تأثير بنية وعلاقات السلطة على الخطاب والسلوك متابعة الأحداث الأخيرة، خصوصا عملية سرقة الخرفان من رحبة الحي الحسني بالدار البيضاء وسرقة الصنابير والأغطية من مستشفى بنسليمان، جعلت بعض الناس يسائلون المنظومة الأخلاقية والقيمية التي تحكم سلوك المغاربة ويعلنون فشلها. مقاربتي للموضوع في هذا المقال قد تشارك الناس مساءلتهم لهذه المنظومة؛ لكنها قد تختلف معهم في ما يتعلق بالنموذج التحليلي الذي نستعمله لتفسير الأحداث. أدرك كباحث أن ليس هناك موقع اجتماعي أو موقع تحليلي يمكن أن نحكم انطلاقا منه على قيمة حقيقة نص أو خطاب أو سلوك بطريقة موضوعية حيادية بعيدا عن إرادة القوة أو السلطة؛ غير أن الدراسة السياقية القريبة من الواقع ومجرياته اليومية هي الكفيلة بضخ النظرية والتأويل بدم الحياة، وبالتالي تكون الدراسة أقرب إلى الحقيقة في سياقها الخاص وفي نسبيتها. ما يهم هو أن تكون إرادة الحقيقة لدى المؤول أقوى من إرادة القوة، بحيث أن تأويله لا يلغي تأويلات الآخرين بل يتعايش معها. لعل التفسير الأبرز لحدث سرقة الخرفان هو اعتبار السرقة رد فعل ضد جشع الكسابة والوسطاء، الذين رفعوا الأثمنة بدون وجه حق في ظروف استثنائية يعاني فيها أكثرية المواطنين شحا في المداخيل أو انعدامها. قد يكون التفسير مقبولا للحظة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار رشق الكسابة والوسطاء بالحجارة قبل أن يسقطنا في خطأ منهجي، بحيث إن هذا التفسير يحتاج إلى متغيرات أخرى وإلى نموذج تفسيري عام وشامل يمكن تطبيقه على حالات أخرى. يمكن اعتبار هذا السلوك استثناء من حيث طبيعة رد الفعل [العنف متبوعا بالسرقة]، ولا يمكن تطبيق هذا التفسير على الحدث الثاني الذي وقع ببنسليمان، حيث لم يتعرض المرضى لأي سوء معاملة بل العكس هو الذي حدث. التفسير الثاني الذي برز وانتشر في مواقع التواصل الاجتماعي هو التفسير السياسي الإيديولوجي الذي تبنته التيارات العلمانية التي أقرت بتراجع قيمي وأخلاقي وحملت مسؤولية ذلك لانتشار التدين الشكلي من طرف الإسلام السلفي النقلي أو الإسلام السياسي المهووس بالسلطة. فعلى الرغم من أن المناسبة التي كان الناس يستعدون للاحتفال بها دينية، فإن البعد الديني قد غاب عن الناس وقاموا بارتكاب فعل مخالف للدين والأخلاق والقانون. يعمم التيار العلماني هذا التفسير على سلوك بعض المتدينين الذين يلتزمون باحترام الظاهر من الدين [لباس، لحية، إقامة الصلاة في المساجد]؛ لكنهم يفشلون في الالتزام بقواعد الدين في المعاملات، بحيث يتصرفون بطريقة غير أخلاقية ولا تليق بمتدين. يرد التيار المخالف لهذا التفسير بأن هناك فرقا بين الدين والتدين كملاحظة أولى؛ وبالتالي فالدين ليس مسؤولا عن هذه التصرفات، وما وقع هو سلوك فردي مستقل لشخص ربما غير ملتزم بالدين وبتعاليمه. كما أن تفسير الخلل الأخلاقي بالتدين الشكلي ليس دقيقا، لأن من سرق من أجل أن يقيم طقسا دينيا ليس بمتدين أو لا يفهم الدين بطريقة صحيحة. التفسير الثالث هو سياسي ذو مرجعية أخلاقية. يضع هذا التفسير المنظومة الاجتماعية والسياسية موضع المساءلة؛ لأنها منظومة فاسدة مؤسسة على نسق فاسد في التعامل مبني على المحسوبية والريع وعدم الاستحقاق، وبالتالي هو نسق تضيع فيه حقوق الضعفاء الذين لا يستطيعون الدفاع عنها. يفترض هذا النموذج التحليلي أن الناس تنخرط في هذا النسق لحماية حقوقها والدفاع عنها بكل الوسائل؛ بما فيها العنف والاحتجاج، إذا لم يكن لديهم وسائل أخرى كسلطة نافذة أو قوة اجتماعية ضاغطة. قبل تقديم نموذج آخر قد يفسر الأحداث بطريقة مغايرة، نذكر فقط بما تعنيه الأخلاق