السياسة ... والحياة( 02 ) السياسة حق ديني إنساني من ألف السياسة إلى تائها يمتد سؤال مسن خفيف على اللسان ثقيل على كاهل الأجيال : "" هل كان للديانات السماوية اهتمام بها كما اهتمت بكل الدنيويات الإنسانية ؟ الإجابة على هذا السؤال الموقوة يحتاج إلى التجرد الروحي والمادي وإلى العقل الرياضي ، وللعلماء الأجلاء الصادقين من كل الديانات الرأي السديد الشافي فيه . لكن – ولكن هنا لابد منها – هذا لا يحد من عمومية وشمولية الرأي وإلا سنعود إلى من حيث انطلقنا ونسلم بما كان وما زال : غالبية البشرية – وحتى لا نقل كلها – تؤمن بعظمة وقوة خالق ومسير الكون وهو الله جل جلاله ، ومن مفردات هذا الكون العظيم الأرض وما حملت ، بطلها الإنسان أوجده الله عليها ليوحده ويعبده أولا وينعم بخيراتها ثانيا ويبدع بعقله ثالثا ، وأحبه ونور بصره وبصيرته حين رزقه عقلا ميزه عن كل المخلوقات ويسر حياته بقوانين فطرية وأخرى منزلة . فالأولى أبدعها عقل الإنسان القديم بعدما اكتسب مبادئها بالفطرة فسنها لنفسه لتكون نهجا لحياته وتوارثتها الأجيال من خلال الاحتكاك والمعاملات من بينها ممارسة السياسة . والثانية شرعها الله عز وجل لعباده ، من خلال أديانه السمحاء ، في كتبه المنزلة على أنبيائه ورسله نشروها بينهم بالنص والممارسة لتكون الإطار العام لحياتهم كما يحبها ويرضاها لهم . فأقرت ودعمت أو قننت أو صححت البعض من الأولى أو حرمت وألغت بعضها الآخر . قد نختلف حول مدى أهمية هذه الديانة أو تلك ومصداقية أو زيف كتبها بحسب قصر علمنا وتفاوة نسبة إلمامنا وفهمنا ، وتردد علماء الأديان الأجلاء في الإجماع أو الإختلاف بين المذاهب الروحية والمادية ، لكننا لم ولن نختلف قيد أنملة حول حب الله للإنسان وتفضيله له على كل الكائنات وحول أهداف رسالاته التي جاء بها أنبياؤه ورسله وهي توحيد كل الناس بتوحيده وتعظيمه وبنشر الحب بينهم ليعيشوا جميعا بعقل واحد وقلب مشترك يحاربون الشيطان مصدر الشرور في كل صوره ويعم الخير كوكب الأرض . وبما أننا مسلمون فتقاليدنا وثقافتنا وقوانيننا البدائية تطورت مع مجييء الإسلام واستمدت شرعيتها من تعاليمه السمحاء على اعتبار أنه دين شامل لكل أمور الحياة . وككل الديانات السماوية فالإسلام منهج إلهي حدد أركانه وثوابته القرآن الكريم والسنة الشريفة ، منهما إستنبطنا قانون حياتنا وطريقة تسيير شؤوننا الفردية والجماعية بموازنة عادلة من بينها رعاية شؤون الأمة أو الشعب بمعناها البدائي والحديث. ولكون السياسة من أصل السائس هي رعاية شؤون الأمة في معناها التقليدي الشامل وفن نبيل بصفتها البدائية فإن الدين الإسلامي لم يختلف عن ذلك في تفسيرها ووصفها بل أقرها ودعمها وشجعها بعدما حدد أخلاقياتها خلافا لما كانت عليه في الجاهلية . فمن الناحية التنصيصية على شرعيتها وردت بخصوصها العديد من الأحاديث النبوية بذات المعنى . فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي خلفه نبي ، وأنه لا نبي بعدي ، وستكون خلفاء فتكثر ، قالوا : فما تأمرنا ؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول ، وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم )) رواه مسلم ، وقال عليه الصلاة والسلام : (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) . من هذين الحديثين الشريفين نستخلص أن السياسة قديمة قدم الإنسان وهي رعاية شؤون الرعية أو الأمة أو الشعب ، فيكون تعريفها المتقدم في - المعنى والصفة - تعريفا شرعيا . وقال صلى الله