قد يكون تقديم الحكومات لاستقالتها أمرا عاديا في مجموعة من الأنظمة الديمقراطية، خصوصا إذا كثرت فضائحها وشعر أعضاؤها أن الأمر تجاوز الهفوات إلى الإخفاق. ورغم ما انتشر مؤخرا من أخبار عن مجموعة من أعضاء الحكومة المغربية وهفوات بعضهم، لكن تقديم الاستقالة يبقى خيارا يكاد يقترب من المستحيل لحد الآن. الدكتور ميلود بلقاضي، أستاذ التعليم العالي-كلية الحقوق أكدال- الرباط، يحاول أن ينقب في مقاله هذا عن الفروقات التي تجعل هذا الأمر هناك ممكنا وهنا لا. فيما يلي نص المقال: تعتبر عملية التصويت في الانتخابات ضد الحكومات إجراء دستوريا وآلية ديمقراطية بيد الشعوب، للتعبير عن رفض سياسات الحكومات، ودفعها إلى الاستقالة عبر تصويت علني تعبر فيه هذه الشعوب عن سحب ثقتها من الحكومة القائمة لكونها لا تعبر عن الإرادة الشعبية. وهذا السلوك هو عمق بيداغوجية الديمقراطية الحقة. وتقديم الحكومات لاستقالتها هو سلوك عادي في الأنظمة الديمقراطية، لكونه أحد مكاسب البناء الديمقراطي السليم، حيث إن الاستقالة من تحمل تدبير الشأن العام بعد نتائج العملية الانتخابية، لا تتطلب مفاوضات سرية وتسريبات وإشعاعات قد تمتد لأسابيع وشهور، بل تتطلب ساعات قليلة لاتخاذ قرار الاستقالة، لأنه يكون في الأصل مؤطرا سياسيا بالثقافة السياسية الديمقراطية كما يقول آلان تورين. ولنا في التجربة الفرنسية الأخيرة نموذجا، حيث لم تتردد الحكومة الفرنسية ولو لحظة في تقديم استقالتها للرئيس الفرنسي بعد هزيمتها القاسية في الانتخابات البلدية التي عرفتها فرنسا هذا الأسبوع. ساعات قليلة من بعد إعلان هذه النتائج، قدم رئيس الحكومة الفرنسي استقالته وتم تعيين رئيس حكومة جديد وتشكيل حكومة جديدة في 24 ساعة، وفق المبادئ الديمقراطية، حيث قبلت الأحزاب المنهزمة والأحزاب المنتصرة نتائج صناديق الاقتراع، لتنكب بعد ذلك على عملية التقييم الموضوعي المبني على النقد الذاتي. الحزب الحاكم بفرنسا الذي يقوده ماكرون أراد حكم فرنسا وتدبير السياسات العمومية بشكل عمودي، وعدم إعطاء العناية للخطوط الأفقية في العلاقة بين الحكام والمحكومين، لذلك كانت كلفة هزيمته باهظة أدت إلى فقدان حزبه أهم المدن الفرنسية الكبرى، الأمر الذي دفع رئيس الوزراء الفرنسي إدوار فيليب يوم الجمعة إلى تقديم استقالة حكومته للرئيس إيمانويل ماكرون الذي قبلها، رغم أن 57% من الفرنسيين أرادوا بقاءه في منصبه، وفق استطلاع للرأي نشره معهد "إيلاب بيرجي ليفرو". مباشرة بعد استقالة إدوار من منصبه، عين الرئيس الفرنسي جان كاستكس رئيسا للوزراء ودعاه لتشكيل حكومة تأخذ بعين الاعتبار معطيات ونتائج الانتخابات، وتحترم مبادئ التحالفات المبنية على أسس المنطق وليس على أسس المصالح. إنه درس فرنسي حقيقي في الديمقراطية فرضه تشكل خريطة سياسية جديدة بفرنسا، احتُرم فيه منطق النتائج الانتخابية الأخيرة بعد انتصار مهم لليمين وتقدم دال للجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة. يستخلص من هذا كله أن الديمقراطية عند الأنظمة والشعوب الديمقراطية هي تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، إنها ممارسة واعية للعقاب الشعبي الصارم للمؤسسات وللفاعلين المقتنعين بأن الديمقراطية التمثيلية هي التداول على السلطة، لكون الهزيمة أو الانتصار في الانتخابات عند الحكومات الديمقراطية هي منظومة بيداغوجية، وهو ما ميز سلوك الحزب الحاكم