صدر عن المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية كتاب جديد بعنوان "الهجرة إلى الشمال.. سيرة تاجر أمازيغي"، ويتعلق الأمر بترجمة لكتاب جون واتربوري "North for the Trade : The Life and Times of a Berber Merchant" الصادر سنة 1972، حيث قام بترجمته عبد المجيد العزوزي الذي سبق له أن ساهم في ترجمة مونوغرافية أيث ورياغر لكاتبها دايفيد هارت من الإنجليزية إلى العربية. ويتناول الكتاب سياق استقرار أمازيغ جنوب المغرب (إسوسييْنْ) في الأوساط الحضرية، خاصة منها الدارالبيضاء. ويُعنى الكتاب كذلك بتحليل التغيرات السوسيوسياسية لمغرب القرن العشرين، وعلاقة المهاجرين السوسيين الأوائل بالوسط الحضري، فضلا عن التطرق إلى التحديات الثقافية التي يواجهونها من أجل الحفاظ على هويتهم الثقافية والتعبير عنها. تبعا لذلك، أورد محمد أوبنعل، باحث في علم الاجتماع بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ضمن مقالة بعثها لهسبريس، أن "جون واتربوري يفسر في كتابه نشأة الظاهرة السوسية بتوسع الأحياء الأوروبية، خلال فترة الحماية، بكل من طنجةوالدارالبيضاء، ثم تزايد المستهلكين المأجورين بما في ذلك المغاربة في الأحياء القديمة والجديدة. كما أنهم أنشؤوا علاقات في البداية مع تجار الجملة اليهود، ليضمن هؤلاء توزيع منتوجاتهم بفضل تجار التقسيط السوسيين؛ بل إن بعضا من كبار التجار السوسيين أصبحوا تجار جملة، ليهيمنوا بذلك على جزء من توزيع المواد الغذائية". وإليكم المقالة: تضم عبارة "غْلينْ إبودْرارْنْ سْ لْغْرْبْ ⵖⵍⵉⵏ ⵉⴱⵓⴷⵔⴰⵔⵏ ⵙ ⵍⵖⵔⴱ" مصطلحات أمازيغية أو مستمزغة تعبر عن ظاهرة هجرة التجار السوسيين إلى المدن الكبرى والتي يتناولها جون واتربوري في كتابه "الهجرة إلى الشمال. سيرة تاجر أمازيغي". فمصطلح إبودْرارْنْ ⵉⴱⵓⴷⵔⴰⵔⵏ يعني قاطني أدرارⴰⴷⵔⴰⵔ أي الجبل إلا أنه يشير، في الوسط التجاري الأمازيغي بمدينة كالدارالبيضاء، إلى السوسيين المنحدرين من المنطقة الجبلية للأطلس الصغير ومن جبل لْكْسّْتْ ⵍⴽⵙⵙⵜ على وجه الخصوص. أما المصطلح الثاني لْغْرْبْ ⵍⵖⵔⴱ فهو تمزيغ للكلمة العربية التي تدل على الجهة الغربية؛ ولكن المقصود بها عند السوسيين ليس هي منطقة الغرب نواحي سيدي قاسم بل مدن الشمال التي يهاجرون إليها لمزاولة تَسْبّابْتْ ⵜⴰⵙⴱⴱⴰⴱⵜ أي التجارة. ويستعمل السوسيون فعل إغْلِي ⵉⵖⵍⵉ أي "صَعَدَ" أكثر من إدّا ⵉⴷⴷⴰ "ذَهَبَ" أو إمُّودّا ⵉⵎⵎⵓⴷⴷⴰ "سَافَرَ" للحديث عن هجرتهم إلى مدن الشمال. وقد يكون ذلك راجعا إلى أن إغْلِي ⵉⵖⵍⵉ يعبر عن رغبة في الصعود الاجتماعي المرافق للهجرة من جبل لْكْسّْتْ ⵍⴽⵙⵙⵜ بالأطلس الصغير إلى مدينة في نمو سريع كالدارالبيضاء. وقد نجد في الشعر الأمازيغي بعض الإشارات إلى النجاح الاجتماعي عندما يصبح السوسي تاجرا في مدن الشمال كما في هذا المقطع الذي اختار فيه شاعر أحواش، المرحوم يحيى بوقدير، فعل إزْرِي ⵉⵣⵔⵉ أي المرور للدلالة على الانتقال إلى حالة مادية جديدة: إلّا كرا إزري س لغرب إعّمر ڭيس ⵉⵍⵍⴰ ⴽⵔⴰ ⵉⵣⵔⵉ ⵏⵉⵜ ⵙ ⵍⵖⵔⴱ ⵉⵄⵎⵎⵕ ⴳⵉⵙ تيلي تّيليفون غ مناد ن إمزّوغ نس ⵜⵉⵍⵉ ⵜⵜⵉⵍⵉⴼⵓⵏ ⵖ ⵎⵏⴰⴷ ⵏ ⵉⵎⵥⵥⵓⵖ ⵏⵙ إنّا غ إيلّا لبيعوشّرا