لا يجادل عاقل فيما تنتفع به البشرية من مختلِف وسائل الاتصال والتواصل الإلكتروني، سواء أكانت مُسْهِمَة هي في إنتاجه وإنشائه أم كانت مجرد مستهلكة له فقط. لكن لهذا الانتفاع إجمالا درجاتٌ متفاوتة يصل بعضُها إلى الرّيادة والتّحكّم في ناصية البحث العلمي والتقدم الحضاري، ويصل بعضها الآخر -وهو الغالب- إلى إجادة الاستهلاك والتبعية فقط. إن منطلق تساؤلي عن حقيقة تقدّمنا العلمي في ظل ما يحتضن مختلِفَ أبحاثه -باكتشافاتها واختراعاتها- من متعدِّدِ الوسائل الإلكترونية التي اخترعها غيرُنا وطوَّرها بما هي عليه الآن، ويمعن في تعميق أساليبها وتنويع برامجها وتطبيقاتها بأدقَّ ممّا كانت عليه، ويسعى في تطويرها على الدوام مما هي عليه اليوم، حتى ينفرد -كما يريد- باحتكار تسييرها والتّحكّم في مخزونها ومفاتيح إدارتها مدى الزمن كما يشتهي، إن منطلقي هذا نابع من عدم ارتياحي لما نحن عليه من توافر أصحاب عقول بحّاثة مجدّة، في مختلِف مجالات الحياة العلمية المادية والعلمية الإنسانية، منهم الذين يؤثثون حضارة العالم من حولنا، لا يُفيد منهم بلدهم، وآخرون داخل بلدهم المغرب يناضلون بما تيسّر لهم من وسائل يحققون -بمضاعفة جهودهم وإخلاصهم- اختراعاتِهم وإبداعات اختصاصهم. لا يهمنا هنا دواعي التحاق أولئك ببلدان أجنبية وبقاء هؤلاء في بلدهم المغرب؛ لأن ما حصل قد حصل، وينبغي لنا أخذ العبرة لتخطيط جميع مؤسساتِنا وجمعياتِنا ومفكّرينا بجدية من أجل العمل بخطى ثابتة واعية لاستثمار جهود جميع علمائنا في مسار حضارتنا المغربية الضاربةِ جذورُها في التاريخ السحيق والممتدةِ ثمارُها عبر الآفاق. نعلم جيّدا أن هذا الأمر متشعِّب مركَّب، ذو علاقات مباشرة وغير مباشرة بمختلِف العوامل التاريخية والدولية والسياسية والاجتماعية التي أسهمت -داخليا وخارجيا، من قريب ومن بعيد، وبجهلٍ غافلٍ وبمخططاتٍ متعمَّدة- في وضعية إفادة غيرنا من جهود علمائنا ومبدعينا. هذا وبتضافر أجزاء التحليل والتعليل والتنبيه لقضية واحدة من قضايا أمرنا هذا المتشعب المركَّب مما أتساءل بشأنه في هذا المقال المركز، لِينضاف إلى ما سواه من تحليلات لنفس موضوعنا هذا، تتراكم لدينا إيجابيا متعدِّدُ الرؤى متكاملةً متساوقةً لتلمّس حلّ كلّي نهائي أو جزئي متدرّج لقضيتنا، لأن عدم التركيز على أمثال قضايانا هاته يؤجّل اكتمال بنائنا الحضاري وتقدّمنا العلمي بشقّيه المادي والإنساني. وقد ولّى زمن المفكر المبدع الوحيد، ليحلّ محله الإبداع المؤسسي المسهم فيه أكثر من فرد، بل أكثر من تخصص. لذا ينبغي لمؤسساتنا التنبه لآليات العمل المؤسسي الجماعي المتكامل الجهود وظروفه، المحفزة على العطاء والإبداع بأيّ ضرب من ضروب الدفع في هذا الاتجاه وتهييئه وتحفيزه. إذ ما زالت كثير من جهودنا العلمية ينقصها هذا الرابط المباشر لإثارتها وتحفيزها ضمن عمل جماعي موحّد. وإن تحقيق هذا الهدف لعَمري هو محكّ الحضارة الحقيقي في مستوى تأهيل الموارد البشرية الرأسمال اللامادي. إن ما أثارني لتسطير هذا التنبيه العلمي المتواضع هو ما لاحظتُه ممارَسا من تمكيننا من وسائل الاتصال والتواصل الإلكتروني العالمي، في شتى مؤسساتنا، لا نتحكّم في تسييرها وتطويرها وإيقافها وتشغيلها إلا بالقدر الجزئي الذي بَرمَجَه