المنهزم وسلوك الأحزاب المنتصرة في الانتخابات البلدية الفرنسية، حيث إن الحزب الحاكم لم يقدم تبريرات للهزيمة، والأحزاب المنتصرة لم تلجأ إلى التشفي بقدر ما تم التركيز على أخطاء الحزب الحاكم منذ توليه السلطة، كل هذا يرجع إلى مسألة واحدة هي صلابة التقاليد الثقافية الفرنسية الديمقراطية. هذه التقاليد هي ما يمنع تحويل الهزيمة أو الانتصار في هذه الانتخابات إلى حروب خطابية، أو إلى تهم متبادلة بين الأحزاب المشاركة في العملية الانتخابية، كتدخل الدولة لهذا الحزب أو ذاك، أو الطعن في النتائج أو الاحتجاج ضد وزارة الداخلية. كل الأحزاب المشاركة في الانتخابات قبلت بنتائجها المؤلمة أو المفرحة، لاقتناع الأحزاب المنتصرة والمنهزمة أن المنتصر في الأول وفي الأخير هو النموذج الفرنسي الديمقراطي، ومثل وقيم الجمهورية الفرنسية الخامسة، وبأن الممارسة الديمقراطية هي التي انتصرت في النهاية لتعزيز الرصيد الديمقراطي الفرنسي. لذلك، لم نسمع أثناء إجراء الانتخابات أو بعد إعلان نتائجها أن حزبا من الأحزاب طعن في النتائج وفي مسار العملية الانتخابية، أو اتهم أي جهاز من أجهزة الدولة الساهرة على الانتخابات ولا أي مس بمصداقيتها. أقول هذا الكلام لأن المغرب يعيش اليوم على إيقاع فضائح وكوارث بعض الوزراء، ورئيس الحكومة يعترف بضعف أداء حكومته وببلقنة أغلبيته الحكومية والبرلمانية، وبسخط المواطن على أداء حكومته التي فضحت جائحة كورونا ضعفها وعدم انسجامها وعدم توفرها على رؤية استراتيجية لمغرب ما بعد كورونا، ورغم كل ذلك، فلم يتجرأ رئيس الحكومة على إعفاء أي وزير من وزراء حكومته الفاشلين الذين يرفضهم الشعب، ولم يتجرأ أي وزير على تقديم استقالته رغم كثرة الكوارث التدبيرية والحكاماتية التي تمارس من طرف بعض وزراء الحكومة الحالية. الأمر الذي يجعلنا نتساءل: لماذا لا تستفيد الحكومة المغربية برئيسها ووزرائها وزعماء أحزابها من الدروس الديمقراطية الفرنسية؟ ألا تستمد المرجعيات الدستورية والقانونية والسياسية لرئيس الحكومة ولأعضاء حكومته وللأحزاب السياسية بالمغرب، فلسفتها العامة من دستور وقوانين وثقافة المدرسة الفرنسية؟ لماذا يقتبس الفاعل السياسي المغربي كل شيء من المدرسة الفرنسية إلا التجارب الفرنسية في مجال الممارسة الديمقراطية؟ لماذا لا يستفيد ساستنا ولو قليلا من الدروس الديمقراطية التي راكمتها مختلف التجارب الانتخابية العالمية والقبول بنتائج صناديق الاقتراع واحترام إرادة الشعب؟ وقبل ذلك احترام أجهزة الدولة لتظل مصداقيتها محمية وهيبتها قائمة؟ أعرف أنها أسئلة حارقة ومقتنع بأن الإجابة عنها ليست بالأمر الهين، لكون ثقافة الإعفاء والاستقالة من المناصب السامية والحكومية بالمغرب غير واردة في ذهن مسؤولينا، لأن هذا الصنف من الديمقراطية في النهاية هو ثقافة متأصلة وممارسات بيداغوجية قبل أن تكون قوانين ومساطر ونصوص. وعليه، فسؤال الإعفاء والاستقالة من المناصب عند النخب السياسية المغربية مرتبط في العمق بمسألة الديمقراطية الحزبية المطروحة اليوم على الأحزاب المغربية، والذي يجب أن ألا ينصب فقط على بناء أحزاب ديمقراطية تستجيب للمعايير والشروط، ولكنه يجب أن يشمل مدى استجابة بنية الأحزاب لبيداغوجية ديمقراطية معبرة عن الإرادة الشعبية لإقامة مؤسسات حزبية ديمقراطية، تعمل لصالح الشعب بكونها ممثلة له عن طريق الانتخابات ومسؤولة عن تدبير شؤونه وخاضعة لرقابته. *