مسيرة وطنه وتقدم أمته، كما يعاكس إنسانية الإسلام وعالميته، ولا يحصد من نوعية هذا الخطاب إلا الإعجابات و"اللايكات" والتصفيقات من قبل الغوغاء والدهماء من الذين ليس لهم لا في الفكر الديني، ولا في السياسة، ولافي الثقافة، ولا في العير ولا في النفير كما يقال. ولا أبالغ إن قلت بأن هناك أزمة فكر إسلامي، وأزمة خطاب ديني؛ وأزمة إبداع في شتى مجالات المعرفة والثقافة والعلوم، وإن اختلفت الرؤى حول نوعيتها، هل هي أزمة فكرية أم سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية؟ فهذا لا يغير من الأمر شيئا، ومن خلال استقرائنا للأوضاع الدينية في العالم الإسلامي يمكن تحديدها في جوانب كثيرة، منها عدم قدرتنا على فهم النصوص القرآنية فهما مقاصديا؛ بحيث كان الاهتمام بتفسير عموم آيات القرآن الكريم وإغفال النظر للقضايا العامة التي تناولتها هذه الآيات، وغلب التفسير الموضِعي بدل التفسير الموضُوعي الذي يهدف للإجابة على الأسئلة الكبرى والقضايا الأساسية والجوهرية، مع العلم أن مادة التفسير واسعة جدا وكان يمكن استثمارها للإجابة على قضايا الواقع ومعالجة هموم الناس ومستجدات العصر بموضوعية وعلمية؛ لكن شيوع الأول أحدث جمودا في علوم القرآن ككل، وكانت المرأة المسلمة المتضرر الأول من نوعية هذه التفاسير وهذا الجمود الذي أصاب عقل الفقيه والمفسر معا؛ بحيث فسرت آيات القرآن الكريم من قبل المفسرين تفسيرا ذاتيا ذكوريا جعلوا من أنفسهم جوهر الكون ومحور الوجود، كما منحوا لأنفسهم السيادة والريادة وشرعية التحكم في المرأة، واعتبروها ناقصة عقل ودين، وبضاعة، ودابة تركب، وأرض تحرث، وعبد من عبيدهم، يتصرفون فيه متى شاؤوا وكيفما شاؤوا، ومن يراجع كتب الأحكام الفقهية المتعلقة بالمرأة سيتفاجأ بكثير من المرويات والأحاديث الموضوعة والضعيفة؛ بل والمكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، تصب جلها في هذا الاتجاه، وهي تثبيت أفضلية الرجل على المرأة! ومن هذه الأحاديث أخرج الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "علقوا السوط حيث يراه أهل البيت، فإنه أدب لهم". وفي هذا السياق قالت لي أستاذة يوم أمس، وهي تحاورني عن حقوق المرأة في الإسلام وعن إنتاجها الفكري والثقافي والديني، قالت لي بالحرف الواحد: لا نكاد نعثر على مفسرة واحدة للقرآن الكريم عبر التاريخ الإسلامي، يا ترى ما السبب؟ فقلت لها مباشرة وبدون تردد، معك حق سيدتي وأوافقك الرأي، وخصوصا في شأن مشاركة النساء المسلمات في تفسير القرآن الكريم ورواية الحديث وغير ذلك من العلوم الإسلامية، مع العلم أن زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كانت المرأة تعيش عصرها الذهبي؛ بحيث برزت صحابيات عالمات ومحدثات وفقيهات ومفسرات، أمثال فاطمة الزهراء رضي الله عنها بنت رسول صلى الله عليه وسلم، وخديجة رضي الله عنها، حتى عائشة رضي الله عنها – وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم- أصبحت لها مدرسة فقهية وتفاسير معتبرة واجتهادات متميزة وفتاوى متعددة في كثير من القضايا والنوازل، وتوبيخها لأبي هريرة رضي الله عنه لخير دليل؛ لنقله معلومات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ربما لم يفهم معانيها، جاء في الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بأن ثلاثة يقطعون القبلة (أي الصلاة): "الكلاب والحمير والنساء". فقامت عائشة رضي الله عنها بتصحيح الحديث وأنكرت على أبي هريرة هذه الرواية، وقالت بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا وإنما قال: "إننا لسنا مثل اليهود الذين يقولون بأن ثلاثة أشياء تقطع القبلة: "الكلاب والحمير والنساء". فهذه القصة تعطينا بأن المرأة المسلمة كان لها وجود فعلي في عصر