إلكمد ⵉⵏⵏⴰ ⵖ ⵉⵍⵍⴰ ⵍⴱⵉⵄⵓⵛⵛⵔⴰ ⵉⵍⴽⵎⴷ وقد تم تمزيغ مصطلحات عربية أخرى لتدل على وظائف وسط فضاء عمل التجار السوسيين. فمصطلح توشّْرْكا ⵜⵓⵛⵛⵔⴽⴰ يدل على الشراكة بين التجار بينما أڭْلّاسْ ⴰⴳⵍⵍⴰⵙ هو المسير الذي يقوم بتدبير الحانوت من دون أن يكون شريكا في رأس المال. ولقد بذلنا مجهودا في إعادة نشر الترجمة العربية لهذا الكتاب، بعد قرابة نصف قرن على نشره باللغة الإنجليزية، لأسباب عديدة؛ منها، من جهة، إتاحة الفرصة للجيلين الثالث والرابع من حفدة إبودْرارْنْ ⵉⴱⵓⴷⵔⴰⵔⵏ لمعرفة التحولات الاجتماعية التي انخرط فيها أجدادهم، ومن جهة أخرى، تفسير الظاهرة السوسية لإخراجها من الأفكار العفوية والمسبقة لدراستها بشكل ممنهج. أهمية هذا الكتاب تكمن كذلك في منهجيته المنفردة؛ فعوض الارتكاز، مثل العديد من الأبحاث الأكاديمية، على الإحصائيات والاستمارات وتعدد الاستجوابات ارتأى الكاتب استعمال سيرة ذاتية لتاجر واحد استطاع أن يعطي بها صورة عن الظاهرة السوسية. وقد مكنه ذلك، حسب ما دونه في مقدمة الطبعة الإنجليزية، من أن لا يطمس "الصعود المشوِّق" للسوسيين بالدارالبيضاء بمنهجية عقلانية كانت ستبقى حبيسة التقنية. يفسر جون واتربوري في كتابه نشأة الظاهرة السوسية بتوسع الأحياء الأوروبية، خلال فترة الحماية، بكل من طنجةوالدارالبيضاء، ثم تزايد المستهلكين المأجورين بما في ذلك المغاربة في الأحياء القديمة والجديدة. كما أنهم أنشؤوا علاقات في البداية مع تجار الجملة اليهود، ليضمن هؤلاء توزيع منتوجاتهم بفضل تجار التقسيط السوسيين؛ بل إن بعضا من كبار التجار السوسيين أصبحوا تجار جملة، ليهيمنوا بذلك على جزء من توزيع المواد الغذائية. وقد أبرز الكاتب التوازن الحاصل بين التنافس الشديد بين السوسيين الذي لا يخرج إلى العلن والضغوطات للحفاظ على توازن المجموعة، بالإضافة إلى قدرة السوسيين على التأقلم مع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها المغرب في القرن العشرين. فيما يخص نقطة التماسك الاجتماعي للمجموعة، فقد أورد الكتاب معطيات قيمة لمحاولة تفسيرها في الوسط الحضري؛ فقد لعبت القروض الخارجة عن النطاق البنكي دورا في تدعيم العلاقات بين تجار الجملة والتقسيط وخلق نظام الراعي والزبناء (Système de patron-clients) بين السوسيين. فالسلف يمنحه التاجر السوسي الكبير للمقترِض لأنه يعلم أن هذا الأخير سيعمل على مضاعفة الأرباح. أما إن لم يُرجع الدَّيْن الذي عليه فالعقوبة قد تؤدي إلى الإقصاء من المجموعة السوسية في كل المدن التي تتواجد فيها، وتتم هذه العمليات دون اللجوء إلى عقود مكتوبة أو إلى المحاكم. وقد دعَّم بعض إبودْرارْنْ ⵉⴱⵓⴷⵔⴰⵔⵏ تجارتهم بشكل كبير من خلال الحصول على بونات خلال فترة الندرة في أربعينيات القرن الماضي أو رخص تجارة الجملة في الشاي والسكر أو القدرة على شراء بقع أرضية في فترة كانت فيها الأثمان منخفضة. وقد استطاع بعض من التجار الخروج من البيع بالتقسيط إلى الاستثمار على المدى الطويل وتكوين مجموعات كبرى قد نجدها في الصناعة والعقار والفلاحة والمواد الغذائية. وقد حفظت لنا الذاكرة الشعبية الأمازيغية تلك النجاحات مثل هذه المقاطع