والقيم؛ فالأخلاق هي منظومة قيم جالبة للخير وطاردة للشر، كالعدل والحرية والمساواة، وتصبح هذه المنظومة مع مرور الوقت مرجعية ثقافية للشعب ومصدرا للتشريع وسن القوانين. يساهم الدين بقدر كبير في تشكيل الأخلاق والقيم، ويربط عموما الأخلاق بفطرة الإنسان وميله إلى الخير ونفوره من الشر، وهي مبادئ وقيم ترتقي بالإنسان سلوكيا وروحيا. والقيم هي في أصلها مقاصد للمجتمع يسعى إلى تحقيقها إذا وافقت مصلحته وتجنبها إذا عارضتها. أصل القيمة مصلحة فردية أو اجتماعية تتحول مع مرور الوقت إلى مبادئ تتحكم في سلوك الإنسان الفردي والجماعي؛ غير أن القيم، على الرغم من الاتفاق عالميا على بعضها كقيم كونية صالحة لكل البشر، سواء في الدين أو التشريعات الدولية، فإنها تبقى نسبية من فرد إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر. وعلى الرغم من أننا نشجب جميعا فعل السرقة، فإن استحضار السياق والظروف يفسر ولا يبرر. نصل الآن إلى تفسير مبني على تأثير علاقة بنية السلطة والعلاقات المترتبة عنها على الخطاب، وأقدم بذلك نموذجا تحليليا موازيا للنماذج الأخرى ويتعايش معها. يفترض هذا النموذج ويؤكد، بناء على دراسات منشورة ومعروفة في المجال الأكاديمي الخاص بدراسات المقاومة، أن الخطاب العلني المنتشر في المجتمع سواء في الشارع أو في وسائل الإعلام أو في أي منبر علني يُمْكن للسلطة أن تصل إليه وتراقبه ليس الخطاب الوحيد الموجود في هذا المجتمع الذي يتناول مسألة هيمنة النخبة على باقي الشعب. هناك بالموازاة خطاب خفي غير معلن ولا يتم تداوله على مرأى ومسمع من السلطة الحاكمة، بل يتم تداوله في المجالات الخاصة والبعيدة عن المراقبة، وهو خطاب الطبقة المهيمن عليها. وبالموازاة كذلك مع هذا الخطاب هناك خطاب آخر خفي تتداوله النخبة الحاكمة في مجالاتها الخاصة. الخطاب الرسمي يوطد عملية الهيمنة وخلق رضا شعبي على سياسة الدولة، ويدعمه المواطن المهيمن عليه إلى حد ما في العلن، خوفا من رد فعل السلطة. هناك من يتحدى هذا الخطاب في العلن ويدخل في صراع مفتوح مع السلطة الحاكمة؛ غير أن ما يهمنا أكثر هو هذا الخطاب الخفي لباقي الشعب المهيمن عليه الذي يعبر فيه المواطن العادي عن رأيه الحقيقي في السلطة والدولة حالما يشعر بالأمان، خلف الكواليس أو في مجالات خاصة بعيدة عن مراقبة أعين النخبة الحاكمة. مكنت وسائل التواصل الجديدة من نشر وتداول هذا الخطاب، وإن بطرق متحفظة وخفية. في وقت الأزمات التي يكون فيها المواطن تحت ضغط الظروف ويعيش تجربة تكون فيها الأولوية لقيم أخرى كقيم البقاء، من أمن جسدي وغذائي وحياتي، يخرج هذا الخطاب إلى العلن ويؤطر السلوك في لحظة غضب وسخط، غير مكترث بالعواقب. تم تأطير فعل السرقة بخطاب المظلومية والغبن وتم توسيع الإطار ليشمل، ليس فقط المستهدفين المباشرين [الكسابة والوسطاء]، كل المسؤولين على الظلم الذي تعرضوا له بما في ذلك السلطة. في الحالة الثانية، لم تكن هناك أزمة ظاهرة تمارس ضغطها على المرضى في مستشفى بنسليمان؛ لكن سلوكهم يدل على وجود خطاب خفي لديهم يفترض أن الدولة فاسدة والسياسيين فاسدون وأن ما يوجد خارج بيوتهم هو في حكم الغنيمة ويمكن سرقته كرد فعل ضد الظلم الذي يصيبهم من جراء السياسات الحكومية حسب اعتقادهم. أخلاقيا، لا يمكن قبول سلوك يضر بالآخرين ولا بالمنشآت العامة؛ لكن قراءة هذه النماذج التحليلية قد تسلط الضوء على السياق والحيثيات من أجل الفهم والتأمل والتدخل في تغيير مسار السياسة والأخلاق وضبط العلاقة بين النخب الحاكمة وباقي الشعب بطريقة أفضل. *أستاذ باحث/ جامعة أبي شعيب الدكالي الجديدة