من واجبنا اليومَ أن نسائل ذواتنا، كفاعلين مؤسسيين، في سياق تقييم المنجزات، عن حصيلة الإصلاح الجامعي، وأن نسلط الضوء عمّا ينبغي فعله من أجل إحداث إقلاع جامعي في خِضَمّ المُناخ العالمي الحالي الذي تطبعه الدعوة المتزايدة إلى إعادة الاعتبار لدور البحث العلمي في مواجهة الجائحة التي تضرب العالم في الوقت الراهن؛ وذلك في أفق اقتراح مشروع وطني كبير، متعدد الشركاء والمتدخلين، يلبّي انتظارات المغاربة، أفرادا ومؤسسات، ويستجيب لاحتياجات البلد الاجتماعية والاقتصادية والروحية والثقافية... إن وضعنا الجامعي لا يسير بالسرعة المطلوبة، والمؤشرات التي تدل على ذلك كثيرة، نذكر من بينها استقرار نسب البطالة في معدلات مرتفعة، وعدم امتلاك المؤسسات الجامعية المغربية التنافسيةَ المطلوبة، وغيرها من المؤشرات التي تدعونا إلى تسريع الخطى، وتكثيف المجهودات، حتى يتسنى لنا وضع القاطرة الجامعية على سكتها الصحيحة. إنّ حديثنا عن هذه المؤشرات يدفعنا إلى مساءلة أدوار الجامعة المغربية، ومناقشة مسؤولياتها، كما يحثنا على التفكير، بِرَوِيّةٍ، في السبل الكفيلة بتعزيز إسهامها في تدبير الاحتياجات السوسيو اقتصادية لجهات الوطن وأقاليمه. فهل تساهم الجامعة فعلا في هذا الإطار؟ وما هو مقدار مساهمتها بالنظر إلى ما يتوفر لها من بنيات وعتاد وميزانيات وطواقم؟... ليس مُتَيَسّرا تقديم الجواب النهائي الدقيق عن هذين السؤالين في هذا المقال المقتضب، ولكن يُمكن أن نقول إن التجارب الإنسانية علّمتنا ألاّ نهضة، ولا تنمية، دونَ جامعة قوية مُبادِرة، وذات جاذبية. ولهذا السبب، لا نرى فائدة في مناقشة سؤال الحاجة! بل نستعيض عنه، من باب أوْلى، بمناقشة سؤال السبل والطرائق، وتركيز الجهد على صياغة سياسات بحثية وجامعية، ذات نَفَسٍ تنموي، ومحتوى استشرافي، يضعان المشاريع الجامعية في قلب انشغالات المواطنين وهمومهم، ويقدّمان الحلول العملية الناجعة للمشاكل المجتمعية، سواء الأمنية أو الصحية أو الروحية أو غيرها. والحقيقة أن الوضع الجامعي المغربي أكبر من أن يحصر في جانب أو مستوى دون غيره؛ أي في بنية مستقلة من بنيات التدبير المركبة. واقع الجامعة المغربية يتجاوز ذلك بكل تأكيد، والدليل على ذلك فشل عدد كبير من مشاريع الإصلاح التي بُوشرت إلى حدّ الآن، والتي راهنت وركزت جهدها على قطب واحد من أقطاب التدبير القطاعي (مناهج، هندسة بيداغوجية، حوامل، عروض تكوينية، مخرجات، عرض جامعي، مشاريع بحثية...)، متذرعة، دون أن تعلن ذلك، بمُسوّغ صعوبة مباشرة مشروع إصلاحي شمولي كبير؛ بالنظر إلى الإمكانات المالية واللوجِستيكية والبشرية المرصودة والمتاحة للقطاع، في ظل الشروط الاقتصادية التي أمسكت، وما تزال، بخناق البلد منذ الاستقلال إلى اليوم. إنّ هذه الورقة تنطلق من رؤية متعددة الزوايا، تتأسس على منطق أولويات ذات طابع عَرَضاني يُمْسِك بعضها برقاب بعض، وتراهن على إمكانية تحقيق النجاحات الصغيرة، إن محليا أو وطنيا. وبذلك، فهي مساهمة ذات نفَس اقتراحي، تتضمن عمليات وتدابير عملية يمكن مباشرتها بعد الجائحة، في استقلالٍ وبمعزلٍ عما يمكن اقتراحه من مشاريع قطاعية تمس جوانب أخرى. يجدر بنا أن نقول، بداية، إن بمقدور الجامعة المغربية أن ترفع التحدي في مواجهة العقبات، في مقابل ما تنجزه وتراكمه من عروض ومساهمات علمية وبحثية وأشكال تعاون، وذلك شريطة القطع مع الطرق التقليدية في تسويق هذه المنجزات، والانفتاح على جديد علوم الإعلام والتدبير والتواصل، والتفكير في آليات اقتصادية بديلة لخلق صناعة بحثية عابرة للمجال القُطري والإقليمي، وهذا مطلب يمكن تحقيقه بالنظر إلى الكفاءات العلمية التي تزخر بها الجامعة المغربية في شتى مناحي المعرفة الإنسانية. إن إنتاجا علميا، أو نشاطا بحثيا، يبقيان حبيسَيْ أسوار الجامعة لا يضيفان إلى المؤسسة، ولا إلى المحيط، أي قيمة أو فائدة تُذكر. لذا، فإن مسألة التسويق الإعلامي والتجاري ليست فعلا تكميليا، ذا غاية إشهارية فحسب، بل هي مسألة ضرورية يتوقف عليها فعلُ النهوض بالجامعة، ووضعها في قلب النشاط التنموي؛ بحيث تبادر إلى تثمين منتَجها المعرفي وعرضه، على نحو ذي جاذبية، ضمن سوق المعرفة العالمي، مع تمكينه من صفة التنافسية اللازمة. أما رهان الإقلاع الجامعي الشامل، فلن يتحقق ما لم يتم اعتماد شرط الحكامة؛ إذ يصعب إنجاح أي مشروع لتطوير أداء هذه المؤسسات في ظل صيغة التدبير الإداري المعتمدة، راهنا، في كثير من الجامعات المغربية. وهكذا، فإن أول ما ينبغي الإكْبابُ عليه، من قبل المسؤولين عن القطاع، هو تطوير هندسة السُّلط، ودمقرطة البنيات والهياكل المسؤولة عن استصدار القرارات؛ إذ أصبحت المساطر والبنيات القائمة عائقا حقيقيا أمام أي إقلاع منشود. وهكذا، تتدخل الحسابات والولاءات السياسية والحزبية، ويَشيع العمل بموجب الإكراميات والإخوانيات المتبادَلة، وتنتصر المصالح الفردية على مصلحة المؤسسات والعموم. وينبثق عن ذلك وجوب تطوير آليات التقييم والمحاسبة، وترتيب الحوافز والجزاءات؛ إذ لا يبدو مناسبا الإبقاء على الوضع القائم، الذي يشجع على خلق أحلاف وجماعات مصالح يتوزع أعضاؤها عبر مصالح ومراكز تدبير مختلفة، تعْمِد كثيرا إلى وضع العراقيل أمام صيغ الافتحاص، ومواجهة كل المبادرات والمشاريع الجديدة؛ حرصا منها على استدامة مصالحها. ويجب القطع، أيضاً، مع ظاهرة شيوع منطق التواكل في الجسد الجامعي برمته، الذي يتمظهر في شكل غياب المبادرة، ونضوب الخيال، وضعف التواصل. ويتعيّن - بالمقابل - استبدال هذه النقائص بقيم إيجابية ترفع من مكانة الفكر التدبيري الخلاّق، الذي ينطلق من أدبيات التحفيز والتعاقد والتشارك، وهذه ليست مجرد عبارات إنشائية، هزيلة المحتوى العملي، بل أدبيات رائجة على مستوى التدبير الإداري تلجأ إليها كبريات المؤسسات الجامعية العالمية. وينبغي، كذلك، الشروع، بغير تردّد، في تفعيل كل المبادرات التي من شأنها ملامسة المعضلات الكبرى التي تمس المؤسسة الجامعية، والتي تَحُول دون إسهامها في تحريك عجلة التنمية الشاملة بجهات المغرب. ومن هنا، نقترح القيام، على نحو متزامن، بتفعيل الآتي: تجديد صيغ الهندسة البيداغوجية الصارمة القائمة حاليا، حتى تنسجم مع المتطلبات المهنية لسوق الشغل، وحتى تضمن تكوين مخرجات كُفؤة قوية، قوامها المهارات والكفايات العملية. تحفيز الجامعات، ودعوتها إلى الانفتاح على الفعاليات المؤسسية المختلفة، عوض الانكفاء على المصالح البَيْجامعية، وهو ما سيسمح بتطوير طلبات تقديم الخدمات البحثية للقطاعات الحية والمنتجة، كما سيرفع من هامش الحريات الأكاديمية... هي مقترحات متعددة المداخل تراعي المتاح التنموي للبلد، وتحتاج إيمانا صادقا بالقدرة على إحداث الأثر، وحرصا على مقاومة الإخفاق، الذي أصبح ممسكا بالنفوس؛ بسبب تراكم الخيبات، الناتجة عن فشل مشاريع الإصلاح المتعاقبة. *جامعة محمد الأول وجدة