لأغنية تتحدث عن التاجر الحاج حسن الراجي المعروف ب"بُوَاتايْ": أوفيغ يان التّاجر إيلّا غ الدارالبيضاء ⵓⴼⵉⵖ ⵢⴰⵏ ⵜⵜⴰⵊⵔ ⵉⵍⵍⴰ ⵖ ⴹⴹⴰⵕ ⵍⴱⵉⴹⴰ حسن ڭو وامّلن لّان س لموجود ⵃⴰⵙⴰⵏ ⴳⵓ ⵡⴰⵎⵎⵍⵏ ⵍⵍⴰⵏ ⵙ ⵍⵎⵓⵊⵓⴷ دارس أغ إيلّا واتاي العرش د لعنبر ⴷⴰⵔⵙ ⴰⵖ ⵉⵍⵍⴰ ⵡⴰⵜⴰⵢ ⵍⵄⵔⵛ ⴷ ⵍⵄⵏⴱⵔ كولّ ماتّ ايسّان أور سار إيژري لعيوب ⴽⵓⵍⵍ ⵎⴰⵜⵜ ⵉⵙⵙⴰⵏ ⵓⵔ ⵙⴰⵔ ⵉⵥⵕⵉ ⵍⵄⵢⵓⴱ ويزعم الكاتب، من خلال تحليله للاقتصاد المغربي، أن الوسطاء، الذي يوجد من بينهم تجار سوسيون، عددهم كبير إن نحن أخذنا بعين الاعتبار مسألة الفعالية الاقتصادية بمعناها الضيق؛ لكن واتربوري ينظر إلى هؤلاء الوسطاء "الزائدين عن اللزوم" كنوع من إعادة التوزيع في ظل انعدام فرص أكبر للشغل وهم يقدمون كذلك خدمات هامشية. غير أن للحاج براهيم، صاحب السيرة في هذا الكتاب، نظرة استشرافية يرى فيها الظهور التدريجي للمتاجر الكبرى كتهديد لهؤلاء الوسطاء. وقد استطاع الكاتب في الفصل الخاص ب"لْبوليتيكْ" ⵍⴱⵓⵍⵉⵜⵉⴽ أن يرصد التحولات التي عرفتها علاقة التجار السوسيين بالسياسة؛ فقد ابتدأ ذلك بالنضال المسلح القَبَلي ضد احتلال الأطلس الصغير من طرف الفرنسيين وقد ساهموا بعد ذلك في الحركة الوطنية الحضرية، حيث تحمل عدد منهم عبئا كبيرا داخل الحركة إلا أن قيادة حزب الاستقلال ظلت مكونة أساسا من نخبة متعلمة سمحت لها ظروفها المادية بالسفر إلى الخارج وتحديد إستراتيجية الحركة الوطنية. وقد فضّل السوسيون، حسب الحاج براهيم، عدم ضرب وحدة الحركة خدمة للقضية الوطنية معتقدين أن استقلال البلاد سيعطي وزنا أكبر للسوسيين وباقي القوى بالمغرب؛ إلا أن الأمور، حسب الحاج براهيم، لم تسر في هذا المنحى، فاتضح للتجار الصغار السوسيين ولباقي القوى التي ناضلت من أجل إنهاء الاستعمار أن المتعلمين الميسورين المنبثقين من بورجوازية حزب الاستقلال استحوذوا على المناصب المهمة في الحكومة والإدارة المغربية. ويُقِرّ الحاج براهيم بأن جزءًا من السوسيين المقاومين للاستعمار لم يُسْتَثْنوا من الرخص بعد 1956 إلا أن "الغنائم" كانت كبيرة بالنسبة لبورجوازية حزب الاستقلال مقابل البسطاء من المقاومين. فجاء انشقاق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عن حزب الاستقلال سنة 1959، لينضم فيه التجار السوسيون بشكل شبه جماعي إلى المثقفين اليساريين بزعامة المهدي بن بركة. وقد تقاطع السوسيون مع هذا الخط اليساري، حسب واتربوري، لأنهم أرادوا إنهاء هيمنة البورجوازية الفاسية. بينما بَقِي التجار السوسيون الكبار، أمثال الحاج عابد، بعيدين عن السياسة خلال هاته الفترة الحرجة من تاريخ المغرب. وقد حقق السوسيون بالفعل انتصارهم على بورجوازية حزب الاستقلال عندما تصدروا، عبر لائحة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، نتائج انتخابات سنة 1960 لغرفة التجارة والصناعة بمدينة الدارالبيضاء. لتظهر كذلك بوادر الاختلافات داخل حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بين الخط اليساري الذي يضم مثقفي قيادة الحزب التي حاولت فرض بعض الأمور من الأعلى، والخط الشعبي الذي يوجد به التجار السوسيين. وقد تلت ذلك فترة من القمع والاعتقالات وحالة الاستثناء في سنة 1965، ليبتعد جزء من التجار الصغار السوسيين عن العمل السياسي المباشر ويُضطر عدد منهم إلى التأقلم مع هيمنة السلطة المركزية من خلال تأسيس جمعيات مهنية مستقلة للدفاع عن مصالحهم. قد نتساءل اليوم، بعد نصف قرن تقريبا عن البحث الذي أجراه واتربوري، عن علاقة التجار السوسيين بالنضال السياسي. هل ترتبط بعض من جمعيات تجار التقسيط بالدارالبيضاء بالاحتجاجات المرتبطة بالأرض؟ وماذا عن كبار التجار السوسيين؟ ماذا عن ارتباط حفدة الفاعلين الاقتصاديين الأوائل بمسألة الهوية والثقافة والتمسك باللغة الأمازيغية في ظل التحولات والمستجدات التي تعرفها البلاد؟ استطاع واتربوري، عند دراسته لتَدَيُّن الحاج براهيم، تِبيان وجود خط "سلفي إصلاحي" لدى بعض السوسيين يهدفون من خلاله إلى إظهار تشبثهم بالاستقامة في تطبيق مبادئ الإسلام ومنافستهم للفاسيين في بعض مظاهر التشبث بالثقافة الإسلامية المشرقية. هل لا يزال اليوم هذا التيار قويا لدى التجار السوسيين كما كان الأمر ابتداء من السبعينيات عندما قام، أمثال الحاج عابد، بمحاربة التدين الصوفي المرتبط بالمواسم الدينية الشعبية والأولياء و إنْموڭّارْنْ ⵉⵏⵎⵓⴳⴳⴰⵔⵏو لْمْعاريفْ ⵍⵎⵄⴰⵔⵉⴼ؟ لقد جاءت الدراسة التي قام بها واتربوري مختلفة عن تلك التي أنجزها الباحثون الفرنسيون، المنخرطون في المشروع الاستعماري، أمثال روبير مونطاني الذي عند اهتمامه بنشأة البروليتاريا المغربية، خصص حيزا للتجار السوسيين، وأندري أدام الذي أولى أهمية للسوسيين في التحولات التي عرفتها مدينة الدارالبيضاء بالإضافة إلى تقارير ضباط الشؤون الأهلية حول قبيلة أمّلن أو إيضاوڭنيضيف وهجرة التجار السوسيون إلى مدن الشمال. وهو يختلف كذلك عن الدراسات الحديثة التي أنجزها كل من عبد الله كيكر عن أولحاج أخنوش والسيرة الذاتية لمولاي مسعود أڭّوزال وكتاب عمر أمرير "العصاميون السوسيون بالدارالبيضاء" الذي يعطي بورتريهات عن سوسيين لعبوا أدوارا رائدة في مختلف المجالات (المقاومة، التجارة، الموسيقى، الرياضة، إلخ). إن كتاب جون واتربوري، بالإضافة إلى سرد قصة نجاح الحاج براهيم ومعه بزوغ الظاهرة السوسية، ينخرط في نقاش، ضم مجموعة من الباحثين يهتمون بمدى مساهمة المجموعات الثقافية والإثنية (السوسيون بالمغرب، المزاب بالجزائر والدجربيون بتونس) في تطور الرأسمالية بشمال إفريقيا، على غرار الدور الذي لعبته الأخلاق البروتيستانتية في نشأة الرأسمالية حسب ماكس فيبير؛ إلا أن الكاتب يرفض هذا الطرح ويَزعم أن الدولة، في حالة المغرب التي درسها، يجب أن يكون لها دور تنموي مهم. وقد نتساءل اليوم إن كانت الدولة، في صيغتها المركزية، الوحيدة القادرة على الدفع بعجلة التنمية أم أن المستويات المحلية الأخرى، بما في ذلك الجهات، قد تلعب دورا مهما في ذلك؟ فعلى الرغم من أن الكاتب تطرق، في بعض من فقراته، إلى وصف المؤسسات الجماعية الحية فإنه، وبحكم موضوعه الأساسي ومنهجيته، لا يطرح سبل الاعتماد على حيوية المؤسسات المحلية ك لْجْماعْتْ ⵍⵊⵎⴰⵄⵜ و تيويزي ⵜⵉⵡⵉⵣⵉ و إنموڭّارن ⵉⵏⵎⵓⴳⴳⴰⵔⵏ لمحاولة بناء تنمية تنطلق من الأسفل إلى الأعلى عوض الخضوع لتصورات مركزية.