مؤسِّسوها وسمحوا لنا به وفق شروطهم المسطرة سلفا، مع التنبه لما يُثار من احتمال أن حتى رفض المُشترِك لتفعيل بعض شروط الاشتراك التي يخيّرونه بشأن قبولها أو رفضها، يكون شكليا فقط، وحتى لو رفضها ولم يوافق على تمكينهم مثلا من ولوج حسابه في مواضع معينة، فهم يلجون ويطلعون ويتصرفون؛ لأنهم أقدر على برمجة ما يحقق أهدافهم هم، لا أهداف المشتركين والمنخرطين الذين تتحدد صفتهم في أنهم زبناء مستهلكون فقط. لستُ في تنبيهي هذا قاصدا تهويل هذا الأمر لتيئيس القارئ، ولا تهويل أمر غيرنا للإيحاء بأنه أوتي من الذكاء والقوة ما به يحافظ على غلبته وتفوّقه مدى الحياة، لا يقول بهذا عاقل مطلع على مسار حضارات الإنسان منذ بدء الخليقة؛ فالحضارات مُتداوَلة بين الشعوب والأمم بشكل يتفوّق مِن خلالها مَن يصبح أهلا بامتلاكه ناصية العلم والتقدم، وامتلاكه صفات العدل والصلاح الإنساني حتى يكون محبوبا لدى العالمين. فممّا أُديمُ فيه تفكيري -المُولِّد لمختلِف تساؤلاتي العلمية الغيورة على تقدّم بلدي العلمي- توافُرُنا على عدد هائل من المتخصّصين التّقنيين والخبراء والمهندسين والدّكاترة في مجال المعلوميات والبحث الإلكتروني المتخصص، منهم من يطور عجلة التقدم الأجنبي في البلدان الأخرى غير المغرب، ومنهم من يجتهد داخل بلده المغرب مسهما في منتوجه الإيجابي. وهذا في حد ذاته يعدّ قفزة حضارية نوعية لبلدنا المغرب. لكن على رغم توافر هذا العدد الهائل من المتخصصين ما زلنا رهيني شروط تحكّم غيرنا في انخراطنا الإلكتروني عبر العالم: فهل إذا تواصلتُ مثلا -أنا الباحث مع مجموعتي العلمية التي أنسّق معها علميا- عبر بريد إلكتروني أو مؤتمر عن بُعد صوتا وصورة، أو غيرها من الوسائل المتاحة، هل تكون معلوماتنا خاصة بنا؟ أم تكون أيضا مِلكا للمتحكّم في الوسائل الإلكترونية تلك؟ وهل توجد دراسات متخصصة لتقويم الوسائل الإلكترونية وتصنيفها بتحديد درجات الأمن وحفظ المعلومات من الاختراق في كلٍّ منها، ووضع نتائجها رهن إشارة الباحثين في جميع مؤسسات بلدنا المَعنيّة، مع تحديث التقويم المستمر لها بحسب ما استجدّ من وسائل؟ وهل لدى خبرائنا ومتخصّصينا الإلكترونيين علم جازم بأن ما يوصف بأنه خاص بنا وخاضعٌ لكلمة المرور والقنّ السّرّي الذي نمتلكه نحن باختيارنا الحرّ، هل ما نملكه من تحكّم خاص لا يستطيع أيٌّ كان اختراقَه والاطلاعَ عليه ولو كان هو المنتج والمنشئ لتلك الوسيلة الإلكترونية؟ يترتب على هذا ما نحن بصدده الآن من مواجهة الوباء الذي يُسمّى "كورونا فيروس" و"كوفيد 19"، فهل ما وجدناه مُثبَتا في الهواتف من تطبيق مراقبة الأشخاص عبر جوجل، هو رهين بموافقة صاحب الهاتف حتى يأذن في تشغيل التطبيق، أم هو مُشغَّل سواء وافقنا أم لم نوافق؟ وهذا بدوره يولّد تساؤلا هو: مَن منّا في إمكانه واستطاعته دراسةُ مَن يتحكّم في وسائل العالم الإلكترونية، حتى تكونَ نتائجُ دراستِه -في حقيقة اختراقِ الآخر لهواتفنا أو حرية اختيارنا للبرامج والتطبيقات الوافدة علينا من غير استشارتنا- ميدانيةً واقعيةً قطعيةً؟ ونتساءل بشأن مُنظِّرينا حضاريا: هل بإمكاننا أخذ العبرة من شمولية التخطيط للتحكم في عجلة التقدم العلمي العالمي، كما حدث مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، حتى تَوَصَّلَت ما سمِّيَ ب"الدول العظمى" إلى ما نعاني منه نحن اليوم من تبعية رغما عنا مستهلكين غير منتجين؟ وهل باستطاعتنا تفكيك لغز احتكار الآخر لقيادة برامج عالم المعلوميات وتطبيقاته المفروضة على الجميع، للتحكم في طريقة صرف الأموال مثلا عبر العالم، إذ أغلب مستهلكي العالم خاضعون لنوعين عملاقين هما: "Visa - Master card" وهذا على رغم أن الأموال أموال مختلف شعوب الأرض، لكن آلية التعامل المالي الإلكترونية في أبناكنا هي من صنع الآخر، وبِها يتحكّم؟ هل يندرج هذا في تمكين غيرنا من أسرارنا المُمَثَّلة فيما يملكه البلد من سيولة مالية، ولو جزئيا؟ هل نَقدِر -والحال هذه- على إقلاع متجدّد لتحقيق اكتفائنا الذاتي في وسائل تواصلنا المعلوماتي، وَحْدَنا أو تنسيقا مع المستهلكين أمثالنا؟ هل حقّقنا مع مَن لهم نفس الهم والمعاناة الحد الأدنى من تكتل منسجم يسعى لتحقيق استقلاليته واكتفائه الذاتي الإلكتروني؟ بل هل نفكر في مجرد فتح حوار حضاري في هذا الشأن؟ هذه التساؤلات وغيرها كثير هي: من جهة تصبّ في قضية انفتاحنا المؤدي لمواكبتنا للعصر ولإبداعنا المُسهِم في تقدّمه كلٌّ من جهة تخصصه، وإنتاجُ المغاربة عبر العصور شاهدٌ على انخراطهم الإيجابي في مختلِف الحضارات العالمية. وهي من جهة أخرى إسهام في التنبيه على إكمال أوراشنا العلمية والثقافية التنموية التي يطوّر مسارَها مغربُنا في جميع المجالات التخصصية والاتجاهات الجغرافية، وليس لهذه التساؤلات إلا أن تُصنَّف فيما أحسب في خانة الغيرة الوطنية الصادقة، هذه الغيرة التي أنتجت منذ القديم وإلى اليوم منهج الانفتاح والتواصل مع أي تيار وقناعة وافدة علينا، مع الحفاظ على هويتنا وخصوصيتنا التي يؤثثها مشهدنا المغربي المتنوع الثقافات المتعدد القناعات، المحترم لغيره على الإطلاق. وهذا منطلَقٌ أساسٌ ضروريّ لذاك الانفتاح الكوني؛ إذ هو مُتخلِّفٌ مَسُوقٌ لا سائِقٌ مَن لا حضور له باستقلاله الفكري والعلمي والثقافي، المُنشئِ المؤسِّسِ لبنك معلوماته وخزّان أفكاره ومنجم إبداعاته، مما اصطلحتُ عليه هنا ب"المَحضِن الإلكتروني"؛ لأنه سلاح ذو حدّين: حدّ سلبي يقوّي اختراق الآخر لنا ليَسهُل عليه دراسة مكامن قوتنا وإبداعنا، حتى يمهّد أبدا لإبقائنا مستهلكين لمنتوجه ليس غير، وحدّ إيجابي نحفظ به أسرارنا العلمية الخاصة بمنتوج بلدنا وإبداع أبنائه وبناته، ويقوّي اعتمادنا على أنفسنا بتنسيقنا الدولي العالمي المُحترِمةِ فيه مُكوّناتُه بعضها بعضا قولا وفعلا، لتحقيق تكامل قوي فاعل حقيقي. أرجو ألا يكون غيرُنا بعمله الدؤوب وتنسيقه الاقتصادي والعلمي والسياسي -منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية- قد أحكم علينا وجهة الانتظار الدائم لمنتوجه فقط، وأرجو أن نخطط بخطى ثابتة لتهييء محضن البحث العلمي الحضاري للإبقاء على مختلِف عقولنا المبدعة عبر بقاع العالم. فالإبقاء على صبّ منتجاتنا العلمية الإنسانية والمادية في محضن غيرنا الإلكتروني يَرهَنُنا لقرون -لا قدّر الله- في مهوى الاستهلاك غير المنتج ولا الواعي. ولهذا هل يتقدم عِلمُنا بالمَحضِن الإلكتروني لغيرنا !!؟ *أستاذ التعليم العالي جامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس