حينما تبت أعلى هيئة قضائية في قضية معينة يصبح قرارها عنوانا للحقيقة بالنسبة للقضية المعروضة عليها، إلا أن القرار عدد 207/2020 الصادر في ملف النقض 3226/2017 بتاريخ 2020.06.29، فضلا عن كونه حسم في قضية سيدة ازدادت سنة 1973 بأكونيت بئر كندوز بالداخلة، التمست الحكم لها بالجنسية الأصلية استنادا لمقتضيات الفصل 17. 1 . ج من القانون المدني الإسباني، حينما قضى بنقض القرار الاستئنافي الصادر عن المحكمة الإقليمية بجزر البليار الذي قضى بمنحها الجنسية الأصلية. فقد كان - أي القرار - بمثابة إعلان عن حقائق قضائية بالنص في صلب القرار على أن الصحراء لم تكن قط أرضا إسبانية وأن الأشخاص الذين يعيشون في الصحراء يتمتعون بالجنسية الإسبانية من الدرجة الثانية، إلى حد تمكينهم من وثائقهم الرسمية دون الاعتراف لهم بالمواطنة، باعتبار أن هذا التعليل انصرف أثره على قضايا رائجة أمام العدالة الإسبانية وأخرى قيد الإعداد اختلقها بعض الانفصاليين استنادا إلى أن إسبانيا هي المسؤول الإداري بالصحراء من حيث القانون وليس الواقع. فالقرار المذكور ليس بالحدث الجديد، ولا يمكن اعتباره تحولا في الوضعية القانونية والقضائية للصحراء المغربية المسترجعة بل هو تكريس للمنحى الذي ذهبت إليه الغرفة الإدارية الثالثة بالمحكمة العليا الإسبانية، في قرارها المؤرخ في 7-11-1999 الذي وإن لم تعتمد فيه على مقتضيات الفصل 17. 1 . ج المذكور، فإنها استندت على الفصل 22 من نفس القانون حينما ميزت بين التراب الإسباني الكولنيالي والتراب الإسباني الوطني الأصلي، أي أن الصحراء كانت تعتبر آنذاك مستعمرة إسبانية إسوة بإيفني وغينيا إلا أنها لا تدخل ضمن التراب الوطني الإسباني وأن اعتبارها الإقليم 53 كان من أجل تحسين النظام الاستعماري. من هنا تكمن أهمية القرار المذكور الصادر في القضية في كونه حسم في نقطة قانونية، طالما استغلها الانفصاليون في معاركهم القانونية والقضائية التي كانوا يختلقونها في أوقات مدروسة، للتأثير على قرارات الهيآت الدولية المعنية بملف الصحراء المغربية. إن تأكيد المحكمة العليا في صلب قرارها بكون الصحراء لم تكن قط أرضا إسبانية يمكن أن تكتسب بها الجنسية الأصلية، كان بمثابة صدمة بددت أحلام الانفصاليين ومن يسير في فلكهم، لكونها حسمت وعن صواب في مآل قضايا ما زالت مدرجة برفوف المحكمة الوطنية الإسبانية يتابع فيها بعض المسؤولين المغاربة، وآن أوان حفظها استنادا لمبدأ إقليمية القوانين لكون القضاء الإسباني غير مختص للبت في هذه القضايا إعمالا للفصل 23 من القانون التنظيمي للسلطة القضائية 6/1985، كما وقع تعديله بمقتضى القانون التنظيمي 1/2014 في فقرته الثانية التي تنص على أن الاختصاص ينعقد للقضاء الإسباني بالنسبة للجرائم المرتكبة خارج التراب الوطني، كلما كان الجناة المسؤولون إسبان أو أجانب اكتسبوا الجنسية الإسبانية، في تاريخ لاحق عن قيام الفعل، شرط أن تكون الأفعال معاقب عليها في موطن التنفيذ عدا المقتضيات المتعلقة باتفاقية دولية، وأن يكون الضحية أو النيابة العامة قد تقدما بشكوى أمام المحاكم الاسبانية وأن لا يكون الجاني قد تمت تبرئته أو تمتع بعفو في الخارج أو تمت معاقبته من جهة ومن جهة ثانية استنادا للفقرة الرابعة التي تمنح الاختصاص للقضاء الإسباني في الجرائم المرتكبة من قبل الإسباني الجنسية أو أجانب خارج التراب الوطني وتكون مصنفة كجريمة طبقا للقانون الإسباني كجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية أو ضد الأشخاص أو الممتلكات المحمية في أوقات النزاعات المسلحة كلما كانت المساطر موجهة ضد إسباني أو ضد مواطن أجنبي مقيم بصورة اعتيادية في إسبانيا أو ضد أجنبي موجود بإسبانيا سبق أن رفض طلب تسليمه من قبل السلطات الإسبانية، جرائم التعذيب والجرائم المتعلقة بمقتضيات الفصول 174 إلى 177 من القانون الجنائي الإسباني، حينما تكون المسطرة موجهة ضد إسباني أو أن تكون الضحية إسبانية وقت ارتكاب الأفعال وأن يكون مرتكب الفعل موجودا بالتراب الإسباني... ولقد عمدت المحكمة الوطنية الإسبانية بمقتضى التعديل المذكور إلى حفظ بعض الملفات التي تحكمها قواعد العدالة العالمية (الكونية)، من قبيل قضية التبت الصينية التي كان متابعا فيها رئيس الدولة الصيني آنذاك هوجين طاو والوزير الأول الصيني السابق والمسؤول عن الأمن بالصين وكاتب الحزب بالتبت ووزير التخطيط والعائلة، وأيدتها المحكمة العليا الإسبانية في ذلك بمقتضى