عليه وسلم : ((من أصبح وهمه غير الله فليس من الله ، ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين فليس منهم )) رواه الحاكم ، وقال عليه الصلاة والسلام : (( ما من عبد يسترعيه الله رعية لم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة )) ، وقال عليه السلام : (( ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنه )) . ومن الناحية التطبيقية فقد كان للممارسة السياسية النبوية الأثر العظيم في نشر الدعوة الإسلامية . فانتشار الدين الإسلامي بشكل ملفت للنظر وقيام الدولة الإسلامية واتساع قاعدتها في وقت قياسي لم يعتمد على القوة العسكرية أو الاقتصادية ، ولا بالتحايل والنفاق وإنما كان بالصدق والوفاء ونبل الأخلاق والإقناع والذكاء والدهاء ، وحسن الرعاية والترويض . وهذه حقائق لا يستطيع أحد نكرانها فهي واضحة وبينة لكل دارس للتاريخ الإسلامي ولا تحتاج لأي مجهود فكري أو مادي . فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مرشدا دينيا وأستاذا علميا ومروضا اجتماعيا وخبيرا اقتصاديا ، وزعيما سياسيا محنكا وقائدا عسكريا : وحده حمل راية الإسلام غريبا ولم يلق ربه إلا بعدما رفعتها ملايين السواعد وقلوبها تخفق باسمه ، إنها السياسة الطبيعية بمعناها الإنساني والفني النبيل التي قامت مع قيام الحياة وتوارثتها الأجيال بالفطرة بشتى المفاهيم . هذه السنن النبوية الشريفة التي تحث المسلمين بالنص والممارسة على الاهتمام بمصالحهم والنصح فيما بينهم وتلزم الحكام وأفراد الرعية أو الشعب بأداء مهامهم السياسية في الحكم والمحاسبة على أحسن وجه كما يحبه الله ويرضاه جعلت من السياسة الإجابية الأصيلة عنصرا من عناصر الشريعة الإسلامية . والدين الإسلامي عقيدة وشريعة لا يمكن فصلهما ، فإذا كنا مسلمين اعتقادا يجب أن نكون مؤمنين شريعة ، بمعنى أن تصبح الشريعة واقعا في حياتنا بما فيها السياسة الإجابية التي تسوي بين كل الناس في الحقوق والواجبات خلال كل مراحل حياتهم وعبر كل العصور . وهكذا يتبين لنا أن الإسلام اعترف بالسياسة الإجابية الأصيلة واهتم بها وأقرها لكونها رعاية وترويض وحد من وحشيتها، وجعلها من السنن المؤكدة في تشريعاته ، وحث المسلمين على ممارستها من خلال الإهتمام بشؤونهم الفردية والجماعية وإسداء النصح لبعضهم البعض ، وأمر الرعاة أو القادة السياسيين برعاية أفراد الأمة أو الشعب وإدارة أمورهم حسب الأحكام الشرعية . نستنتج من كل ما سبق أن الدين الإسلامي لا يتعارض مع السياسة ولا مع الديمقراطية بمعناييهما الصحيحين القديم والحديثر بل كان السباق إلى إقرارهما وتشريعهما . فقد جعل من السياسة السليمة حقا شرعيا - كما هي حق طبيعي – من حقوق كل الناس ، وهذه هي روح الديمقراطية المطلقة ، وحدد أخلاقياتها مثلها مثل كل المعاملات البشرية تقوم على الإخلاص والصدق واحترام حق الغير حتى وإن كان هذا الغير من غير المسلمين ، وحرم عليها المكر والخديعة والنفاق في المعاملات مع الأهل والجيران والأصدقاء وحتى مع الأعداء . وكما تقدم فكل الديانات السماوية مناهج إلهية جاء بها الأنبياء والرسل للإنسانية جمعاء لا يمكن أن تختلف في شموليتها لكل أمور الحياة بما فيها السياسة الإجابية ، وهكذا يتضح لكل من له قلب بشري وعقل سليم أن السياسة الأصيلة التي أبدعها عقل الإنسان القديم وزكتها كل الديانات الإلهية هي ركن أساسي من أركان الحياة النظيفة القائمة على العدالة الإلهية واستمرارها لا أداة دمارها . - محمد المودني . فاس