النبوة وفي جميع المجالات، سواء الدينية منها أو السياسية، أو الاجتماعية، وعدم وجود عالمات مسلمات ومفسرات للقرآن الكريم وفقيهات ومحدثات يرجع حسب رأيي الشخصي إلى أسباب كثيرة من أبرزها التقاليد والأعراف الجاهلية والبدوية التي كانت تعطي السيادة والقيادة للرجال على الناس، هذه التقاليد تغلغلت في وجدان وعقل الرجل المسلم ولم يستطع الانفكاك عنها، مع أن الإسلام أبطل الكثير منها وجعل المرأة كالرجل تماما ومتساوية معه ولا فرق بينهما إلا بالتقوى والعمل الصالح كما جاء في القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة؛ وليس كما دون في بعض كتب التراث الإسلامي بأن المرأة حبل من حبائل الشيطان، فتانة، أفعى، ساحرة، خبيثة، وإلى غير ذلك من الألفاظ المشينة، التي استعملت من قبل الرجل تجاه المرأة لإذلالها وإسكاتها وطمس مواهبها وإلجامها والتحكم فيها، تارة باسم التقاليد والأعراف، وتارة أخرى باسم الدين ..حتى تجرأت بعض الحركات الدينية المتطرفة في السنوات الأخيرة منعها من القراءة والكتابة والتعلم، فألّف أحدهم رسالة صغيرة تحت عنوان: "الإصابة في منع النساء من الكتابة"، فهذه الجهالات التي سجلت في بعض كتب الفقه الإسلامي عن المرأة مخالفة تماما لتعاليم رسالة الإسلام، فالمرأة في القرآن شقيقة الرجل ومتساوية معه، وشريكة له في تحمل المسؤوليات وتأدية الواجبات، حتى في طلب العلم، قال صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة"، وقوله صلى الله عليه وسلم "النساء شقائق الرجال" ولهذا فدورها في عصر النبوة وباقي الفترات المشرقة من تاريخنا الإسلامي، كان لها دور مهم وطلائعي، ولم يكن مقتصرا على الوظائف البيتية والأسرية، كما تعلمنا في هذه الكتب، وهناك نماذج لا تعد ولا تحصى من نساء رائدات ك "الشفاء العدوية" التي ولاها عمر بن الخطاب رضي الله عنه السوق وكانت أهلا لذلك، كما كان لها شأن في علوم الطب والتجارة والفلك وغير ذلك، وإلا فمن الذي اخترع الاسطرلاب، إنها مريم الإسطرلابي، كما أنَّ جامعة القرويين بالمغرب، وهي من أقدم الجامعات في العالم أسّستها امرأة فاضلة كرّست جهدها وثروتها لأعمال تعود على البشرية بالفائدة، إنها فاطمة الفِهرية، هذه الجامعة تخرّج منها الكثير من العلماء الكبار ووصل إشعاعها إلى أوروبا في القرون الوسطى؛ لكن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وابتعاد أهل الإسلام عن نور القرآن وعن هدي النبي الكريم، مع سيطرة التقاليد والعادات القبلية والأعراف الجاهلية، والتي أصبحت في ما بعد عبارة عن قوانين "إسلامية" يحتكم إليها معاشر الرجال وكأنها آيات قرآنية مقدسة ينبغي التقيد بها؛ بحيث من خلالها تم تهميش المرأة المسلمة وإبعادها عن ميادين العلم والفكر والمعرفة والسياسة، بل وتم حرمانها من كثير من المهن والمناصب، وخصوصا المتعلقة بالشؤون السياسية والدينية، لهذا لا نكاد نعثر في تاريخنا الإسلامي على امرأة واحدة مفسرة للقرآن الكريم، أو رئيسة دولة، أو قاضية أو رئيسة لجامعة إسلامية، أو مفتية أو وزيرة.. وهذا في الحقيقة مخالف لروح الدين الإسلامي ومخالف كذلك لجوهر القرآن الكريم الذي مدحها في أكثر من موضع، وأشاد بها في كثير من الآيات البينات؛ بل وسميت سورة في القرآن الكريم باسمها وهي سورة "النساء" وأكثر من هذا فقد كرمها الله تعالى من فوق سبع سماوات وجعل الجنة تحت أقدامها، ومنحها الحرية المطلقة كالرجل تماما في تسيير شؤون حياتها، وما توصلت إليه المرأة المسلمة وغيرها من النساء في العالم اليوم من تحقيق مكاسب عدة، ما هو إلا بفضل البيان العالمي لحقوق الإنسان، مع أن الحقوق المتضمنة في هذا البيان العالمي في ما يتعلق بحقوق المرأة، كان قد ضمنها لها البيان القرآني منذ ما يزيد عن 14 قرنا.