قرارها الصادر في 23 ماي 2015 لعدم توافر الشروط المذكورة في الفصل 23 المذكور. وقد كان من المفروض أن تأخذ الملفات التي تهم الجانب المغربي نفس المآل ولنفس العلة إلا أن بعض قضاة التحقيق لدى المحكمة الوطنية بإسبانيا كان لهم رأي آخر، حينما أصروا على استمرار المساطر في الملفات المخلوقة من قبل بعض الانفصاليين استنادا لكون إسبانيا مسؤولة إداريا بحسب القانون وليس الواقع، واعتبروها إقليما إسبانيا يجري عليه ما يجري على الأقاليم الإسبانية الوطنية الأخرى إعمالا لمقتضيات الفصل 8 من القانون المدني الإسباني والفصل 23.1 من القانون التنظيمي للسلطة القضائية، بل اجتهدوا -ولحاجة في نفس يعقوب- في أن يبتوا في هذه القضايا خلافا لما ذهبت إليه المحكمة العليا وعن صواب، فتبين خطأ منحاهم بصدور القرار 207/2020 وبتعليلاته الواضحة التي تنزع الاختصاص المكاني عن القضاء الإسباني. ومما لا شك فيه أن القرار المذكور جاء في سياق عدة أحداث حسمت فيها إسبانيا في التردد الذي كان يطبع تعاملها مع الكيان الوهمي، تحت ضغط بعض جمعيات المجتمع المدني المؤيدة للأطروحة الانفصالية ومراعاة أيضا لمصالحها الحيوية والمشتركة مع المغرب، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: - القرار الذي اتخذته وزيرة الخارجية الإسبانية بشأن منع تعليق شعار الجمهورية الصحراوية المزعومة وكذا رفع رايتها ضمن أعلام الاتحاد الإفريقي، بمناسبة يوم إفريقيا المنعقد في 25 ماي المنصرم لكون الكيان الوهمي غير معترف به من قبل الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي. - عدم الاعتراف بجواز السفر الدبلوماسي الذي يستعمله ممثلو البوليساريو في كافة التراب الإسباني واعتباره جواز سفر عاد. - دعوة مسؤولي حزب بوديموس المتحالف مع الحزب الاشتراكي الحاكم إلى التزام القانون واعتبار السياسة الخارجية سياسة الدولة، بعد اجتماع وزير الدولة والحقوق الاجتماعية المنتمي إلى حزب بوديموس مع "وزيرة" في الجمهورية الصحراوية المزعومة في مقر حكومي. إن قرار المحكمة العليا الإسبانية رغم كونه قابلا للطعن أمام المحكمة الدستورية وكذا أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، فإنه حسم في المهم بالنسبة للجانب القانوني والقضائي في العلاقة المغربية الإسبانية بالنسبة للصحراء المسترجعة ورسم أفق ومعالم الرؤيا القانونية والقضائية، والتي لن تتعدى حدود ما عللت به المحكمة العليا في قرارها المذكور الذي هو تكريس لمنحاها السليم والقانوني، بل هو إعلان عن كسب المغرب المعارك القانونية والقضائية المختلقة التي طالما انتعشت من "كون إسبانيا مسؤولة إداريا بحكم القانون وليس الواقع" وهو تبرير لا يجد أي سند قانوني يبرره سواء على مستوى المواثيق الدولية أو الممارسة القضائية المستندة للدستور والقوانين الإسبانية. فاتفاقية جنيف وضعت نظاما إجباريا يقضي بعدم تمديد المساطر القضائية خارج الحدود وعدم البحث عن الفاعلين خارج التراب الوطني بأي حال من الأحوال، كما أن الدستور الإسباني الذي أكد على أن إسبانيا تنتظم إقليميا في جماعات وعمالات ومجموعات مستقلة، ونص في الفصل 117 في فقرته الثالثة على أن السلطة القضائية تمارس فقط في المحاكم المحددة بمقتضى القانون وفق ما نصت عليه قواعد الاختصاص. وبالتالي فإن الجماعات المستقلة المحددة في 17 جماعة والتي لا يوجد من بينها إقليمي سيدي إفني والصحراء. أي جاء منسجما في ذلك مع القانون 40 المؤرخ في 19 نونبر 1975 المتعلق بإنهاء حالة الاستعمار في الصحراء المنشور بالجريدة الرسمية بتاريخ 20 نونبر 1975 تحت عدد 78. وفوق هذا وذاك فالصحراء هي تحت السيادة المغربية وقضاء مغربي لا يمكن بحال من الأحوال أن يسمح بالبت في قضايا تقع فوق ترابه. كما أن هذا القرار سيضع حدا للحرية التي يتحرك بها بعض الانفصاليين في إسبانيا مستغلين بعض الحركات التضامنية ومن اكتسب الجنسية الإسبانية منهم. ويبقى المعول عليه من الجانب المغربي تكريس هذا المكسب عن طريق الاستمرار في النهج الذي سلكه والصرامة التي طبعته، في عدة مواقف في الآونة الأخيرة سواء على مستوى الحدود مع الثغرين المحتلين في الشمال أو ترسيمه لحدوده البحرية وكذا لتطلعاته المشروعة. بل إن التحولات التي يشهدها العالم لن تسمح بوجود مجتمعات هجينة تحد من نماء المنطقة وتحتم على الجانب المغربي اتخاذ المبادرة في كافة الجبهات السياسية والقانونية والاقتصادية... *باحث ومحام بهيئة القنيطرة